17

701 18 7
                                    

الجزء السابع عشرة

اعتاد أهل القرية أن يستقبلوا قوافل الصيف استقبالًا عظيمًا.. يخرج فيه الجميع لغناء الأهازيج وتحيتهم ونثر الورد عليهم.. تقديرًا لهم وتعظيمًا لعملهم
فمهمة تأمين الزاد هي اهم مهمة لبني جلمود.. لأن الشتاء في منتصف الصحراء لا يكون هيّنًا
النباتات لا تثمر.. والحيوانات تزيد شراسة.. فبذلك تكون مهمة الصيد صعبة جدًا وخطيرة

لم يشارك رجاله انتظار القافلة، بل فضّل الجلوس في منزله وقراءة ما تيسر له من القرآن لحين عودتهم

كان يقرأ بتدبّر شديد.. يقرأ لهفة وشغفًا لاكتشاف خبايا القرآن
فإن قراءة القرآن بالنسبة لشخص يتقن العربية الفصحى.. ليس كقراءة أي شخص آخر
فالعربي أعلم بمعاني أدق تفاصيل الكلمة.. وأعلم بتغيير المعنى الذي قد يصاحب أي تغيير في الحركة أو الموضع
كما أنه متلهف لتعلم المزيد.. عن نبينا إبراهيم، وعيسى، ويوسف، وبقية الانبياء والصالحين.. وخاتم الانبياء والمرسلين.. محمد عليه افضل الصلاة والتسليم

كان قد فكّر بترك القرية والهجرة إلى مكانٍ آخر يستقبله بدينه الجديد.. ويسمح له بالصلاة والصيام كما فُرض على كل مسلم.. ولكن نفسه الجلمودية أبت التسلخ من المسؤولية الضخمة التي أوكلت إليه.. وهي تأمين الزاد.. فإن أهل القرية يعتمدون عليهم.. وليس لمستضعفيها سواهم.. وهم أهله، وإن اختلف دينه عنهم

أجل موضوع هجرته لوقتٍ آخر.. فبالاضافة إلى مهمته، هو يجهل كل شيء خارج هذه القرية والصحراء حولها

فهو لم يعرف سوى الصحراء في حياته.. والعالم حولهم أشد تعقيدًا من العيشة البسيطة في القرية
ولذلك سيأجّل أمر الهجرة.. على الاقل حاليا

***

سحبهم الرجال من أرجلهن وأوقعوهن على الأرض الرملية
سمعت صرخةً حادة من رفيقتها في الرحلة، والمصيبة.. علياء

علياء تصارخ وتصيح: آآآآآي ايدي.. كسروا لي ايدي.. آآآآخ

شما تحاول تتقرب منها بتحريك حوضها: شو استوا بسم الله بلاها ايدج

عليا: عقوني على ايدي "تصيح بصوت عالي" آآآآآي ايدييي الله ياخذهم ااااه بموووت

شما: بسم الله عليج حبيبتي عليا.. حاولي تحركين ايدج اشوف

عليا تنرفزت: كيف احركها وهي مربوطة

شما: مادري حاولي شوي من صوب الاكتاف خلينا نشوف صدق انكسرت

عليا بغضب: يعني لو انكسرت شو بتسوين؟؟؟ دخيلج شما خليني في حالي كفاية علي اللي فيني

أحد الرجال تقرّب من عليا يلمس ويهها: لم أرى وجهًا بهذا البياض والصفاء من قبل

زميله يشاركه الفعل: اتفق "مسك ويهها من أطرافه" كيف يمكن للمرأة أن تمتلك وجهًا كأنه لبن النياق

كانت شما تنظر إلى علياء المنتحبة بعين دامعة وقلب يرتعد من الخوف.. ليس هنالك أقسى من منظر امرأة ضعيفة بيد رجال شهوانيين.. كانت تدعي الله من أعماق قلبها أن لا يمسّوها بسوءٍ.. كان منظرها يفطر القلب.. مغمضةً عينيها، وترص على شفتيها ودموعها لا تتوقف.. كانت رافضة بكل جوارحها لمساتهم المحرّمة والمقززة.. ولكنها مقيدة.. ومعدومة الحيلة

