"إلى المزرعة؟!" شهقت مندهشة لما أعلمنا وليد عن نيته في الذهاب إلى المزرعة غدا... ورجحت أن يكون الهدف هو جلب الشقراء. لم أستطع شيئا وكتمت اعتراضي في داخلي... لا يهم إن كانت الشقراء ستأتي.. لا يهم إن كانت قد انتصرت علي.. المهم أن أبقى تحت سقف واحد مع وليد وأحظى برؤيته كل يوم... إنني رأيت الموت من دونه... وسأقبل بأي شيء لقاء أن أظل على مقربة منه ويظل طيفه يجول من حولي... ومنذ أن أخبرنا بالخبر وأنا واقفة على أعصاب مشدودة في انتظار ما ستسفر عنه سفرته هذه... لم يكن وليد يجالسني أو يتحدث معي إلا بكلام عابر... وكان يقضي معظم الوقت في مكتبه يعمل. كنت سأجن لو أنه لم يحضرني معه... لم تكن شمس النهار التالي لتطلع علي وبي عقل... بعد مقابلته البليدة عند بوابة منزل خالتي... على فكرة... نظارته الشمسية أصبحت ملكي الآن! اليوم ستزورني مرح وتجلب معها بعض المحاضرات الهامة لأطلع عليها... سأعود للجامعة قريبا وأشغل وقتي في الدراسة من جديد... وأبعد عن رأسي التفكير في الشقراء... الساعة الآن الواحدة ظهرا ونحن -أنا وسامر- نتناول طعام الغداء في المطبخ... ووليد في عمله... "ما بك يا رغد؟؟ فيم أنت شاردة؟؟" سألني سامر وهو يرى يدي تقلب الحساء بالملعقة طويلا... دون أن أرشف منه شيئا... قلت تلقائيا: "هل تظن أنه سيحضرها معه؟؟" فرد سامر: "أظن ذلك, وهذا شأنهما". فازداد توتري... فقال سامر: "من الطبيعي أن يجلب زوجته معه يا رغد". تناولت رشفة من الحساء بلعتها ولم أشعر بطعمها... ثم قلت: "المهم.. أن تقبل بوجودي.. لأن وليد.. فيما لو رفضت.. سيعيدني إلى خالتي". فاستغرب سامر وقال: "وما علاقة هذا بك؟؟" قلت: "إنها لا تريد أن أعيش معهما". "أهكذا؟" نعم. لأن الانسجام بيني وبينها مستحيل.." تجلى على سامر بعض التردد ثم تجرأ وسأل: "هل تدرك هي أنك..." طأطأت رأسي ونظرت إلى وعاء الحساء الموضوع أمامي حرجا... ففهم سامر إجابتي... سامر يفهمني جيدا... وهو دائما معي صريح ومباشر... ليس فيه الغموض ولا ينشر الحيرة والتساؤل والذهول أينما حل... كما هو وليد... قال بعد صمت قصير: "إذن وليد يعرف... الآن تأكدت". فرفعت بصري إليه وسألت: "يعرف ماذا؟؟" فهوى ببصره إلى أطباق طعامه وتظاهر بالانشغال بتقطيع قطعة اللحم... وقال: "أنك تحبينه". شددت على يدي وفارت الدماء في وجهي وأبعدت نظري عن عيني سامر وقلت بصوت ضعيف: "أأأأ... لا... ليس كذلك". وأمسكت بطرف مفرش مائدة الطعام وأخذت أشد وأرخي فيه باضطراب... سامر وضع قطعة اللحم في فمه وراح يمضغها ثم بلعها وقال: "بل يعرف". فرفعت بصري إليه باهتمام فوجدته يرفع كأس العصير ويشرب جرعة منه... متظاهرا بالبرود... قلت: "كيف؟" قال وهو يتابع تناول طعامه: "ليس بهذا الغباء". وأحسست بقلبي يخفق بقوة... هل يمكن أن يكون وليد... قد اكتشف أنني أحبه.. أكثر من حب ابنة لأبيها؟؟ وفيما أنا شاردة في تفكيري سمعت سامر يقول بجدية: "لكن ذلك لن يغير شيئا يا رغد... وليد رجل متزوج ويكبرك بعشر سنين.. ولا أظنه يعتبرك إلا ابنة أو أخت صغيرة يتيمة تكفل برعايتها". فقدت شهيتي للطعام فجأة وتوجم وجهي حزنا... ولاحظ سامر التغيرات التي اعترتني فوضع شوكته جانبا وخاطبني بنبرة أكثر جدية وواقعية: "يا رغد... ستستفيقين يوما وتدركين أين كنت تتخبطين... لكنني لا أريد أن تصابي بصدمة قاسية.. فكري مليا في وضعك... وقيمي الأشياء تقييما عقلانيا وليس عاطفيا... ماهي نهاية حب رجل مرتبط بفتاة أخرى لا يملك أي سبب ليتخلى عنها؟ ولا أي دافع ليفكر في غيرها". أصبت بعسر هضم وتلوت معدتي... ورفعت عيني بانكسار وأبرزت يدي على المائدة وقلت: "حتى لو تزوجها... سأبقى معه... تحت وصايته". قال: "ستكبرين يوما... ولن تحتجي وصيا... وهو سيتزوج ويكرس جهده لعائلته الجديدة.. هذا هو المسار الطبيعي للحياة". قلت بشء من الاتفعال: "وأنا؟؟" فصمت سامر... ثم قال: "أنت أيضا... ستتزوجين وتعيشين حياتك... مع من يستحقك ويقدرك". وتبادلنا نظرات عميقة... ثم قال: "القرار بيدك". فأخذت أنظر إلى يدي... أتأمل راحتيهما... والخطوط التي تملأهما... وكأنني أفتش عن القرار بينهما... وأراهما خاليتين جوفاوين... لا تحملان شيئا... مددتهما نحو سامر أريه باطنهما الأجوف وأنا أقول: "يداي لا تملكان شيئا". فمد سامر يده نحو يدي وقال: "ما في يدي هو ملكك". وكانت عيناه تحملقان بي تملؤهما المعاني العميقة... شعرت بمرارة في حلقي... كأنني تجرعت دواء مركزا... وانهارت تعبيرات وجهي أمام نظرات سامر فإذا بي أقول دون تفكير: "ألا زلت تحبني؟" وكانت إجابته بأن شد قبضة يده وأغمض عينيه كمن يعتصر ألما... نعم يحبني... أعرف ذلك... كان مهوسا بي... يغمرني بلطفه ويمطرني بهداياه ويغلفني بعواطفه... لم يكن خطيبي فقط... كان أخي وصديقي المقرب... وكان يشاركني كل شيء... ولم أشعر يوما وهو معي بأنني بحاجة لأي شيء... لماذا لا تزل تحبني يا سامر... بعد ما فعلته بك...؟؟ آه...كم يؤلمني قلبي... كم يقرصني ضميري... كم أنا أنانية... كم أنا حزينة من أجلك... رفعت رأسي أريد أن أرمي به إلى الوراء لعل الأحزان تتساقط منه... فإذا بعيني تقعان فجأة على وليد... جفلت وسحبت يدي نحو صدري أمسك نفسي الذي انحشر فجأة في شعيباتي الهوائية إثر ظهور وليد المباغت... و أحس سامر بحركتي السريعة ففتح عينيه والتفت إلى الوراء... إلى الباب... فوجد وليد يقف هناك... "أهلا وليد... كيف كان يومك؟" بادر سامر بالسؤال فرد وليد: "كان حافلا جدا". قال سامر: "قرصنا الجوع فشرعنا بالأكل قبلك". رد وليد: "بالهناء والعافية". وتوجه نحو المغسل فغسل يديه وأقبل واتخذ مقعدا... على رأس المائدة... قال: "ماذا لدينا اليوم؟" فأجاب سامر متظاهرا بالمرح: "مشويات طلبناها من مطعم... وحساء أعدته رغد". فطأطأت رأسي خجلا من الحساء المتواضع الذي أعددته... وبدأ وليد يعد أطباقه وسكب لنفسه شيئا من الحساء... وأخذ يرتشفه... ولم ينطق بأي تعليق... وسامر عاد يتناول طعامه ويطرح على