الفصل السابع
في إحدى الأحياء الراقية .. وتحت إحدى العمائر التي تتسم بالجمال الراقي وإتقان التخطيط .. كانت تقف سيارة فاخرة سوداء اللون ...وتترجل منها فتاة في هيئة امرأة .. ترتدي فستان أحمر لامع يلتف حول جسدها بإغواء وفتنة ..ويعلو كتفيها فراء أسود .. فاتنة .. آسرة .. وكأنها خُلقت لهذه الفتنة .. فستانها ينافس شعرها الطويل في لونه .. كان يصاحبها أحد رجال أمن الملهى .. .. دخلا من البوابة الخارجية للمبنى .. مرورا بالحراسة الأمنية والذين كان لديهم تنبيه من قبل أن يدعهم يصعدان ..
بعد دقيقتين بداخل المصعد .. كانا أمام باب لإحدى الشقق يظهر عليه الفخامة ..
كان عابد يذهب ويجيء بداخل الشقة ..وكأنه على صفيح ساخن .. لا يصدق أن ثواني ..دقائق بالأكثر ويراها .. ترى هل ستتعرف إليه ..
كيف سيتحدث معها .. كيف سينظر إليها من الأساس ..قلبه يكاد يخرج من مكانه من شدة توتره وترقبه .. انتفض على صوت يدوي لجرس الباب .. تحرك مسرعا وقبل أن يفتح .. مسد صدره .. ومكان قلبه .. يحاول تهدئة نفسه .. فتح الباب ..وكانت لا تعطيه وجهها .. لا تنظر تجاهه ...كانت تنظر للحارس بجانبها.. وعندنا فتح الباب .. إلتفتت برأسها إليه .. وشعرها إلتفت معها بثورة نارية تشبه ثورة قلبه .. لحظة من الزمن .. توقف فيها عندما إلتقت العيون .. عندما تحدثت بما تخفيه من لهفة .. ظن بتحديقها فيه أنها تعرفت اليه ... ولكن نظراتها التائهة ..والزائغة ..أثبتت له عكس هذا .. وكأنها عادت فتاة الملجأ الخائفة .. الجائعة .. المنتظرة لطعامه ..
انتفضت على هزة من يد الحارس الذي كان يمسك بمرفقها .. قائلا ..
" لولا .. سأنتظرك بالأسفل .. لأوصلك عندما تنتهي "
نظرت للحارس وكأنها لا تعرف عن ماذا يتحدث .. لم تسمع ما قال من الأساس ..وهمت لتسأله ..ولكنها إلتفتت للذي تحدث بالنيابة عنها ..
تحدث عابد بنبرة صارمة خشنة نتيجة غضبه الذي تصاعد بداخلة نتيجة
رؤيته ليد الحارس الملتفة حول ساعدها براحة ..وكأنها معتادة على هذا ..
" غادر أنت .. وعندما ننتهي سأوصلها بنفسي .. لا داعي لانتظارك .. "
نظرة واحدة من عابد للحارس ..كانت كفيلة بأن تجعل الأخير ينفذ الكلام بكل تفاصيله ..
لحظات .. وكان عابد يفسح لها المجال لتمر من أمامه .. دقات قلبه تعلو وتعلو .. أما هي فكانت خائفة .. لأول مرة تكون خائفة منذ سنوات .. تشعر بالرهبة .. ولا تدرك ماذا حث لها عندما إلتفتت ونظرت في عينيه .. هناك شيء غريب به .. لا تعلم لما لا تشعر بقدميها .. وسيم هو لا تنكر .. وسامته برية .. خشنة .. يرتدي حلة رسمية وكأن استقبالها حدث بحد ذاته .. ليست المرة الأولى التي تقابل فيها رجال وسيمين .. ولكن هو .. هو ليس كأحد .. تشع منه الهيبة وفرض الشخصية وكأن لا أحد يضاهيه .. بلعت ريقها بتوتر .. ولا تعلم كيف ستسير الليلة وهي هنا ببيته .. أحكمت الفراء حول كتفيها ..علّها تزيح شعورها هذا .. ولكن مخططها تم هدمه ..وأصبح مجرد أمنية .. عندما شعرت به يقف وراءها ..وبأطراف أصابعه تمسك حافتي الفراء من أعلى كتفيها ..في إشارة منه لجعلها تتركه ليأخذه ويعلقه ...