لم تكن علياء تفكر بشيء سوى شرفها وعرضها الذي يقع على جرف من الهاوية

الرجل: علينا أن نستأذن الشيخ قبل أن نجربها.. أخشى أن يهلّ علينا غضبه إن كُشف أمرنا

الرجل الثاني: وكيف سيكشفنا؟ "كان ينظر إلى علياء بنظرة ولع ورغبة" لا يمكنني مقاومتها "وضع يده على يديها" لم ترى عيني أو تمس يدي امرأة أشد منها طراوة ونقاوة

الأول يشاركه اللمس: وأنا مثلك.. ولكنني أخشى من الشيخ.. فهو قاسٍ لا مجال للتفاهم عنده

الرجل الثاني: معك حق.. أخشى أن يحرقنا احياءً!

***

كان على ناقته يتصدر القافلة وقلبه يسبق عيونه إلى ذلك المكان الغريب شكلًا ومضمونًا.. بالحديد والكهرباء وعجائب لم يسمع عنها من قبل

ولكنه وجه خطاه إلى مكان آخر.. أكثر ألفة ودفئ
كانت النياق المستخدمة للامتطاء معدودة.. ومركوبة من قبل قادة القافلة

أما بقية النياق فكانت للتحميل، يقودها بقية الرجال اللذين يمشون على أرجلهم

فور دخولهم للقرية وجدوا باستقبالهم عددًا لا بأس به من النساء والأطفال، وكبار السن.. بوجوه باسمة.. ينشدون بعض الاغاني شكرًا وامتنانًا لمن أمّن لهم زاد الشتاء

توجّهت القافلة إلى مخزن القرية الكامن بالقرب من منزل الشيخ كليب، والذي يحوي زاد الشتاء

بدأ الرجال بإنزال الحمولة وتسليم النياق والأدوات للقافلة الأخرى المكلفة بالصيد بقيادة عفريس المجهجه

توجه هو إلى منزل شيخ القبيلة ووالده بالتبني ليحييه ويبلغه بإتمام المهمة، ومن ثم توجه إلى صديقه الذي غاب عن بقية القافلة

كعادته دفع الباب بأريحية تامة ودخل المنزل
رأى عفريس يقعد على قماش رفيع بالقرب من الجدار، وبيده القرآن

حرب حيّاه: سفكنا الدماء

عفريس ما رد عليه

حرب باستغراب اقترب: ألازلت تقرؤه؟

عفريس رفع راسه بهدوء: نعم

حرب يلس عداله: لقد بدأت بقرائته بنهم، ولكنني انشغلت بالصيد وتقاعست عن القراءة

عفريس هز راسه

حرب طالعه باستغراب: هل أنت مريض؟

عفريس: لا

حرب: إذًا ما بك؟

عفريس قام: لا شيء.. سأعيده للداخل

حرب يطالع لبسه المكون من إزار طويل وقميص واسع

حرب لحقه: لم غيرت هندامك؟

عفريس بهدوء: لقد أسلمت

حرب تم يطالعه بصدمة، كان يترياه يقول بإنه يمزح

عفريس يكمل: نطقت الشهادة أمام شما وصديقتها

حرب بنفس النظرة: جاد؟

عفريس: هل تبدو علي أمارات المزح؟

حرب سحبه من قميصه بغضب: هل جننت؟

عفريس: لقد تعقلت والتمست النور والهداية أخيرًا.. لله الحمد والمنة

حرب بيتخبل: كيييف تغير دينك هكذا؟ بهذه السرعة؟ هذه ليست مزحة ولا فتاة تعاشرها وتغيرها كما شئت

عفريس انزعج من ذكره للنساء: أعلم بذلك

حرب: إذًا لم فعلته!!!! هل تريد تدمير تاريخنا؟

عفريس رفع عينه له بحدة: وبماذا نفعنا التاريخ؟ حفظناه وحرسناه بقلوبنا ودمائنا بما فيه الكفاية.. دعني أعيش كما أريد وسأدعك كما تريد.. دينكم لا يناسبني وهذا ما كنت أشعر به منذ زمن بعيد

حرب: بعد أن انتصفت الثلاثين تقول بأن ديننا لا يناسبك؟

عفريس: لم يناسبني يومًا.. لا دار الخزيم ولا خزعبلات شيحان.. وأنت تشاركني الاعتقاد لا تتدعي الجهل
لطالما شعرت بالخواء وكنت ابحث عن شيء يملؤني من الداخل.. بحثت عنه في الخمر والنساء والقتال.. ولم أجده.. لم أجد سوى القرآن يملؤني.. وعبادة الله تقوّمني وتزيّن الحياة بعيني بعد أن كانت بلا معنى

حرب مقتنع باللي يقوله عفريس الا انه يرفض التغيير ويخاف على قبيلته أكثر من نفسه: كما تشاء ولكن إذا أردت تغيير دينك كما تقول فارحل.. لا مكان لك بيننا

عفريس بعدم اهتمام: سأرحل.. وستتبعني أنت قبل أي أحد.. أنا أعلم الناس بك يا حرب.. أنت أول من رفض دينهم وأول من اعتزلهم هم وعاداتهم.. دعنا نرحل معًا.. أو نجلس ونحاول هدايتهم

حرب أغلق أذنيه بتصرف طفولي لا يليق به وابتعد عنه ولم يغلق الباب خلفه

ابتعد عن عفريس وكأنه نار تلسع.. لا يريد سماعه، ولا التفكير بكلامه، لأنه يعلم بأنه لامس قلبه
بالفعل هو من أول المتنكرين لدينهم.. وهو أول الرافضين لعاداتهم.. ولكن الأمر بنظره يفوق اعتناق دينٍ أو الانسلاخ منه.. تغيير أساس من أساسيات القبيلة يهدد أمنها وأصالتها.. وقد يشتتها ويمحيها وهو لن يسمح بذلك مهما كلفه الأمر

***

نشت عاقدة حواجبها بضيج من صوت رنة التلفون.. أكيد هذا حميد.. محد يتصل بها أصلًا غيره

ردت بصوت كسلان: الوو

حميد بصوت محب: صباح الخير حبيبي

خولة فتحت عيونها بصدمة من الكلمة: نعم؟؟

حميد قهقه: هههه قلت صباح الخير حبيبي

خولة ضحكت بخجل: هههههههه نعم؟ وعلى كيفك تقرر انك تزقرني بهالكلمة؟

حميد بعناد: هيه.. أنا قررت إنج حبيبة الصبح وكل وقت.. وإنج تستاهلين هالمسمى.. وأنتي عاد كيفج مب شرط تقلديني وتقولينها

خولة بدلال فطري: وليش ما بقولها؟

حميد بابتسامة: مادريبج.. إذا مترددة أو ما تبين.. أو تستحين.. في كل الحالات ما بضغط عليج "وقال بحب" وما بحرم نفسي من لذة الكلمة

خولة ابتسمت: يبالي وقت لين اتعود

حميد: خذي راحتج.. والحين نشي تغسلي وترتبي، وتعالي الكلاس صبحي علي بويهج الحلو، طول علينا الليل

خولة بحيا: انزيين.. يلا عيل برمسك يوم بطلع

حميد: بترياج

مددت يديها للأعلى بنشاط بفعل المكالمة الحلوة.. التي حفّزتها على الابتسام رغمًا عن روتينها الممل
نهضت محاولةً تجاهل النغزات التي تتسلل إلى قلبها في كل مرة تنهي مكالمةً مع حميد.. النغزات التي تذكرها بأن فرحتها هذه محرّمة، وبسمتها محرّمة.. وكل فعل أو شعور مرتبط بحميد.. هو حرام.. ولا بركة في الحرام

