بدأ صوت الرعد يشتد أكثر وأكثر وجو هيون ينظر لنارا بقلق. بدأت نارا تنكمش على نفسها ووضعت رأسها بين ذراعيها محاولة تغطية أذنيها. اقترب منها جو هيون وهو يقول: لا يعقل بأنك لا زلت تعانين من هذه الحالة، كيف أمضيت السنوات الماضية وحدكِ إذاً؟!
بدأت نارا تتعرق وتصدر أنيناً تتصاعد حدته تدريجياً ثم بدأت دموعها تنساب من محجريها فهب جو هيون واقفاً يقول: تباً.
أسرع للبحث عن وعاء ووضع فيه بعض الماء مع قطعة قماش وهم بالجلوس على الأرض ثم نظر لفراشه وقال: سيأخذ هذا وقتاً والجو بارد، تباً.
سحب فراشه ووضعه بجانب فراشها ثم جلس وبدأ يضع الكمادات على جبينها محاولاً تصحيح وضعيتها ثم أمسك بيدها وقال مطمئناً: أنتِ لست وحدك نارا، أنا هنا معك. لا تخافي.
ضغطت نارا على يده بكلتا يديها وبدأ الارتياح يظهر على تعابير وجهها. فجأة سمع دوي رعد قوي فاستيقظت فزعة وعندما رأته أمامها عانقته باكية. جاهد جو هيون لمنع دموعه وبدأ يربت على ظهرها لتهدأ. أحكمت نارا إمساكها بأطراف قميصه وهي تبكي مذعورة وعندما عادت لوعيها ابتعدت عنه ثم نظرت من حولها قائلة: أين نحن؟
- هذا منزل بالقرب من المطعم الذي تناولنا فيه العشاء. لقد ثملتِ واستأجرت هذه الغرفة لتنامي فيها.
- ولماذا فراشك بجانب فراشي؟!
- من أجل هذا ... لقد قربته منذ قليل لأضع لك هذه الكمادات. (رفع لها الكمادات أمام وجهها لتراها جيداً وبدا عليه التذمر)
- آه... شكراً.
- أما ... زلتِ تعانين من هذه الحالة؟ كيف كانت السنوات التي أمضيتها وحدك إذاً؟!
- كنت آخذ دواءً مهدئاً. جربت العديد منها في الواقع وخفت حدة الأمر.
- هل جربتِ الذهاب إلى طبيب؟
- بالطبع، جميعهم قالوا بأنها حالة نفسية بسبب صدمة، والغريب بأنني لا أتذكر أي شيء كهذا والأكثر غرابة أنني لم أكن أعاني منها قبل وفاة والدي لذا يظنون بأن افتقادي لأبي هو السبب.
- في الغالب هذا هو السبب الحقيقي.
- ربما، لست واثقة من هذا. لقد حاولت تجربة التنويم المغناطيسي لعلي أعرف ما هي تلك الصدمة.
- وماذا ... حدث؟
- رأيت لمحات غريبة لم أفهم منها شيئاً. أشعر بأنني عشتها ولكنني لا أتذكرها ولكنني كنت مذعورة حينها.
- ماذا رأيتِ؟!
- سيارة ويبدو بأنني كنت على الأرض لا أقوى على الحراك والمطر يهطل وصوت الرعد يتردد في أذني. لا أدري فكلما تذكرت ما رأيته حينها تجتاح القشعريرة جسدي. لا أريد التحدث عن الأمر ولا تذكر تلك التجربة حتى.
- ربما تكون مجرد هلوسات فلا يمكن أن تكوني قد تعرضتِ لشيء كهذا.
- أجل وهذا ما فكرت فيه.
سمعت صوت الرعد مجدداً فأمسكت بذراع جو هيون وبعد لحظات ابتعدت عنه وقد بدا عليها الحرج. نظر لها جو هيون وقال: لا تخافي من شيء فأنا هنا. هيا استلقي وعودي للنوم.
وضع جو هيون الغطاء عليها ثم قال: سأعود لمكاني الآن.
هم جو هيون بالنهوض ليسحب فراشه بيده خائفة ودموعها تنساب على وجنتيها قائلة: ابقَ بجانبي ... من فضلك.
ابتسم جو هيون وقد باتت الدموع تلمع في عينيه قائلاً: حسناً ولكن لا تخافي. قلت لك بأنني سأحميك دائماً من أي شيء وفي أي وقت. هل تذكرين؟
أومأت نارا برأسها إيجاباً فمسح دموعها بيده وتمدد على فراشه وكلاهما يمسكان بأيدي بعضهما البعض ثم قال: انسي المطر والرعد والبرق وكل شيء ونامي بعمق لأنني سأحاسبك على ما فعلته بي وأنت ثملة صباح الغد فاستعدي. لنعتبر هذا الوقت هدنة مؤقتة.