" اسمحي لي .. "
بلعت ريقها بصعوبة ..إذا كان النظر لعينيه صدمة .. فذبذبات صوته القريب الصدمة الأكبر .. زفرت أنفاسها بصعوبة .. وفكت أصابعها المتشبثة بالفراء .. فتسمح له بسحبه عن كتفيها اللذان ظهرا بسخاء أضناه ألماً .. قبضة من الوجع تلكمه في معدته .. فغيره بالتأكيد رآها هكذا .. أخذ الفراء ووضعه بمكانه المخصص .. تحرك ليقف مقابلا لها ..يريد أن يراها عن قرب .. أن يحفر ملامحها بين جفون عينيه .. أن يقارنها مع صورتها القديمة .. يكاد يخطفها ويذرعها بين ذراعيه علّ شوقه وذنبه تجاهها ينمحي .. أما هي فكانت تحت تأثير نظراته التي تشعرها وكأنها عارية .. ليس عري جسد فقط .. وانما عُري للروح أيضا .. لا تعلم ما سر هذا الشخص .. وما به يجعلها لا تقوى عن إبعاد عينيها من أسر عينيه .. هتف ليتخلص من هذا التحجر في قدميه .. ويُلهي قلبه عن مطالبه العجيبة .. والتي بدأت تؤرقه ..
" ما رأيك بتناول العشاء قبلا ..؟! "
تحركت معه مجاراةً لحركاته .. وهتفت أثناء تحركها ..
" وهل هناك ما سنفعله غير العشاء ؟! "
أدرك عابد ما تقصده .. فلم يملك إلا أن يبتسم برزانة .. وقال ..
" على الأقل نتحدث "
فابتسمت بارتعاش لا تعلم سببه ..
*******
أما عند حسن فغادر مقر الشركة .. لا يعلم ما به عابد .. منذ يومين وهو غير طبيعي .. طوال الوقت مشتت .. وكأن هناك ما يشغله .. هذا غير ما يحدث معه .. ومع قلبه .. قلبه الذي وقع أسيرا لساحرة ..غبية وقزمة جميلة .. نعم غبية ... غبية لأنها وقعت في طريقه .. والمشكلة الأكبر أنه ممتن لوقوعها بطريقه .. وصل للبيت الذي كره كل تفصيلة به .. كان عبارة عن فيلا ضخمة .. مكونة من ثلاث طوابق .. التكلف في الفخامة يظهر جليّ بكل شيء بها .. يحفظ بها كل شبر .. وكم أخذت منه مجهوداً لتنظيفها وكأنه الخادم الوحيد هنا .. وإن تذمّر .. يلاقي العقاب بلسعة حزام على ظهره .. نفض رأسه من ذكرياته البائسة هذه .. ووقف بسيارته أمام الباب الداخلي للفيلا .. نزل .. وأخرج مفتاحه ..ودخل باحثا عن شخص بعينه .. ولكن أوقفه صوت لا يحب سماعه أبدا ..
" ما الذي أتى بك لهنا ؟! "
إلتفت لينظر بغضب للذي تحدث وقال ببرود ظاهري ..
" أين أمي ؟! "
ضحك الرجل مقهقها .. ممسكاً بإحدى يديه سيجار فاخر .. وباليد الأخرى كأس من الخمر .. وهتف ببشاعة ..
" لقد كذبنا الكذبة وصدقتها يا حقير .. أمك .. أمك من أين وهي لا تلد .. كيف أمك وأنت ابن شوارع .. "
اقترب منه حسن بخطورة.. لو عليه لخنقه بيده .. ألم يكفيه ما لقياه هو وأمه على يد هذا الرجل ..
وقف ينظر للرجل بقوة غاضبة تكاد تسحقه وهتف من بين أسنانه مشددا على حروفه ..
" أين .. أمممي ؟!!! "
ابتسم الرجل بشر .. وأجاب بسواد يشبه سواد قلبه ..
" تقصد العمياء .. بغرفتها بالأعلى "
اقترب منه حسن أكثر بفراغ صبر وأمسكه من تلابيب قميصه .. وهتف مقربا وجهه من وجه الآخر أمامه .. وهتف بشر ..