اتجهت لدورة المياه، كما طلب منها حميد.. بطريقة روتينية أنهت استعداداتها.. وأعدت شطيرتان واحدة لها والأخرى لشقيقها الصغير

وخرجت وكأن ضميرها لم ينغزها منذ دقائق، اتصلت بحميد.. رنتان اثنتان وأغلقت.. كما تعوّدوا.. وأعاد هو الاتصال بها ليتحدثان بلا نهاية.. كعادتهما في الايام السابقة

***

خرج من القرية بعيون تلمع من الشرر، إلى نفس المكان الذي كان قد عاد متلهفًا له
كان متوجهًا إليها

كان يفكر بها.. وبالشيطان خلف براءتها.. ستزعزع أمن القرية فعلًا كما قالوا
وبدأت بعيار ثقيل ابتداءً بقلبه، مرورًا بعفريس ابن الشيوخ، الذي انقلب حاله.. ولم يعد عفريس هو نفسه عفريس! شعر بغضب عارم في قلبه عليها.. كيف خُدع بها!

شعر بحركة بالقرب منه.. قلّت بعد أن انتبه عليها حتى شعر بتوقفها.. حرك عينيه بدون أن يحرّك وجهه بمهارة اقتناص عالية.. ولمح قميصًا ملوّنا يختبؤ خلف شجرة صغيرة

قرر تأجيل المهمة الشرسة التي قرر عملها اليوم وعاد ليوهم الطرف الآخر بأنه لم يرى شيئًا

عاد خطاه إلى القرية بحواس متأهبة لأي حركة أو صوت.. وتوقف في نقطة غير مرئية لمن هو خارج القرية

وكما توقع بدأ الشخص الآخر بالتحرك والاقتراب إلى نقطة معينة والتوقف والانتظار لفترة من الزمن والمشي حول المنطقة، ومن ثم رحل إلى متجهًا إلى المخيم

***

عاد بخفّي حنين.. والتوتر قد بلغ به مبلغه

كان قد رسم العديد من الخطط طوال الليل.. كان يفكر كيف سينقذهم؟ وما بين الأفكار البطولية والأخرى الجبانة.. كان يتأرجح.. ما بين إخبار الحكومة بما رأى.. أو أن فعله قد يعرضهم للمزيد من الخطر.. خصوصًا وأن العدو هذه المرة لا يأبه بالسياسة، ولا الأسلحة
بل على العكس.. يبدو كالذي نراه في الأفلام الوثائقية.. ولم نظن أنه موجود على سطح الكرة الأرضية

والفكرة الأشد بالنسبة له، أن الابلاغ عن حادثة اختطاف لفتاتين من بلاده، أمامه، من عدد من الرجال وهو واقف بلا حيلة، يعتبر وصمة عار على تاريخه العائلي، فكرة ستعرّيه من النخوة والرجولة بالمقاييس العربية ولن يلتمسوا له أي عذر

فتح بوابة المخيم على أصواتٍ عالية وضحكات ومجاملات لا تنتهي

علا صوت أخيه الأكبر: يالطيب.. أشوفك بثيابك (بتهديد) بنطير عنك ترانا

بو عبيد اقترب منه: مرحب بو حمدان (يقصد سيف) اسمحلي عاد أنا ما برد وياكم عندي شغلة بخلصها وبرد

سيف عقد حواجبه: شغلة شو بعد هني؟

بو عبيد يبتسم بتمثيل: تعرف أخوك فيه دودة ما تبرد ان ما طلع النون وما يعلمون

سيف ربّت على كتفه: الله يقويك يا خوي.. وهالله هالله في بو راشد لا ترص عليه

بو عبيد بتهكم: ولا يهمك.. بخنقه

قهقه سيف وهو يصد على خالد اللي مبين عليه الضيج، واتجه لشخص ثاني من الوفد يسولف وياه

بو عبيد: يالله عيل سيف درب السلامة وربي يحفظكم.. اسمحلي أنا تعبان شوي بسير بريّح.. وسلم على الشباب

سيف: يوصل.. وماتشوف شر

بو عبيد رفع له ايده تحية واتجه للسكن يكمل التفكير بطرق ممكن تنفعه في حل هالمشكلة

***

كان على بعد شعرة من لكمه، وهو يسمعه يتفاخر بقدرته على تصيّد اخطاء الآخرين.. وإصراره على البقاء بالرغم من رحيل الوفد

كان غاضبًا من أول الصباح، عندما وصله خبر غيابها المفاجئ، بحث عنها في كل بقعة في المخيم، حتى أنه أرسل أحد النساء إلى غرفتها لإيقاظها في حال كانت نائمة، ولكنها لم تكن
بل تبدو كمن خرجت في رحلة باكرة

كان يبحث عنها بعينيه بين الحينة والأخرى.. لعلها عادت.. ينتظرها على أحر من الجمر، لينزل عليها سوطًا من الصراخ والشتائم التي تطعن باحترافيتها ومدى أهليتها لأن تكون في فريق عالي المستوى كفريقه
ولكنها لم تحقق مناه.. ولم تعد

***

كانت تنتحب بألم ودموعها قد غطت وجنتيها المحمرّتين

شما المربوطة بجانبها: خلاص عليا حياتي لا تعذبين عمرج بهالطريقة الصياح ما ينفع

عليا ميتة صياح: شو اسوي يعني ارقص.. بيذبحونا اللي ما يخافون الله بيذبحوناااا.. كله منج.. مليون مرة قلتلج هذيل ما منهم أمان مابنسير لهم اصريتي انهم زينين

شما وعقدة الذنب تخنقها: صح كلامج.. انا اسفة.. سامحيني.. لو ماشليتج وياي جان ماكنتي في هالحال.. ما في شي بينفعنا الحين.. ادعي.. توجهي لله وادعيه ان شاءالله ينزل علينا الفرج

عليا تصيح بصوت عالي: آآآآه يا ربي.. يا ربي يا حبيبي ساعدني.. بموت.. ماتحمل.. ياربي ناوية اتوب والله ناوية اتوب ساعدني وسامحني.. لا تخليني اموت بهالطريقة وهالمنظر اللي يسود الويه.. آآآه يارب عذبهم ولا ترحمهم من اكبرهم لين اصغرهم.. يارب انتقم لنا منهم

شما بخوف: علياء شو يخصهم كلهم ادعي على اللي خطفونا

عليا بصدمة صرخت: أنتي غبيييية؟؟؟؟؟ تستهبلين؟ بعد كل اللي سووه فينا تدافعين عنهم؟

شما: ما ادافع بس اقولج ان مب كلهم مذنبين

عليا بصياح غاضب: قصدج حبيبج الزفت؟؟؟؟ يا رب خذه وعذبه ولا ترحمه ولا تذوقه راحة البال ولا ثانية يارب يموت موتة الجلب ولا يحصل حد يساعده

شما خافت عليه من دعاويها.. وزاد خوفها يوم تذكرت إنه طالع رحلة صيد

هي بالفعل تحمّل نفسها مسؤولية ما جرى.. هي مجنونة ومتهورة.. وتعلم بذلك.. اعتادت على المغامرات والأذى الجسدي منذ الطفولة.. أما علياء.. الوردة الرقيقة.. ليست مثلها.. فهي لا تحتمل أدنى خدش قد يمر على خدها.. فما بالكم بقسوة بني جلمود؟

حركت ناظريها على المكان الذي وُضعوا فيه
كان بيت من قش.. بلا أرضية ولا غرف.. عبارة عن مربع صغير يقبع في مكان معزول داخل القرية.. لم ترى أو تسمع حوله أي صوت

***

كان يحوم حول القرية وهو يفكر بما قاله عفريس، توقّع أن يتنحى عن قيادة القافلة بعد إسلامه.. ولكن حمدًا لله أنه أكمل مهمته كما خطط من قبل ولم يفضحنا في أهلنا

