🍁الحلقة 45 الجزء الثامن🍁

585 13 0
                                    

في اليوم التالي حضر سامر لزيارتي وأخبرني عن زيارة وليد له البارحة وعن شجاره معه بسبب خروجي مع حسام وبين لي مدى الغضب الذي اكتسحه والتهديد الذي رماه به, وطلب مني: "لا تكرري ذلك ثانية.. إذ أن وليد على ما يبدو ولا يولي حسام ثقة كبيرة, أو لنقل إنه مستاء منه بسبب الشجار العائلي..." وأنا أعرف بحقيقة الأمر وقلت تلقائيا: "إنه لا يطيقه منذ زمن". فظهر التعجب على سامر وسأل: "أحقا؟؟ لكن لماذا؟" فانتبهت إلى أنني تسرعت في جملتي السابقة... وحاولت تدارك الأمر فقلت: "لأنه... لأنه نعته بألفاظ سيئة... ذكرت لك ذلك.." وطبعا لم أكن لأشير إلى موضوع عرض حسام الزواج مني ورفض وليد له والشحنات التي نشأت بينهما منذ شهور لهذا السبب... شي من الغموض اكتسى وجه سامر وسألني: "أهناك ما لا أعرفه يا رغد؟؟" فقلت متظاهرة الاستغراب: "عن ماذا؟؟" فقال: "عن حسام... عن وليد... أو عنك؟؟" فقلت مستمرة في تظاهري: "لم أفهم قصدك!" فقال: "لأن وليد كان غاضبا بمقدار فوق المعقول... لسبب تافه". فقلت مؤكدة: "كما قلت. حسام شتم وليد زعيره بأنه خريج سجون وأهانه بقسوة ولهذا... وليد لا يطيقه". وأقنع كلامي هذا سامر وأثناه عن محاولة التعمق أكثر... قال أخيرا: "على أية حال يا رغد.. إذا أردت أي شيء فاطلبيه مني أنا فقط". فنظرت إليه وفي عيني مزيج من الامتنان والأسى, والندم... وقلت: "شكرا... ولا أظنني سأحتاج شيئا بعد الآن.." وطأطأت رأسي بأسى... فبعد وليد... لا شيء يستحق الاهتمام... لما أحس سامر المرارة في نبرة صوتي حدثني بلطف بالغ وقال: "تشجعي يا رغد... توفيت والدة زوجته قبل أيام... هذا سبب أكبر من كاف لتبدل أوضاعه.." لا تحاول مواساتي يا سامر... ما بي أبلغ من حدة المواساة... "سأفعل... ما يطلبه مني... بلغه هذا... سألتزم بكل ما يريد... فقط... ليصفح عني..." هل... هل تحبينه... إلى هذا الحد؟؟" داهمني سامر بسؤاله... أومأت برأسي... نظرت إلى الفراغ... في إجابة أبلغ من الكلام...

*********************************

حدثت مجموعة من أعمال الشغب في المدينة واضطرب الأمن فيها. وهي منذ شهدت مأساة القصف في عيد الحج الماضي لم تزل عرضة لحوادث صغيرة متفرقة تفقد أهاليها الأمان للعيش فيها. الكثير من سكانها هجروها واتخذت جماعات من المتمردين المنازل المهجورة بؤرا لإدارة عمليات الشغب. ومؤخرا حظر التجول في الشوارع بعد منتصف الليل وتكثف دوريات الشرطة وتضاعف عدد نقاط التفتيش والمراقبة... كنت قد مررت أثناء سفري بإحدى مدن المنطقة... ورأيت حالة التخريب الفظيعة التي ألمت بها مؤخرا بعد أعمال شغب مصحوبة بهجوم عدائي تعرضت لها... وأوضاع البلد بشكل عام آخذة في التدهور السريع... والآن.. أنا جالس في غرفة المعيشة في المنزل الريفي في المزرعة أتابع الأخبار على التلفاز وأشاهد مناظر بشعة لجثث قتلى من المتمردين الذين تمت مداهمتهم وإبادتهم.. ولقطات أخرى لمجموعة من أعضاء منظمة سرية نفذت عملية اغتيال لأحد كبار المسئولين, وتم الكشف عن بعض أعضائها وهاهم يقادون بإذلال إلى مأواهم الأخير... السجن.. مناظر تثير الرهبة في قلبي.. خصوصا بعد تجربتي المريرة