" لولا التي بالأعلى .. والتي أنت السبب في عماها بالمناسبة .. هي من تمنعني عنك للعلم .. فإحذر الاساءة لها بأي شكل .. حتى لا تكون نهايتك على يدي "
ونفض حسن يده عن الذي تسمّر مكانه مصدوماً من هذا الهجوم ..
*********
بالأعلى كان حسن يقف أمام غرفتها يحاول كتم غضبه حتى لا تشعر به .. طرق على باب غرفتها بأصابعه بوقع موسيقي حتي تعرفه التي بالداخل .. لا يعلم أنها تعلم بقدومه قبل أن يدخل من باب البيت ..
فتح الباب ودخل بابتسامته .. ومرحه المعتاد ..
" كيف هي عروستي الجميلة ؟! "
ابتسمت الجالسة بجوار النافذة .. ومدت يدها له .. هاتفة بسعادة ..
" حسن .. تعالى حبيبي "
دخل حسن ..ووصل إليها .. مال لرأسها يقبلها بمحبة.. وأمسك يدها التي كانت ممدودة له .. وقبلها .. وجلس راكعا أمامها .. أما هي فبيدها الحرة كانت تمسد جانب وجهه بتودد وتحبب نابع من أمومتها تجاهه ..
" كيف حالك بني ؟! "
رفع حسن يده وأمسك كفها الذي على وجهه وقبّل باطنه .. وهتف ..
" بخير يا جميلتي .. ما دُمتِ بخير فأنا بخير "
" تأخرت عني يا حسن هذه المرة "
قالتها بشجن مما جعله يقترب منها أكثر دافنا رأسه بحجرها ..وبذراعيه أحاط خصرها ..في جلوسها .. هنا ينتمي .. رغم أنه لا ينتمي إليها ..
هنا يجد نفسه .. رغم ضياعه .. هنا يشعر بأنه مازال طفلا لم يكبر . هنا يجد نفسه مازال إنسان ..
بكلتا يديها أحاطت رأسه .. وبدأت تمسد شعره .. وتقرأ عليه القرءان .. تعيذه من الشيطان .. وتتضرع لله أن يحفظه لها .. همست ببحة مشتاقة ..
" اشتقت لك يا حسن "
رفع رأسه ينظر لها .. هو ايضا اشتاق .. وكثيرا .. كانت تبتسم له وكأنها تراه .. شرد بذاكرته لليوم الذي رأته به .. في الملجأ .. كان يجلس حزين .. في ركن بعيد .. وكان يشعر بالفقد .. غادر عابد منذ سنتين .. وتكفل بحماية لُقى .. التي كانت تزداد انطوائية أكثر وأكثر .. ولا يعلم ما بها .. حتى جاء هذا اليوم الذي قصم ظهره في ريعانه .. كان تقريبا بعد خروج عابد بسنة و شهور قليلة ... استيقظ على الهرج والمرج بداخل العنابر .. وعندما سأل .. أجابوه
" لقد هربت لُقى "
كان يدور في طرقات العنابر بجنون .. وكأنه سيجدها إن بحث بنفسه ..ولكن سرعان ما وصل لنقطة بداية بحثه .. أدرك أنه لن يجدها .. وأنها بالفعل .. هربت .. كيف ومتى قصّر معها حتى لا يدرك رغبتها في الهروب .. ولماذا هربت لا يعلم .. ولكن ضميره وإحساسه بالذنب تجاهها وتجاه عابد صديقه الذي ائتمنه عليها لم يرحماه .. وكأنه السبب الذي جعلها تهرب وتبتعد عن ناظره .. وقتها كان وحيدا .. لم يكن يتكلم .. ولا يتفاعل مع أحد .. حتى طعامه زهده . لم يكن يريد شيئا .. حتى رأته هذه السيدة .. كانت في عامها الخامس والثلاثين تقريبا .. بشعر أشقر وعينين عسليتين .. وهاتان الصفتين ما جعله يصدق في لحظاته الأولى بإحساس محروم أنه قد يكون ابنها لأنه يمتلك نفس لون العينين .. وشعره بني .. تفكير طفولي منه وقتها ..ولكنه سرعان ما صدمته الحقيقة المرة ..أنه ابن ملاجئ وليس له أحد .. أو ابن شوارع كما يلقبه البائس الذي بالأسفل .. البائس زوج هذه السيدة .. الذي لم يتوانى عن تذكيره طوال الوقت بأنه ابن ملاجئ .. هو لا ينسى هذه الحقيقة .. ومن ينسي أنه بدون أهل .. كان هذا الرجل يجعله يقوم بالأعمال المنزلية .. لحظة .. ليست أي أعمال .. فكان اختصاصه تنظيف الحمامات الخاصة بالفيلا .. وتنظيف أحذية الرجل وتلميعها .. حتى سياراته كان يأمره أن ينظفها .. لم يكن يشتكي وكان يتحمل فقط لأنه في النهاية يحصل على حنان هذه السيدة ...حتى وإن كان ينام في الليل في حجرة صغيرة تابعة للحديقة .. ظنها في الأول أنها تخص العامل المسؤول عن تنظيف الحديقة .. ولكنه اكتشف بعد ذلك في إحدي شجارات الرجل معه ..حين قال ..