جحظت عينا نارا ونظرت له بقلق قائلة: لماذا؟ ماذا فعلت؟
تنهد جو هيون وأغمض عينيه قائلاً: آه كيف سأعاقبك على ما فعلته؟! أنا حقاً لا أدري.
- ولكن ما الذي فعلته أخبرني؟ هل كان شيئاً محرجاً للغاية؟ هل قبلتك؟ لا يبدو بأنني فعلت. يا إلهي ... المحقق سي جي؟!
- كلا. ولم قد تقبلينه؟! (قالها بغضب)
- عندما أثمل إما أن أقبل أحداً أو أضرب أحداً فأيهما فعلت؟ يبدو بأنني ... ضربتك، صحيح؟!
- إذاً فأنت تذكرين؟
- كلا، أنا أخمن فحسب.
- تخمنين؟! هذا واضح.
بقي كلاهما يتحدثان ويغيظان بعضهما البعض ويبتسمان حتى غلبهما النعاس وهما يمسكان بأيدي بعضهما البعض.
كان سي جي قد عاد لبيته وجلس على الأريكة بعد أن سكب لنفسه مشروباً ثم نظر لزجاج الشرفة ويحدث انعكاس شخص ما يقف خلفه قائلاً: لماذا لست معه لمراقبته حتى الآن؟
- ظننت بأنك ...
- اصمت. اذهب وقم بعملك فإن تكرر ما حدث في الماضي ستكون عاقبتك وخيمة، تعلم هذا.
- سأبذل جهدي يا سيدي.
- لا تبذل جهدك، قم بمهمتك على أكمل وجه. فأنت تعلم ما فعلته وما زلت أفعله لأصل إلى هذه المرحلة.
- أجل ... سيدي.
- ماذا حدث بشأن ما طلبته من ذلك الأبله الآخر؟!
- قال بأنه لا يوجد أية صلة ولكنه سيبحث بدقة أكثر ليتأكد بما أن هذا منذ وقت طويل جداً.
- حسناً. اغرب عن وجهي.
في مملكة كوريو
بعد بضع سنوات من توقيع ذلك الرجل للعقد مع الرجل الغامض حيث كان يجلس في بيت ويرتدي ملابس النبلاء وقد تغيرت ملامح وجهه وبدا أصغر سناً. كان يجلس إلى طاولته الصغيرة وأمامه كتاب يدون فيه مذكراته بالحبر السري حيث كانت الحروف تختفي فور جفاف هذا الحبر.
" مضت بضع سنوات الآن منذ تلك الليلة التي كدت أن أموت فيها. لقد تغيرت حياتي بأكملها منذ ذلك الوقت. لا أدري بعد تلك الصفقة التي عقدتها مع الشيطان إن كان يمكن أن أسمي نفسي بشراً حتى، ولا يمكنني القول بأنني نادم عليها ولكنني أتعذب يومياً منذ ذلك الحين. لقد قبلت بشروطه مضطراً ولم أفكر بمشاعر من سيأتي من بعدي من أبناء وأحفاد. لا أدري كيف سأنظر لوجوههم. أنا أكتب هذا الآن لأنني لا أستطيع قول ما عليَّ قوله لأبنائي ولكن ربما يستطيعون قراءته وتفهم ما كنت أمر فيه وجعلني أقبل بعقد هذه الصفقة اللعينة. لا يمكنني سوى أن أنحني اعتذاراً لكم على كل ما ستعانونه بسببي."
دخل طفل يناديه بأبي وجلس أمامه ثم قال: أبي، ما الذي تكتبه؟ ولماذا لا أرى حروفاً؟
ابتسم الرجل وقال: هذه مذكراتي، سأدون فيها أموراً حدثت وستحدث معي ولكنني أكتبها بالحبر السري كي لا تظهر الحروف. عندما تكبر سأسمح لك بقراءتها لأن عليك أن تكتب مثلي حينها.
رد الطفل باستغراب: ولمَ عليَّ ذلك يا أبي؟
أجاب الرجل: سأشرح لك الأمر عندما تكبر. هيا بنا لنخرج ونشرب الشاي برفقة والدتك. فهي طلبت منك مناداتي أليس كذلك؟
ابتسم الطفل وقال: أجل، لقد نسيت. أنا آسف.
نهض الرجل وابتسم بلطف لطفله ثم أمسك بيده ومشيا إلى الخارج حيث كانت زوجته بانتظاره.
مع اقتراب الفجر فتح جو هيون عيناه مفزوعاً مما رآه أثناء نومه. حدق بوجه نارا للحظات وبكى. أبعد يديها التي كانت تمسك بيده وغطاها جيداً ثم أبعد فراشه للناحية الأخرى من الغرفة. لم يسعه إيقاف دموعه التي استمرت بالانسياب على وجنتيه وهو يقول في نفسه: فليقل لي أحد بأنه مجرد كابوس لا معنى له. لماذا؟ لمَ يحدث هذا معي؟! كيف يمكنني إيقاف الأمر؟!
التفت لها جو هيون ومسح دموعه قائلاً: عليك أن تعودي من حيث أتيت. لا يمكنك البقاء هنا أكثر.
أشرقت شمس الصباح وإذا بالعجوز يطرق باب الغرفة فأسرع جو هيون وفتح الباب ورد عليه تحية الصباح ثم سأله إن كانا قد ناما جيداً. شكره جو هيون وخرج مع الرجل لتناول الفطور وأخبره بأن نارا لا تزال نائمة.
جلس جو هيون إلى طاولة الطعام الصغيرة المتواضعة التي أعدها العجوز ثم قال: سأحضر زوجتي لتناول الفطور معنا.
أومأ له جو هيون إيجاباً بلطف وبعد لحظات رآه يخرج زوجته العجوز على كرسي متحرك فهب جو هيون لمساعدته في إخراج الكرسي وألقى التحية على السيدة العجوز. جلس ثلاثتهم وطلب منه العجوز منه أن يبدأ بتناول الطعام.
كان الرجل العجوز يطعم زوجته ويمسح بقايا الطعام التي على فمها بالمنديل ويبتسم لها وهي ترد عليه بنفس الابتسامة اللطيفة. حدق بهما جو هيون وابتسم عندما رأى هذا الحب بينهما بعد كل هذه السنوات التي. التفت له العجوز وقال: عندما تتزوج بشخص تحبه لن تستغرب فعل أبسط الأمور لتسعده وتعتني به.
- يقولون أن بعد سنوات من الزواج يختفي الحب.
- أجل، يختفي الحب ويأتي ما هو أقوى منه. تأتي المودة والاحترام والاهتمام والتضحية. هذه الأمور أكثر قيمة من الحب يا بني لأنها جميعاً تظهر الحب بكل أشكاله ولكن أحياناً الحب وحده لا يكون كافياً إن لم تكن فيه بقية هذه الأمور.
- أنت محق يا سيدي. الحب وحده لا يكون كافياً فالظروف كذلك لا تسمح لنا باختيار البقاء مع من نحب.
- قوة الحب تظهر بمحاربة الظروف ومواجهة الصعاب. فالحب لا يقوى عليه الجبناء.
- هناك أمور تكون أكبر من قوتنا وقدراتنا. فأحياناً اقترابك ممن تحب يمكن أن يسبب له الأذى.
- إن كان يحبك فلن يتأذى بقربك فعلى العكس تماماً يا بني. الحب قد يدفع عنه ألم هذا الأذى.
- ماذا لو كان الأمر خارج إرادتنا والحل الوحيد هو بالابتعاد عن بعضنا؟!
- ابتعاد المتحابين يؤذي ويؤلم أيضاً فكم من ألم في القلب كان أشد من ألم الجسد.
نظرت له العجوز وابتسمت قائلة: يا بني، لو كنت تظن بأن البعد قد يخفف الألم فأنت مخطئ، فأحياناً يكون الموت أهون علينا من الابتعاد عمن نحب. بقاؤه بقربي هو ما يعطيني القوة لأقوى على مواجهة ألمي ومصاعبي في الحياة فها أنت ترى حالتي. عندما كنت أراه يعاني بسببي فكرت في الموت ولكنني أدركت بأنه ما زال قوياً من أجلي وإن فقدني سيضعف ولن يرغب بعيش هذه الحياة حتى.
دمعت عيونهما وأمسكا بأيدي بعضهما وابتسما وعندما رآهما جو هيون هكذا مسح دموعه قبل أن تنساب على وجنتيه وابتسم قائلاً: أنتما تبدوان رائعين معاً، وجعلتماني أشعر بالغيرة. سألتقط صورة لكما لكي أتذكر كلامكما هذا.
اقترب العجوزان من بعضهما البعض وابتسما والتقط لهما جو هيون صوراً بهاتفه ثم أكملوا تناول طعامهم وتبادلوا الحديث. نهض جو هيون وقال: أنا سأذهب لأقوم ببعض الأمور قبل مغادرتنا وإن استيقظت نارا أخبروها بذلك من فضلكما واطلبا منها انتظاري هنا.
