37

120 16 24
                                    

انطلقَتْ بنا السّيّارةُ في حدودِ العاشرةِ صباحاً إلى غربِ البلاد ، قَدْ أكونُ سخيفة ، لكنّها فعلاً المرّةُ الأولى التّي أجلسُ فيها في مقعدِ سيّارةٍ أماميٍّ هكذا ، أفتحُ الزّجاجَ بحريّةٍ تامّة ، أحسُّ بالهواءِ يتدفّقُ بسرعةٍ خانقةٍ إلى ملابسي و إلى وجهي ، و ألاعبُه براحتي ، كانَ شعوراً مميّزاً جدّاً ، إلى حدِّ أنَّني لم أكن سأمانعُ لو متُّ في خضمِّ تجربته.
و أمّا العزيزُ إلى قربي ، فكانَ يصبُّ تركيزَه على الطّريقِ طوالَ الوقت ، بقلقٍ و ليس فقط بإمعان ، لا أدري لو كانَ لاحظَ حركاتي الهوجاء ، لكنّني لحظتُه ، لحظتُ كيف أنّه لم يزد سرعةَ السّيّارةِ عن الحدّ الأدنى أبداً ، و كيف لم يقدر على تبديدِ لحظةِ تركيزٍ واحدة ، كانَ غريباً ، غريباً عن عادته.
انتظرتُ ريثما أبطأ من سرعتِه و توقّفَ جانباً ، و قرّرتُ أن أبدأه الحديثَ بأيّةِ طريقةٍ كانت ، فهذا الوضعُ و بعدما لاحظتُه ، أضحى ثقيلاً ، ثقيلاً جدّاً

_"هيسونغ.."

_"لا تتكلّمي رجاءً لونا ، فقط ريثما وصلنا ، رجاءً"

قاطعَني على استعجال ، و عادَ ينهمكُ في أمورِ القيادةِ و المراقبة ، في حينِ حاولتُ ألّا أكترثَ كثيراً ، و عدتُ أضيّعُ تركيزي و أراقبُ السّهولَ و الأحراجَ المجاورة ، رأيتُ قطيعَ أغنامٍ منذُ قليلٍ أيضاً ، أليس هذا.. ظريفاً؟
كانَتْ زرقةُ السّماءِ تبهتُ مع مرورِ الوقت ، و تتداخلُ فيها تكدّساتٌ من غيومٍ رماديّةٍ فاتحةٍ عندَ أطرافِها ، شعرتُ و كأنّنا نعيشُ وحدَنا في الرّبيع ، و كلُّ البلادِ تغرقُ في شتاءٍ كئيبٍ عاصف ، لربّما كانَ خيالاً.
تكاثفَتِ اليافطاتُ الموجّهةُ عندما بلغنا موقعاً ما ، و أصبحَتْ _مع اللّافتاتِ الإعلانيّة_ تغطّي أغلبَ الرّؤية ، هناك يرحّبون بكَ في قريةٍ أو ناحيةٍ ما ، و هنا يدعونكَ للنّزولِ في فندقٍ يزعمون أنّه الأفضلُ في المنطقة ، و هنالك يحدّثونكَ و يبهرونكَ بصورِ منتجٍ عملاقة ، و عندما انعطفنا ، لاقانا جسرٌ كبيرٌ يدلُّ على المدينة ، و يحملُ عند أسوارِه عدد لوائحَ إعلانيّةٍ لم أشهد مثله في حياتي ، لأطبّاءَ و محامين و مراكزِ تجميلٍ و تسوّقٍ و أكثرَ و أكثر و أكثر ، أذكرُ أنّني كنتُ آتي في طفولتي إلى هنا لقضاءِ إجازةٍ مع عائلتي ، لكنّني لا أذكرُ وصفاً واحداً من الأوصافِ الآنفة ، لقَدْ تغيّرَ كلُّ شيءٍ فعلاً.
نظرتُ مجدّداً إلى هيسونغ ، لم أستطع أن أقمعَ أفكاري السّوداءَ أكثر ، كنتُ أحاولُ تضليلها و حسب ، و لم تضلّ ، كانَتْ قادرةً و مع كلِّ استفاقةٍ لطاقاتِها على أن تفقدَني ، و لوقتٍ محسوس ، قدرتي على التّماسك ، هل أبدو متعبة؟
اختطفَ نظرةً إلى وجهي بعدَ مدّة ، شعرتُ أنّني أخذتُها من دربِ المرايا ، و لم يكرّرها مطلقاً ، ظلَّ ساكناً حتّى علقنا في الزّحامِ في وسطِ المدينة ، و اضطرَّ لأن أبطأ من حركةِ السّيّارة ، أدارَ عندها مفتاحَ المذياع ، و شغّلَ أغنيةً قديمةً لفرانك سيناترا ، تُدعَى "عميقاً في حلم" ، لا أدري لو كانَتْ صدفة ، لكنّها جميلةٌ جدّاً ، فتشغيلُ هذه الأغنيةِ جعلها تبدو منبثقةً عن حلمٍ غائرٍ عميقاً في الذّاكرة ، إلى وقتِ كان صدى هذه الأغنيةِ بالذّاتِ يتردّدُ ما بين جدرانِ بيتِنا في المساءاتِ النّاعسة ، كانَ أبي يحبُّها كثيراً ، و لم نكن نملكُ غير شريطِها الكثير.
دخلَتْ بنا السّيّارةُ شارعاً طويلاً جدّاً ، خاوياً من النّاسِ و نظيفاً بالتّالي ، تتوازعُ الأشجارُ دائمةُ الخضرةِ على جانبيه ، و الأعشابُ في ميلانه الخفيفِ الغريب ، كانَ مشهداً خارجاً من الصّيفِ أو الرّبيع ، مشهداً أخرجَني بدوره من حقيقةِ أنّنا في الشّتاءِ الآن ، بيدَ أنّ البرودةَ ما بلغته ، و ما استطاعَتْ أن تفعل.
ركنَ هيسونغ السّيّارةَ إلى جانبِ الطّريق ، أطفأَ المُحرّكَ و أنا أراقبُه ، ثمَّ أرجعَ رأسَه إلى الخلفِ و أغمضَ عينيه.
اقتربتُ منه بعضَ الشّيء ، تحسّستُ برودةَ جبهته بيمناي ، و مسحتُ عليها بحنوّ ، فتحَ عينيه ، ثمَّ و بسرعةٍ غريبة ، حدّقَ في لبِّ عينيّ ، و تنهّد

نغماتٌ فتيّة~لي هيسونغحيث تعيش القصص. اكتشف الآن