خلف القضبان.. لا زال جسدي يقشعر منها وقلبي يضطرب... ومعدتي تشتعل نارا على ذكراها.. شربت آخر رشفة من الحليب البارد الذي أدمنت على شربه في الأونة الأخيرة كلما اشتد ألم معدتي.. وابتلعت معها القرص المخفف للحموضة الذي صار عنصرا رئيسيا من عناصر وجباتي اليومية.. وتنفست باسترخاء.. خضت مؤخرا لعلاج جديد لقرحة معدتي ولكنه لم ينجح... وأوجاعها تراودني من حين لآخر وتقض مضجعي.. فيما أنا مغمض عيني باسترخاء.. سمعت صوتا يقترب من الباب... ففتحت عيني والتفت إلى مصدره فإذا بي أرى أروى تدخل الغرفة... أنا وهي لم نجتمع اجتماعا خاصا ولم نتحدث إلا أحاديث عادية خلال الأيام الماضية... التي تلت رحيل الخالة ليندا رحمها الله. وأجواء الكآبة كانت تسيطر بشكل مريع على المزرعة وعلى المنزل وقد غابت سيدته بلا عودة ترجى... وكان لقائي السابق معها قبل السفر هو أبشع اللقاءات وأفضعها...قالت أروى: "ماذا تشاهد؟" فقلت: "نشرة الأخبار.." واسترسلت: "الوضع يزداد اضطرابا في المدينة الصناعية". وجلست أروى على أحد المقاعد المجاورة تتابع الأنباء معي... خيم السكون علينا وأصغينا إلى النشرة باهتمام.. على الأقل بالنسبة لي... وبعد انتهائها.. تركت التلفاز مشغلا وقمت بقصد الخروج.. عندما اقتربت من الباب اختفى صوت التلفاز فألقيت نظرة للوراء ورأيت أروى وقد أوقفته ثم سارت باتجاهي.. "وليد". نادتني فاستدرت إليها كليا.. شعرت بأنها ترغب في التحدث معي وبدا أن قواها تخونها.. الحديث عن أي شيء لن يكون لائقا الآن وقبر الخالة رحمها الله لم يبرد بعد. صمِتُ منتظرا ما ستقوله.. ولما طال ترددها قلت: "خيرا إن شاء الله؟" وإذا بالدموع تقفز من عينيها فتنكس رأسها وتخفيه خلف يدها.. شعرت بالأسى عليها ومددت يدي وربت على كتفها بحنان.. وما كان منها إلا أن أسندت رأسها إلى صدري وبكت بحرقة.. قلت مواسيا: "تشجعي يا أروى.. كلنا للموت والبقاء لله الواحد الأحد". فقالت بانهيار: "لا أتخيل حياتي بدونها.. إنني السبب في موتها.. أنا السبب". وكانت الخالة قد توفيت بعد عملية جراحية أجريت لها في القلب إثر تعرضها لنوبة جديدة. فقلت: "كيف تقولين ذلك؟" فقالت: "نعم.. فهي مرضت بعد أن.. أخبرتها عن قرار انفصالنا.. لو لم أخبرها بذلك.. ماتت". عضضت على أسناني متأثرا بهذا الكلام.. ثم قلت: "الموت بيد الله وحده.. ولكل أجله المقدر.. لندعو لها الرحمة والمغفرة". قالت أروى: "رحمك الله يا أمي.. كنت نعم الأمهات وخير النساء.. عشت حياة مريرة وحيدة بعد سجن أبي.. ورحيله.. شقيت في هذه الدنيا وعملت دون راحة أعمالا منهكة يعجز عنها الرجال.. وحين ابتسمت لنا الدنيا.. حين تحسنت أوضاعنا.. آه يا أمي.. أبعدتك الأقدار قبل أن تهنئي.. ما كان أسرع رحيلك يا أماه.." نحيبها الشجي هيج في ذاكرتي ذكرى والدتي رحمها الله.. إنه ما من مصاب أفجع على قلب البشر من فقد الأحبة.. على الأقل.. أنتِ عشت مع والدتك ولازمتها منذ ولادتك وحتى آخر لحظة في حياتها.. أما أنا.. فقد حرمت من والديّ الحبيبين ثمان سنين وأنا محبوس في أبشع مكان رأيته على الإطلاق.. وهما حيّان يرزقان.. وما إن خرجت إليهما.. حتى داهمهما الموت وأخذهما معا.. وبأشنع طريقة.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. وفيما نحن هكذا أقبل العم إلياس.. ألقى علينا نظرة ثم قال مخاطبا إيّاي: "حضر الضيوف يا بني". فقلت: "حسنا.. أنا قادم". وهم مجموعة من تجار الفواكه كنت سأعقد معهم اتفاق عمل. انصرف العم إلياس.. فالتفت إلى أروى وقلت: "يريدون شراء محصول العنب والليمون بالكامل.. سنتخلص من عناء بيعه في الأسواق وقد عرضوا سعرا جيدا.. ما رأيك؟" نظرت أروى إلي نظرة لا مبالاة ثم قالت: "افعلوا ما تشاءون". قلت: "سنكتب وثيقة رسمية وسنحتاج لتوقيعك بصفتك مالكة المزرعة.. سأجلب لك العقد لمراجعته وتوقيعه". قالت: "أرجوك.. أعفني من هذه الأمور فأنا لست في وضع يسمح بالتفكير في أي شيء". وأنا أعلم بهذا ولكن.. "لكن.. العمل يجب أن يستمر.. إن أهملنا المحصول فسنخسره". قالت: "افعلوا ما ترونه مناسبا". وكان هناك في خاطري شيء أود ذكره وأعاق الظرف الحالي لساني.. لكنني هذه اللحظة وجدتها فرصة ملائمة قليلا فقلت: "و... كذلك بالنسبة للمصنع.. هناك أمور معلقة في انتظاري.." نظرت أروى إلي نظرة جادة.. فقلت متابعا: "علي العودة إلى العمل عاجلا.. لا يجب ترك المصنع أطول من هذه المدة". فقالت وهي تضغط على صدغيها بيدها اليسرى: "افعل ما تريد.. أنا باقية مع ذكرى أمي ورائحتها العابقة في جو المنزل.." عنجما نقلت نبأ وفاة نديم رحمه الله إلى عائلته في العام الماضي.. أتذكر أن أروى أبدت صمودا غريبا في وجه الخبر المفجع.. أما الآن.. فهي منهارة لوفاة والدتها.. لطالما كنت أظنها أكثر صلابة في مواجهة المصائب.. وأرى فيها قوة وقدرة كبيرة على التحمل.. ووضعها هذا جعلني أرجىء إلى أجل غير مسمى موضوعنا السابق.. بشأن مستقبل علاقتنا معا.. فلأترك عني هم أروى... وهم رغد... وأتفرغ لهم العمل فهو أرأف بي منهما... وبعد لقائي بتجار الفواكه وفيما كنت واقفا في المزرعة أرتب الوثائق فوجئت بضيف غير متوقع يدخل المزرعة! لقد كان حسام... حياني فنظرت إلى ما حوله, لأستوثق من عدم حضور رغد برفقته... لكنه كان منفردا... فرددت التحية وكلي حيرة من سبب حضوره... ثم قدته إلى المقاعد المجاورة وجلسنا متواجهين... تفصلنا طاولة صغيرة... فأمكنه قراءة تساؤلاتي مباشرة... قال موضحا: "أعرف أنك لم تتوقع زيارتي.. لكنني أود التحدث معك في أمر مهم وإن لم يكن الظرف الحالي مناسبا". أقلقني كلامه فسألت باهتمام: "ماذا هناك؟؟" فتأتأ قليلا... ثم أجاب: "إنه.. ليس موضوعا جديدا.. ولكن... أود تذكيرك به وتعجيل تنفيذه". وبسرعة تفتح في رأسي موضوع أظن أنه يقصده... قلت: "هات من الوسط ولا داع للمقدمات.. أي موضوع تعني". اضطرب حسام وتغير لونه.. ثم قال: "مو... موضوعي أنا ورغد". تمالكت نفسي لئلا أنفجر فجأة في وجه الضيف في هذه اللحظة وهذا المكان..  ثم قلت متظاهرا عدم الفهم: "موضوعك أنت ورغد؟؟" نظر إلي حسام وقال وهو يزدرد ريقه: "أعني موضوع.. زواجنا". احتقنت الدماء في وجهي وتورمت عيناي غضبا.. وبالتأكيد لاحظ حسام ذلك لأن بعض الخوف اعترى تقاسيم وجهه.. قلت وأنا أضغطط على نفسي كي لا أثور بركانا: "أي زواج؟؟" تردد ثم قال: "هل نسيت؟؟ لقد.. سبق وأن عرضنا الأمر عليك.. أنت تعرف أنني.. أنني أرغب في الزواج من رغد". لم أستطع تمالك نفسي أكثر.. هببت واقفا باندفاع كان من القوة بحيث جعل الكرسي ينقلب من خلفي ويرتطم بالأرض.. وقف حسام بدوره واجلا.. قلت: "هل فقدت صوابك؟ ألا ترى في أي ظرف نحن؟؟" قال حسام معتذرا ومدافعا: "لا أقصد هذا أبدا.. لسنا نريد ارتباطا شكليا علنيا.. كل ما نريده هو عقد قران شرعي حتى.." صرخت غاضبا مقاطعا: "حتى ماذا؟؟" ألجم لسان حسام فكررت بعصبية: "حتى ماذا... أكمل؟؟" قال باضطراب: "حتى نستقر.. أنا ورغد.. بما أنها تقيم عندنا وبما أنها موافقة على الزواج مني.." ضربت على الطاولة بعصبية وقلت: "ومن قال أنها موافقة على هذا؟؟" أجاب: "هي.. أعربت عن قبولها واستعدادها منذ زمن". نفثت ما في صدري من نيران ملتهبة... وضربت الطاولة مجددا بقوة أكبر وقلت: "ومن قال لك... إن الأمر متوقف على قبولها هي؟؟" قال حسام متراجعا: "بالطبع أعني بعد موافقتك أنت...فأنت ولي أمرها". فقلت بغضب: "نعم.. أنا ولي أمرها.. وأنا لا أوافق على هذا". صمت حسام برهة وسأل بعدها: "لماذا؟؟" فزمجرت: "لا تسأل لماذا... أنا الوصي وأفعل ما أريد". تغيرت سحنة حسام من الرجاء إلى النقمة وقال مهاجما: "لكن.. هذا لا يعطيك الحق في التحكم برغد... ما دامت موافقة". استفزتني الجملة فصرخت منذرا: "حسام!!" وحسام أطلق العنان لثورته وقال: "أي نوع من الأوصياء أنت؟؟ ولماذا هذا العناد؟" صرخت مجددا: "حسام... يكفي.." لكنه تابع بعصبيته: "أخبرني ماهي حججك؟ إذا كان بشأن الدراسة فنحن لن نتزوج الآن وإنما بعد التخرج ولكنني أريد أن أرتبط بها رسميا وأريح مشاعري وقلبي". انفجرت... ثرت... انقضضت على كتفيه فجأة وصرخت بقسوة: "أي مشاعر وأي قلب أيها الــــــ.." حسام حاول إبعاد يدي عنه وهو يقول: "إنني أحبها ولن أسمح لك بالوقوف في طريقي". وبانفلات تام.. سددت لكمة إلى وجهه ثم دفعت به بعيدا... وأنا أصرخ: "أرني ماذا ستفعل لإزاحتي أيها العاشق المعتوه". كانت ضربتي موجعة جدا... أمسك حسام بفكه متألما وترنح قليلا... ثم صرخ: "متوحش وستظل متوحش... يا خريج السجون". وأوشكت أن أنفلت أكثر وأنقض عليه وأوسعه ضربا... غير أن العم إلياس ظهر فجأة ورأى الاضطراب الحاصل بيننا فتساءل: "ما الأمر؟؟" حسام سار إلى الخلف مبتعدا وهو يقول: "لا ترحم ولا تدع الرحمة تهبط من السماء؟؟... لكنني لن أسمح لك بالتحكم بهذا وإن لزم الأمر سألجأ للقضاء وأخلصها من سطوتك نهائيا... أسمعت؟" صرخت مهددا: "أغرب عن وجهي هذه الساعة قبل أن تندم... انصرف فورا..." قال: "سأذهب.. لكن سترى ما سأفعل.. سنتزوج رغما عن أنفك وقبضتك وجبروتك.." هممت بالانقضاض به فأقبل العم إلياس وحال دون إمساكي به.. واحتراما للرجل العجوز وللمكان الذي نحن فيه.. تركته يفلت من قبضتي لكنني هددته: "ابتعد عنها نهائيا... نهائيا... ماذا وإلا.. فأقسم برب السماء.. أنني سأمحيك من على هذا الكوكب... وقبل أن تصل إلى ما تصبو إليه نفسك.. سيتعين عليك أن تدوس على قبري أولا.. ما من قوة في الأرض ستجبرني على تحقيق هدفك... مطلقا... أيها المراهق الأبله". وبعد أن غادر حسام سأني العم عما حصل فاعتذرت عن الإجابة وخرجت من المزرعة غاضبا أبحث عن شيء أنفث فيه غضبي بعيدا عن الأنظار...

أنت لي (مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن