الفصل السابع عشر
بعد أن أنهيا طعامهما .. غادرا سويا .. كانت تحتضنه طول الطريق .. وهو ما أسعد هذه اللحظات عليه .. حبيبته بين يديه .. وصلا لمنزله .. وقبل أن تذهب لغرفتها .. إستوقفها قائلا ..
" لُقى "
كانت في طريقها للغرفة استدارت لتنظر له وهمست ..
" نعم "
" تعالي "
أمرها .. لتنصاع لأمره .. وتذهب لمكان وقوفه .. وصلت إليه .. ووقفت أمامه في انتظار حديثه .. فتكلم قائلا ..
" لم أرد أن نبدأ حياتنا سويا وأنتِ لست أنتِ .. لذلك سعيت لهذه الورقة كرد حق لكِ قبل أن يكون لي .. أحببت لُقى .. وسأتزوج لُقى .. "
سكت لحظة ينظر لها .. وختم كلماته قائلا ..
" وليس ليلى "
ابتسمت بتوتر وخجل من الاسم الذي نطقه .. وحين لاحظ هذا .. أكمل يوضح ..
" أردت أن نبدأ من وقت فراقنا في الماضي وليس وقت عودتنا .. وكم شعرت اليوم بالامتنان لأبي لأنه لم يُغير إسمي وقرنه بإسمه كما أخبرني .. أردت أن نبدأ كعابد ولُقى "
اقتربت أكثر منه .. حتى أصبح لا يفصلهما شيئا .. وضعت كفيها على صدره .. وهمست ..
" ما فعلته من أجلي اليوم لن أنساه أبدا .. اليوم شعرت وكأني عدت الفتاة الصغيرة التي تحميها .. التي تشعر بالأمان من مجرد وجودك ورؤية عينيها لكَ .. اليوم فقط شعرت بأن جزء مني عاد لي "
سكتت لحظة .. ترفع رأسها .. ومالت جانبا تلمس خده بشفتيها .. هامسة ..
" شكرا لكَ عابد "
وطبعت قبلة بطيئة على خده .. وابتعدت عنه ذاهبة لغرفتها تحت نظراته التي تكاد تأكلها .. وتابعها بعينيه بنار داخله تحرقه شوقا لها ... ولذلك كان عازم الأمر أن يتم زواجه منها بأقرب وقت .. فهذا الوضع غير مريح بالمرة ... وقبل أن تدلف لغرفتها .. استوقفها قائلا ..
" بعد يومين سترين حسن .. فاستعدي "********
جاء اليوم الموعود .. وذهب حسن وياسمين الى نادي رياضي .. كان قد اتفق مع أمه أن تأتي الى هنا .. وأخبرها أن يذهب ليأخذها ولكنها فضلت أن تذهب بالسائق .. وخاصة لتنفيذ ما تريده من عابد حسب اتفاقهما ..
أما حسن .. فهاتف عابد وأخبره أنه سيذهب قبل الموعد بساعة لتتعرف أمه على ياسمين .. وقد كان ..ذهب حسن وياسمين على الموعد المحدد .. وجلسا سويا في انتظار والدة حسن .. أمسك حسن يد ياسمين التي يظهر توترها بوضوح .. وهتف مطمئنا ..
" إهدأي ياسمين .. ليس هناك داعي لتوترك هذا "
نظرت له ياسمين ولم تتحدث .. فأكمل حسن يحتوي يدها الأخرى ..
" يا الهي ياسمين .. وجهك شاحب للغاية .. رجاء الموضوع كله بسيط .. ومحتوم من الأساس "
أغمضت عينيها بتوتر .. وهتفت
" مهما يكن يا حسن .. أنا خائفة من رأيها بي "
اقترب منها بجذعه وهتف بعبث ..
" قبليني وأخبرك أنا برأيها بكِ قبل رؤيتك "
رفعت نظرها للسماء بفراغ صبر .. وهتفت تنظر اليه تجز على أسنانها ..
" وقح وليس هناك فائدة منك .. "
ابتسم لها .. هو قصد هذا حتى تتخلى قليلا عن توترها .. فأكمل ما بدأه ..
" لو قبلتيني ستجديني ذا فائدة .. فقط افعلي ذلك "
" تهذب أيها الوقح .. أنت بمكان عام "
كان هذا الصوت يأتي من ورائه .. ولم يكن سوى من أمه التي كانت تظهر بملابس تنم عن رقيها .. ونظارة سوداء تغطي عينيها .. بإحدى يديها عصا فضية طويلة .. ويمسكها من مرفق ذراعها الآخر السائق الخاص بها .. يوجهها لمكان جلوس حسن ..