وليد الأسئلة حول العمل... حيث إنه سيذهب بعد قليل... ويجيب وليد أجوبة مختصرة... إلى أن سمعته يقول: "لم لا تأكلين؟" انتبهت على سؤاله فرفعت رأسي ونظرت إليه نظرة سريعة ثم أخفضت رأسي وأجبت بصوت خافت: "اكتفيت الحمدلله". وأمسكت بعكازي الموضوع إلى جواري وقمت عن المائدة... سامر قال: "لم تأكلي شيئا رغد". فقلت: "الحمد لله". وسرت متجهة إلى الباب... فاستوقفني صوت وليد يقول: "على فكرة هل لديك استعداد لزيارة الطبيب اليوم". فتذكرت صديقتي مرح وقلت وأنا لا أجرؤ على رفع بصري إليه: "اليوم؟ أأأأ ستأتي مرح لزيارتي". فقال: "ماذا عن بعد الغد أو بعده؟" فأجبت: "بعد الغد..." فقال: "لا بأس". ثم تابعت طريقي إلى غرفتي... وقبل مجيء مرح ذهبت إلى المطبخ لأحضر بعض أطباق المكسرات والحلويات... وشيئا من العصير... وفيما أنا أحمل الصينية بيدي اليمنى بينما تمسك يدي اليسرى بالعكاز... اختل توازن الصينية فوقعت أرضا وتحطم الكأسان الزجاجيان محدثين جلبة كبيرة... وتبعثرت الأطباق والمحتويات على مساحة كبيرة... "أوه... هذا ما كان ينقصني!" تذمرت بصوت غاضب... ثم جثوت على الأرض بحذر ألتقط شظايا الزجاج والطعام المبعثر... "ماذا حصل؟" التفت بسرعة نجو مصدر الصوت... وجدته واقفا عند الباب والقلق يخطو نتوءا على جبينه ويحفر مابين حاجبيه... ثم اقترب مني وسأل: "هل انزلقت؟؟ هل أنت بخير؟" سحبت نظراتي عنه وسلطتها بخنوع نحو الشظايا وأجبت هامسة: "أوقعت هذا من يدي". ورأيت ظله ينعكس على الأرضية الملساء... ثم رأيت يده تظهر من الفضاء وتهبط على الشظايا وتلملمها... جمع قطع الزجاج الكبيرة والطعام في الصينية وانغمست أنا في التقاط الأشلاء الصغيرة وإذا به يرفع الصينية ويقول: "دعيها عنك". فنهضت مستندة على عكازي ورأيته يتجه نحو المكنسة الكهربائية فشعرت بالحرج وتقدمت خطوتين وأنا أقول: "أنا سأنظفها". فالتفت إلي وقال: "لا عليك... احذري أن تدوسي عليها". وقد كنت حافية القدم اليمنى, أما الآخرى فمجبرة كما تعلمون... عكف وليد على تنظيف الأرضية بحذر من أي شظايا ممكنة... وعكفت عيناي على مراقبته بكل عناية... فهما قد حرمتا من رؤيته أسابيع طويلة ولم ترتويا بمرآه بعد... لما فرغ من مهمته استدرت بسرعة نحو الدواليب وتظاهرت بأنني أستخرج كأسين آخرين وأطباق جديدة... وسمعته يقول: ""دعيني أساعدك" وتولى بنفسه تحضير كل شيء ثم حمل الصينية إلى العربة ثم سأل: "أين ستستقبلينها؟" أجبت: "في غرفة الضيوف الرئيسية". فقاد العربة إلى هناك ثم عاد وسأل: "شيء آخر؟؟" فأخفضت رأسي وابتسمت وقلت: "شكرا لك". فرد: "العفو... صغيرتي". رفعت إليه بصري بسرعة... هل قال صغيرتي؟؟ هل ناداني بصغيرتي من جديد؟؟ أخيرا حن علي؟؟ هل صفح عني ورضا علي؟؟ حاولت أن أقرأ شيئا في عينيه لكنه استدار منصرفا وهو يقول: "إذا احتجتني فناديني". بعد ذلك ذهبت إلى غرفتي قريرة العين... ونظرت إلى وجهي في المرآة... فوجدته متوهجا... نزعت وشاحي وأطلقت سراح شعري السجين... إن لدي ضيفة مقربة وأنا لا أريد أن أستقبلها كما في الزيارة السابقة! أتذكرون؟؟ الشقراء في قمة الأناقة وأزهى الألوان... وأنا خلف السواد وتحت الجبائر! وأردت التزين ولكنني لم أملك شيئا في هذه الغرفة! لا حلي ولا مساحيق ولا ملابس تليق باستقبال ضيوف مقربين! "أوه... ما هذا الحظ العاثر! كيف سأصعد الآن إلى غرفتي... وكيف سأهبط!؟" لا! لا تذهبو بأفكاركم إلى الجحيم! هل تظنون أنني سأطلب هذا من وليد؟؟ في غرفة الضيوف استقبلت ضيفتي بعباءتي ووشاحي... وكأنني لست من أصحاب المنزل... وكان وليد هو الذي فتح لها الباب وقادها إلى الغرفة. "واو! ما هذه الأناقة يارغد؟؟ تبدين مذهلة!" قالت مرح مازحة وهي تتأملني, فأجبت وأنا أرفع رأسي وحاجباي وأغمض عيني مفتعلة المكابرة المازحة: "لا تحاولي مضاهاتي! احترقي غيرة!" وضحكنا مرحتين. وحقيقة اعتادت مرح وجميع الزميلات على رؤيتي بمظهر رسمي عادي... في الجامعة لم أكن أرتدي غير الملابس الرسمية ولم أكن أضع أي مساحيق أو حلي كما تفعل هي ومعظم الطالبات... بعضهن يحملن عدة التزين معهن عوضا عن الكتب! أما أنا فلم أتزين منذ أن.... سافر والدي للحج... العام الماضي... ولم يعودا... وكما تعلمون بقيت في منزلنا في المدينة الصناعية تحت مرأى وليد إلى أن احترق المنزل... ثم عشت في شقة سامر إلى أن بلغنا مقتل الحبيبين رحمهما الله... وانتقلت بعدها إلى مزرعة الشقراء... ثم إلى هنا... ثم إلى منزل خالتي... كالمشردة الضائعة بلا مأوى...مغلفة بسواد عباءتي... لاحظت مرح شرودي فقالت: "ابتسمي وأريني جمالك الحقيقي". فابتسمت بعفوية فقالت: "رائعة جدا! ستبهرينه بالتأكيد!". تقوس حاجباي استغرابا وسألت: "أبهر من؟". فضحكت مرح ثم قالت: "الرجل الذي ستتزوجينه ذات يوم..." آه! يا لأفكارك السخيفة! أما هي فتابعت: "فنانة.. جميلة... خلوقة ومن عائلة راقية.. وابنة مليونير كبير!... سينبهر حتما". قرصت يدها قرصة خفيفة وقلت: "دعك من هذا... أخبريني كيف هي الجامعة؟ والزميلات؟؟" وأخبرتني بعدة أمور كان أكثر ما أثار اهتمامي هو المعرض الفني الذي يقام حاليا في إحدى القاعات, بإشراف شقيقها, والذي شاركت هي فيه ببعض لوحاتها. وأعلمتني بأنها ومجموعة من زميلاتنا قد اتفقن على حضوره يوم الغد, اليوم الأخير للمعرض. وكانت مرح قد سبق وأن أخبرتني عن المعرض عندما كنت راقدة في المستشفى... قلت: "غدا آخر يوم؟" فأجابت: "نعم". قلت: "يا للخسارة! كم تمنيت الحضور". فقالت وقد لمعت فكرة في عينيها: "ولم لا رغد؟ تعالي معنا فكلنا سنذهب غدا ونقضي وقتا رائعا". قلت وأنا أشير إلى عكازي: "وهذا". فقالت: "وما المانع؟ ألست تستطيعين السير؟؟ لا تفوتي فرصة كهذه رغد". وكبرت الفكرة في رأسي بسرعة.. وشجعتني مرح حتى آمنت بها وقررت الذهاب!
أنت تقرأ
أنت لي (مكتملة)
القصة القصيرةرواية رائعة رومنسية حزينة تحكي عن شابة و إبن عمها فرقتهما الأقدار بسبب أحداث كثيرة لكنهما يجتمعان من جديد و يكملان قصة حبهما