توجه جو هيون لمركز الشرطة المحلي في القرية وطلب منهم طلب الدعم والقيام بتفتيش منطقة الجبل التي وجدوا فيها جثة السيدة. أجرى جو هيون بعض الاتصالات من أجل الدعم وتمت الموافقة على إرسال عدد من رجال الشرطة مع الكلاب المدربة للبحث.
استيقظت نارا ولم تجد جو هيون فحاولت الاتصال به ولم يرد عليها. ارتدت معطفها وخرجت من الغرفة فرآها العجوز وألقى التحية مبتسماً. ابتسمت نارا بحرج وردت التحية ثم اقتربت منه وهي تنظر في الأرجاء فابتسم قائلاً: هل تبحثين عن أخيك؟
- آه أجل. هل تعلم أين هو؟
- قال بأنه سيذهب ليقوم ببعض الأعمال وطلب منك انتظاره هنا. لن يتأخر فلا تقلقي.
- آه، حسناً شكراً لك.
- الطعام جاهز، لقد حضره لك بنفسه وقد ذهب ليشتري بعض الأشياء من المتجر خصيصاً لك. لا بد من أنه يحبك كثيراً.
ابتسمت نارا وقالت في نفسها: لا أدري ما نوع الحب الذي يكنه لي في قلبه. هل حقاً يراني كأخته الصغرى أم أنها مجرد كذبة يخفي بها حبه الحقيقي تجاهي ولا أدري ما السبب.
جلست نارا تتناول الطعام بعد أن اغتسلت ثم أحضر لها العجوز كوباً من الشاي فشكرته وقبل أن يهم بالذهاب سألته بحرج: أنا آسفة إن كنت قد سببت لكم أي إزعاج ليلة أمس.
التفت لها العجوز وابتسم قائلاً: لم تفعلي شيئاً لتعتذري عليه. لم تكوني واعية حتى فقد أحضرك أخوك وهو يحملك على ظهره ثم وضعك في فراشك. كما أن سمعي أنا وزوجتي ليس بحالة جيدة. هل قال لك شيئاً؟!
أومأت نارا برأسها إيجاباً وقد قوست شفتيها ثم قالت: أجل، قال بأنني ضربته، ويبدو بأنني شتمته أيضاً.
ضحك العجوز وقال: لا بأس، هذا شيء وارد الحدوث بين الأخوة فهو لم يكن يبدو منزعجاً في كل الأحوال.
ضمت نارا شفتيها بحرج ثم قالت: في الحقيقة نحن لسنا أخوين. نحن مجرد أقرباء فقط وقامت عائلته بتربيتي بعد وفاة عائلتي. عشت معهم بضع سنوات حتى بلغت الثامنة عشرة من عمري وسافرت لأدرس في الخارج وعدت منذ أيام فقط.
- هل ستبقين هنا إذاً؟
- كلا، لا أدري. (طأطأت رأسها بحزن)
- لماذا؟ ألا يعاملونك جيداً، ألا ترغبين بالبقاء معهم؟!
- إنهم لطيفون جداً معي ولكن ... أخشى أن يكون بقائي لا يسعدهم جميعاً. بل هناك من لا يسعده بقائي بقربه.
- هل هو نفس الشخص؟
أومأت نارا برأسها إيجاباً فابتسم العجوز وهم بإكمال حديثه ولكن قاطعه دخول جو هيون الذي ألقى التحية على العجوز ثم قال لها بوجه متجهم: جيد بأنكِ استيقظتِ. علينا العودة إلى سيئول على الفور.
أومأت له بالموافقة ثم قالت بصوت منخفض: يبدو غاضباً.
ابتسم العجوز وقال لها بصوت منخفض: لا يبدو لي بأنه غاضباً منك بل يتظاهر بذلك.
نظرت نارا للرجل باستغراب ثم نهضت مسرعة نحو جو هيون الذي اقترب من الرجل وأعطاه ظرفاً يحوي على المال وشكره على كل ما قدمه لهما لهذه الليلة.

أنت تقرأ
القرن الأخير
Fantasyكل شخص يخفي بداخله ما لا يستطيع قوله أو نسيانه ... عشق ... خوف ... ذنب ... جرح ... ألم. في جو من العشق والخوف والشوق والغموض والتضحية التي تمر بها شخصيات الرواية يجعلونا نعيش معهم أحداث في غاية التشويق مليئة بالعاطفة نعلم من خلالها أن ليس البشر وحده...