" أنت لن ترتقي لتكون ابني ..حتى وان أخذت إسمي .. أنت مقامك لن ليرتقي سوى لكلب أربيه .. كلب انت تنام في غرفته بالحديقة .. كلب ضربته أنا بالنار حين تضايقت من صوت نباحه .. ولن أتوانى في فعل المثل معك .. فلا تغتر بنفسك "
استفاق من شروده على صوت أمه ..
" لماذا صمتّ حبيبي ؟! "
" كنت أفكر أمي .. لماذا لا تأتي وتعيشين معي .. لا أحب وجودك هنا مع هذا الرجل ؟! "
قالها حسن برجاء انتهى بغضب .. لا يعلم لماذا لا تتركه .. فبعد ما فعله وهو لا يأمن وجودها هنا .. وكيف يأتمن عليها هنا بعد أن كان هذا الرجل السبب في فقدها لبصرها .. عندما كانت تدافع عنه في إحدي نوبات غضب هذا البائس عليه .. كان يضربه أعلي السلم .. وحين كانت أمه تقف لتتلقى الضرب عنه ..دفعها الحقير لتقع من أعلى السلم .. حتى استقرت بالأسفل .. والدماء تتدفق من رأسها تغطي وجهها .. كان هذا هو اليوم الفاصل في حياته هنا .. عندما اطمأن عليها وأفاقت ووجد حالتها هكذا .. كان قد قرر تركهما.. وابتعاده لأي مكان ..أو عودته لأصله .. الشارع .. ولكنها انتحبت ببكائها عندما تمسكت به بين أحضانها وتهتف بلوعة ..
" هل تريد تركي بعد أن فقدت بصري .. لا تتركني ..فانت النور الذي سيجعلني أعيش .. "
لم تكن تدرك أنها هي السبب في جعله يعيش .. وخاصة بعد أن بذلت مجهود خرافي في جعله يكمل تعليمه ..
أفاق مرة أخرى على حديثها ..
" لا يمكنني ترك الجمل بما حمل له يا حسن .. ما دمت هنا سيعرف اني مازالت كالشوكة في خاصرته .. إعطني بعض الوقت فقط أتدبر بعض الأمور .. وبعدها سآتي للعيش معك حتى تمل مني "
شد من احتضانه لها.. كيف يمل منها وهي كانت العوض له عما عاشه في سنين عمره الماضية ..فقالت حتي تهون عليه ..فهي مدركة جيدا لما يكبته داخله ..
" وثم أخبرني ..ألن تفرح قلبي .. أريدك أن تتزوج بني "
جال بخاطره خيال قصير ..ساحرة .. غبية تسربت لعقله وقلبه .. وكان له النصيب الأكبر من الغباء حين سمح لنفسه بأن يتعلق بها .. كيف ومتى حدث هذا .. لا يعلم .. ولكن .. هو لا يصلح لا لحب ولا لزواج .. كيف وهو .. " ابن شوارع " .. أو .. " ملاجئ " لن يهم فالنهاية واحدة ..
هتف بمرح مزيف هاربا من مجري الحوار ..
" لا تشغلي بالك أمي ..ان وجدت من تشبهك .. فوقتها سأتزوج .. وبما أن ليس هناك من تشبهك ..فأنا سأمكث هكذا بدون زواج كالعانس وتظلين حاملة لهمي حتى تُزوجيني وترتاحي "
أنت تقرأ
تراتيل الماضي.. ج١ سلسلة والعمر يحكي.. بقلمي راندا عادل..
Romanceرواية اجتماعية.. رومانسية..