وقف حسن يستقبل والدته بإبتسامة فرحة وسعادة لرؤيتها بعيدا عن المنزل الذي لطالما كرهه .. فتح ذراعيه .. يستقبلها بضمة اشتاق لها كثيرا دون أن يغضبه وجود أحدا آخر ..
ضمته والدته .. وبعد أن قبلته على خده همست بجوار أذنه ..
" ليتني أستطيع رؤيتها حبيبي .. ولكني تأكدت أنها جميلة من نبرة صوتك هذه "
قبل حسن أمه .. وأمسك يدها بعد أن أمر السائق بالانصراف .. وصلا للطاولة .. كانت ياسمين تتابعهما بعينيها ... وتتابع وصولهما للطاولة .. تحركت هي .. وأقبلت تستلم يد والدته .. وقالت بترحيب ..
" أهلا سيدتي .. تشرفت بمعرفتك .. "
ابتسمت والدته بسعادة .. ورفعت إحدى يديها باتجاه وجه ياسمين .. حطت بيدها على جانب وجهها بتودد .. وكان حسن يقف يراقب ما يحدث تاركاً لهما المساحة الكافية للانطباع الأول .. التفت لأمه عندما همست ..
" بالتأكيد أنتِ جميلة حبيبتي كما وصفك لي حسن "
ابتسمت ياسمين بحرج .. وهتفت بتهذيب ..
" العفو سيدتي .. بالتأكيد حسن يبالغ قليلا "
كادت أن تتحدث والدته ولكنه قاطعها قائلا بصدمة مصطنعة ..
" أبالغ ؟! يا الهي يا أمي .. أسمعتِ ما قالته ؟! "
سكت ينظر لياسمين .. وأكمل بعبث ..
" كيف أبالغ وأنا أتمنى أن أقبلك في كل وقت أراكِ به وبأي مكان "
والضربة كانت من يد والدته التي هتفت بتوبيخ ..
" إخرس يا حسن وكف عن قلة حياءك .. وأنتِ "
وجهت آخر كلماتها لياسمين .. وأكملت ..
" لا تناديني سيدتي .. ناديني أمي كما يناديني حسن "
ابتسمت ياسمين باتساع .. وقالت ..
" حسنا أمي.. "
لوى حسن شفتيه بعدم رضا .. وتذمر حسن بطفولية وهتف مقلدا ياسمين وأمه ..
" حسنا أمي .. كف عن قلة حياءك يا حسن .. سأكف سأكف إن تزوجتها "
سكت يبسم باتساع وهو يوجها كلامه للتي تكاد تشتعل خجلا وأكمل ..
" ووقتها أستطيع أن أقبلها وقتما أريد "
وأكمل غامزا بإحدى عينيه ..
" وأشياء أخرى بالطبع "
استطاع حسن بأسلوبه المرح .. الوقح .. الترويح من الجلسة وإبعاد التوتر شيئا فشيئا .. حتى أصبحت الجلسة مجرد تجمع ودي .." عائلي " ..
كما تخيل حسن وتمنى ..
******
في السيارة كان يجلس خلف المقود .. وبجواره تجلس لُقى بتوتر ظاهر للأعمى .. وكان يدركه عابد ولكنه تجاهل الأمر .. عليها أن تعتاد الخروج والظهور ً لن تُسجن بين أربع حيطان .. ليست هذه الحياة التي تمناها معها ولها ..
كانت تهز ساقها بعصبية .. وكأن توترها أصابه وخاصة حالة الترقب لما سيحدث وكيف ستتعاطى مع الموقف.. هتف بأمر ..
" لولو .. كفي عن هز ساقك .. لقد أصابني التوتر "
نظرت له بحدة وعينيها تضيق .. وتجز على أسنانها .. للحظة ظنها أنها ستركله من السيارة .. ولكنها لم تتحدث حتى .. أدارت وجهها مرة أخرى تنظر للأمام ... ظلت صامتة لدقائق .. حتى هتفت بهمس خافت..
" أنا خائفة "
همستها بهذه النبرة أرعبته .. جعلته يقف بالسيارة على جانب الطريق .. التفت لها بكامل جذعه العلوي .. مد يديه واحتوى كفيها .. وهتف بحنو ..
" ماذا هناك لولو .. أليس هذا حسن من أوجعتِ رأسي لرؤيته !! "
أدمعت عينيها .. وأخفضتهما تخفي خوفها وضعفها ..
" خائفة عابد .. خائفة أن لا يتذكرني .. أو لا يتقبل عودتي لحياتكم .. وخاصة أنه على وشك بداية حياة جديدة كما أخبرتني .. "
أحاط جانب وجهها ونظرت له تنتظر كلامه الذي بالتأكيد سيكون المطيب لخوفها ..
" اهدأي لولو .. حياته الجديدة لم تبدأ بعد .. فلا تستبقي الأحداث .. وتمتعي بوجود ثلاثتنا معا بعد كل هذه السنين "
سكت لحظة .. وأكمل بحنو أكثر ..
" وثم أليس وجودي معك يُسعدك ؟! .. ها أنا معك .. ولن أتركك لحظة .. وصدقيني لولو .. حتى حسن سيجن لرؤيتك "
خائفة أن يكون على علم بما لاقته .. سواء في صغرها .. أو عندما عملت في ملهى .. هل سيتقبل وجودها إن علم .. أم سيفرح بعودتها قليلا وبعدها يتهرب منها ومن عودتها ..
كل هذا كان يشغلها .. وكأنها مقبلة على اختبار مهم ..
ابتسمت بارتعاش للناظر لها .. ولم تتحدث .. اكتفت بصراخ قلبها وعقلها .. وألجمت لسانها على السكوت .. وأرغمت شفتاها على الابتسام .. وكأن ابتسامتها كانت الاشارة لعابد ليتحرك إلى وجهته ..
*******
قاد عابد سيارته .. ووصل بعد دقائق .. هاتف حسن وأخبره بوصولهما .. وطلب منه أن يستقبلهما بمفرده قبل أن تتقابل لُقى مع البقية ..
دخل عابد من باب النادي .. وكانت صغيرته تتشبث به كالطفل الذي يختبئ وراء أمه .. .. ولم يفت سوى ثواني حتى وجد حسن أمامه يقف بتوتر وترقب وسعادة لم يشعر بها قبلا .. كان يقف بعد مهاتفة عابد في المدخل الرئيس لساحة الدخول للنادي .. لا يصدق أنها دقائق ويراها .. علاقته بلُقى وعابد .. ليست علاقة طبيعية .. ليس كعلاقة أخوة مثلا .. أو أصدقاء .. لا .. علاقتهم ببعضهم كانت كالسند .. احساس بوجود قطعة منك في مكان ما .. احساس بوجود الراحة والأمان .. احساس بالحقيقة التي تشاركوها في يوم ما .. حقيقة عدم وجود أهل .. حقيقة أن الدنيا بخلت عليهم في صغرهم بوجود الأمان والأهل والحنان الذي يتمثل في وجود العائلة .. فجمعهم القدر تحت حاجتهم هذه .. فأصبح كل منهم عائلة للآخر بكل ما تشمله الكلمة من معنى ..
وما هي سوى لحظات حتى أطل عابد .. ممسك بيد لولو وبيدها الأخرى كانت تتشبث بذراعه .. تحرك حسن خطوة باتجاههم بعد أن توقف عابد مكانه .. وعينيه مسلطة على من بجوار عابد وتوتر ملامحها يفضحها ..
اقترب حسن أكثر وأكثر حتى أصبح يقف أمامهما .. ودقات قلبه تكاد يسمعها الواقف أمامه .. كان حسن ينظر اليها بشوق لم يسيطر عليه .. وأسف غمر إحساسه لكونه قصّر معها وإن لم يكن يقصد ذلك _ رغم عدم علم حسن بما حدث معها في الملجأ _ لقد حمّل نفسه التقصير في حقها واضطرارها للهروب على عدم اللجوء إليه .. لم يكن سند كافي لها حتى تلجأ إليه .. ومن هنا اعتبر حسن نفسه خائن للأمانة .. وعاش سنواته بعدها يشعر بالذنب .. وتعاظم الذنب أكثر برجوع عابد ومحاولاته المستميتة للبحث على ثالثتهما ..
همس اسمها مأخوذا بعد أن انبهر بمن تقف أمامه ..
" لُقى .. "
تحركت عيناها عليه .. لم يتغير .. مازال وسيما كما كان .. أخيها وصديقها .. سندها بعد عابد .. حتى عندما قررت الهروب قديما .. هربت حتى لا تخسره .. وحتى لا يخسر نفسه إذا علم ما كان يحدث معها ..
تحركت خطوة للأمام تنظر إليه بشوق ظهر جليا بعينيها .. ملامحها رغم سعادتها الداخلية .. الا أنها كانت متألمة .. هل حقا عاد جميعهم لكنف بعضهم البعض ؟!! .. تساءلت غير مصدقة لما يحدث ..
ابتسم لها بتشجيع مهزوز .. وكأنه خائف أن تبدر عنه شيء يخيفها ..
ولكنها أذهلتهما حين بادرت هي .. وارتمت متعلقة بعنقه .. شاهقة ببكاء مرير .. بكاء ماضي .. بكاء احتياج .. بكاء يُتم .. بكاء وصمها بعار عملها .. بكاء أنها لا تناسب مكانتهما الآن ..
كان عابد يراقب الموقف بقلب مفطور على صغيريه .. حتى أحرقته عيناه .. ولكنه تماسك .. واقترب منهما واحتواهما بكلتا ذراعيه وكأن موقف وداعهما في الماضي يتكرر ولكن بـالـ" لُقى "..
شعرت به لُقى .. فهمست تضم نفسها إليهما أكثر ..
" اشتقت لك يا حسن .. اشتقت لكليكما .. "
******
جلس الجميع بسعادة كانت تظللهم .. بعد أن سلمت لُقى على الجميع .. ورحبت بياسمين _ حبيبة حسن _ وأمه كما يرغب بمناداتها .. وابتسمت بطفولية عندما طلبت السيدة الراقية من الفتاتين ..
" لُقى حبيبتي .. لقد طلبت من ياسمين أن تناديني أمي .. ما رأيك أن تناديني أنتِ الأخرى .. فأنا مشتاقة لسماعها من فاتنات مثلكن "
ابتسمت بسعادة .. فهي الأخرى مشتاقة .. لم تنطق " أمي " من قبل .. وافقت بإبتسامة .. وجلست تراقب الجميع .. جلسة كل أطرافها افتقد السعادة لفترات طويلة .. كان الجميع يتفاعل بضحك وبهجة ..
حتى جاء الوقت لمغادرة والدة حسن .. فاستقام ليوصلها لسيارتها .. فأوقفته قائلة ..
" ابقى أنت حبيبي مع خطيبتك ولُقى .. فبالتأكيد أنت مشتاق لها .. وسيوصلني عابد للسيارة .. هيا عابد .. "
فهم عابد اشارتها .. فاستقام من مكانه ممسكا بيد السيدة .. وغادر بها .. بعد أن مال لأذن حبيبته ..
" لن أتأخر "
ابتسمت له وأومأت .. وعادت بنظرها لزوج عصافير الحب كما أطلقت عليهما بداخلها .. فحسن لم يتوانى عن إحراج ياسمين .. ومشاكستها بوقاحة .. كانت لُقى تنظر لياسمين بتمعن .. فتاة جميلة بملابس بسيطة رغم هندامها الملحوظ .. " متعلمة " وضعت تحت هذه الصفة الكثير من الخطوط الحمراء .. كانت نظرات حسن تفيض فخرا بها وبعشقه لها .. تعلم أن عابد يحبها .. ولكن هل يفتخر بها .. وهل ستكون هي موضع للفخر الحقيقي إذا اكتشف الناس من حوله حقيقتها .. ظلت تصارع نفسها وهي تراقبهما أمامها يمزحان ويشاركها حسن بمزاحاته وهي تتجاوب ظاهريا .. وكل ما يشغل عقلها شيء واحد
" هل تليق حقا بـ عابد "
غير واعية لإجابة هذا السؤال والتي ستدفع ثمنه غاليا ..
********
على مسافة كافية من جلستهم متواريين عن أنظارهم .. حتى لا يعلم حسن شيء .. كان عابد يقف بجوار السيدة التي أوقفها بعد أخبرها بأنهما أصبحا متواريان عن أعين حسن إذا إلتفت لاتجاههما .. همست له ..
" عابد .. سامحني لأني لجأت إليك أنت ولم أخبر حسن .. "
سكتت قليلا وأكملت بخوف حقيقي على ابن ليس وليدها ..
" خائفة على حسن إذا علم ما يحدث لن يتوانى عن قتله ووقتها سأخسره .. وبخسارته سأخسر معنى الحياة يا عابد .. أرجوك سامحني بني "
أمسك عابد يديها بود حقيقي يكنه لهذه السيدة .. وهمس بمواساة واطمئنان ..
" ليس هناك ما أسامحك عليه سيدتي .. أنا أيضا خائف على حسن وليس لدي أي استعداد لخسارته .. ولذلك اطمئني .. سأقوم بواجبي تجاه هذا الأمر ."
. وعند هذا الوعد المنطوق أخرجت السيدة أوراق مهمة من حقيبتها وأعطتها لعابد الذي تناولها منها برحابة صدر .. واعدا إياها بانتهاء هذه المشكلة في أقرب وقت ممكن ..
أخذ عابد الاوراق وقام بتوصيل السيدة لسيارتها واطمأن عليها .. وخطى لسيارته .. وقام بوضع الورق بتستر حتى لا يكون عُرضة لرؤية أحد ..
********
أنت تقرأ
تراتيل الماضي.. ج١ سلسلة والعمر يحكي.. بقلمي راندا عادل..
Romanceرواية اجتماعية.. رومانسية..