قرّر إمهاله بعضًا من الوقت لحين عودته وسيحاول مناقشته بالموضوع بطريقةٍ أهدى عله يقتنع
متيقن بأن رأس عفريس من حجر.. ودمه، كبقية بني جلمود من لهب.. ويبدو جادًا بقراره، ولن يستطيع ثنيه عنه أحد

رأى نفس الرجل الذي رآه منذ يومين.. بلباس غربي يحوم بالقرب من بقعة وكأنه يتفحصها أو يبحث عن شيء في رمالها.. متأكدٌ بأن الرجل قد جاء من مخيمها.. فالهيئة واللباس لا يختلفان عنهم

اقترب منه حرب بسرعة خاطفة وقبضه من قميصه وبدأ يتفحص وجهه: لا يبدو عليك ناويًا للشر

تراعد الرجل بمكانه مع القبضة ونظر إليه نظرة خوف

حرب بحواجب معقودة: ماذا تريد؟

بو عبيد يحاول يفلت منه: هددددنيي

حرب بابتسامة: لن تستطيع الإفلات بالقوة.. أجب على سؤالي وسأفلتك

بو عبيد بغضب: ما يخصك.. هدني احسن لك!! ماذا تريدون منا

حرب: أنت من يحوم حول قريتي.. اخبرني مالذي تخطط له

بو عبيد بنرفزة: أنتم من اختطفتم بناتنا.. ارجعوهن!!!

حرب باستغراب: خطفنا بناتكم؟ من؟؟

بو عبيد: مب شغلك.. وين بناتنا طلعوهم قبل لا ندمر قريتكم

حرب بجدية أنزله ونظر إلى عينه: دعك من عويل النساء وأخبرني بجدية من الذي خطف من؟؟

بو عبيد: رياييل خطفوا بنتين منا

حرب بجمود: شما منهن؟

بو عبيد عقد حواجبه: كيف تعرفها؟؟؟

حرب: أجبني

بو عبيد: هي.. شما وعليا.. خطفوهن رياييل ضخام كانوا هنيه ربطوهن وفروهن على الناقة ومادري وين نفدوهن!

حرب رفع عينه لمكان بعيد: سأعيدهن

بو عبيد: تبري عمرك اونك مب منهم؟

حرب سكت لوهلة.. ثم قال: ارحل إلى قريتك وأنا سأعيدهن كما قلت لك

بو عبيد بإصرار: مستحييل! أنا لازم اي وياك اتطمن

حرب بسخرية: تطمئن على ماذا؟ خطفن أمامك وأنت مكتوف اليدين.. مالذي ستفعله الآن

بو عبيد انجرح من كلامه: ماقدرت اناطحهم.. أنا واحد وهم مجموعة!

حرب: كما قلت.. اذهب وسيأتون إليكم

بو عبيد: اوكي بس خبرني كيف تعرفهن؟ شو اسمك؟

حرب: عندما يعدن اسألهن عن حرب

بو عبيد يهمس: حرب؟

***

فُتح الباب ودخل منه رجل أملط الوجه، بتجاعيد صغيرة

وزّع نظره على المكان وكأنه يتفحصه.. رفع رأسه للسقف، الأرضية، واستقر عليهن

كانت نظرته باردة تعاكس حرارة المكان، والرمل الدافئ تحتهن

بادلنه نظرات تحوي كومة من المشاعر

كانت نظرة علياء ساخطة، باكية، تنتظر إشارة لتكمل انفجار الدموع من عينيها المتورمة

أما شما فكانت أهدأ، كانت مترقبة وتحاول السيطرة على خوفها.. ولكن نظرتها كانت تحوي لمسة اشمئزاز وحنق

ركّز النظر على شما وابتسم ابتسامة جانبية

أطال النظر إليها ثم قال: ستخرجن

لم تتأثر شما، ولا كأنها سمعت شيئًا.. أما علياء فبدأت بذرف دموعٍ لا نهاية لا

اقترب الرجل من شما بثقة جلمودية وتفحص: لهذا أعجب بك إذًا.. قوية.. ذكية.. شامخة.. وجميلة.. لكنت أعجبت بك لو كنت مكانه.. ولكن ولحسن حظك أنا أكره النساء

وخرج بهدوء

***

قبل ساعة من الزمن

سحب ثعبان من رقبته وألقى به على الأرض متجاهلًا ضخامة جسده

كان ثائرًا.. يشعر بسعير بداخله.. ثورته كانت أقوى من أي شيء آخر.. وكان ثعبان أول شيء يقع في يده.. وأول من يذوق غضبه.. وليس الأخير.. فقد قرر بأنه سيحرق كل من يقف بوجهه

رفس الباب الضخم بقوة، وضج المجلس بفعلته هذه

اتجه إلى صدر المجلس وقبض على رقبة الشخص الأملط ذو التجاعيد.. والذي قد تسيّد المكان واستراح بجلسته

بعيون من لهب.. وصوت سام قال: ستعيدهن.. الآن

تجمع عليه عدد من الرجال يحاولون إبعاده عن سيدهم.. والبقية كانوا متفرجين للمنظر السينمائي الذي محال أن يتكرر

حرب.. الشيخ.. يخنق الشيخ ثوبان، عمه بالتبني.. وأشد الرجال نفوذًا في القرية

ثوبان بسخرية: أنت أول من تجاوز الثعبان

حرب: أقسم.. سأحرقك.. إن لم تعدهن الآن

ثوبان يقهقه بسخرية ويوجه كلامه لخادمه: هههه فض المجلس.. أريد ان اتحدث مع هذا الصبي

بعد أن خرج كل من في المجلس

ثوبان: لن أطيل الموضوع.. أو أدعي البراءة.. سأطلق سراحهن مقابل شيء واحد

حرب نزله وهو يطالعه بقلة صبر: ألا وهو؟

ثوبان: ستذهب إلى كليب وتعترف بجرائمك، وأنني قبضت عليك بالجرم المشهود وأنت تحاول الانقلاب عليه وزججت بالغربية لتسيطر على القرية

حرب ضحك من الصدمة: هههههههه "ربّت على كتفه" لديكَ طموح عال أيها العم

ثوبان بثقة: ثوبان بن جمر لا يحلم بل يصنع الواقع كما يهوى

حرب: سأحرص على أن أراك تصنع حلمك.. أما عن النساء.. سأجدهن وأرى الخيبة على وجهك حينها

ثوبان يضحك: ههههههه ستستطيع إيجادهن بلا شك.. فأنت حرب المجهجه.. دمك من لهب.. ولكن بعد أن يحملن أطفال رجالي في أحشائهن

حرب ألقى عليه نظرة حارقة

ثوبان يبتسم بطيف حزن يحاول يخفيه: عليك أن تشكرني لأنني حافظت عليهن.. كنت سأود لو أحظى بشرف قتل قلبك.. ولكنني أشفقت عليك

سكت حرب.. كان يحاول التفكير بحل.. إما شما.. المحبوبة الأولى والوحيدة.. التي قد طرقت باب قلبه بخجل.. أو مستقبله.. ومستقبل القرية

إما هي أو الجميع

عاد ثوبان إلى مكانه.. وقد تناول حبة دوم يسلّي بها نفسه وهو ينظر إلى حرب الذي يعلم بأنك يوشك على الانهيار.. بغض النظر عن الصلابة التي يدّعي بها

حرب بعد فترة من الزمن: سأفعل كما طلبت

ثوبان وقف ببهجة: كما توقعت.. لن تدع بني جلمود يذوقون ما لم تذقه "غمز" أليس كذلك؟

حرب سكت بغيظ

ثوبان: لنباشر بالأمر

حرب: أريد أن اتأكد من مغادرتهن

ثوبان مد يده باتجاه الباب بمعنى يمكنك الذهاب!


نهاية الجزء السابع عشرة

سلالة من لهبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن