44

100 12 21
                                    

مرتميةٌ فوق سريرٍ مجعّدِ الملاءاتِ بملابسِ أمس ، هاتفي يرنُّ و يضيءُ إلى قربي كلَّ هنيهة ، و جسدي مرهقٌ أكثرَ الإرهاق.
يومُ عودتي الثّاني يمرُّ بأثقلَ من سابقِه ، ربّما ظلَّ امتداداً له ، امتداداً لأثقلِ أيّامِ العمرِ يزدادُ مقتاً مع كلِّ ثانيةٍ تمضي ، أشعرُ بدقّاتِ السّاعة ، واحدةً واحدة ، بين كلِّ دقّةٍ و تاليتها زمنٌ طويلٌ جدّاً ، زمنٌ يفوقُ الثّانية ، يفوقُ الوقتَ إلى اعتباراتٍ أُخرى مختلفة ، مختلّة ، مُؤرقة.
و على سيرةِ الأرق ، لقدِ اكتشفتُ ماهيّتَه حديثاً جدّاً ، كنتُ أحسبُه رفضاً للنّومِ يحكمُ في ليالي الدّوامِ المدرسيّ بعد العطلة ، ظلَّ هذا المفهومُ وحيداً لديَّ حتّى البارحة ، إذ ما غمضَ لي جفنٌ إلّا بالإجبار ، و ما فتئتِ العتمةُ تبلغُ أحاسيسي حتّى تعودَ و تنجلي..
لم يكن رفضاً للنّوم.. كانَ رفضاً للذّاتِ ربّما..
رفعتُ رأسي إذ يئستُ للمرّةِ العاشرة ، كنتُ أتردّدُ طوالَ اللّيلِ إلى المطبخ ، أتناولُ ما تركتِ البناتُ فيه ، و أعودُ إلى ساحةِ معركتي مع ذاتي من ثمّ ، و أُغلَبُ بنتيجةٍ ساحقة ، أمّا الآن ، فقَدْ أعلنتُ استسلامي مع طلوعِ الشّمس ، و لم يعد لي خيارٌ سوى أن أتركَ المسكنَ بظلالِ القهرِ فيه ، و أبحثَ لي عن موقعٍ جديدٍ أعقدُ فيه الهدنة ، و أعيدُ إلى رأسي الأمانَ من جديد.
دخلتُ الحمّام من ثمّ ، تنعّمتُ بالمياهِ السّاخنةِ على طولِ نصفِ ساعة ، لأوّلِ مرّةٍ في هذا المكان ، يمكن ، في الأحوالِ العاديّةِ ، أن أعيدَ تهيئةَ بدني لاستقبالِ الرّاحةِ بهذا الأسلوب ، بيدَ أنّني اليومَ بالذّات ، اكتسبتُ بعضَ النّشاطِ عوضاً عن ذلك ، و بالتّالي ، ازدادَتْ رغبتي في الهرب.
جفّفتُ شعري ، و ارتديتُ ملابسَ تكافحُ الصّقيعَ في الخارجِ إلى حدٍّ ما ، بنطالٌ مخمليٌّ سميكٌ و كنزتان مع سترةٍ منفوخةٍ مطريّة ، سأحتاجُ أيضاً إلى وشاحٍ و قبّعةٍ من الصّوف ، قبّعتي أضعتها أمس لا أعرفُ أين ، أمتلك وشاحاً فقط ، و سَيَفي بالغرض.
التقطتُ هاتفي من فوقِ السّريرِ و أسرعتُ الحذوَ إلى الباب ، شغّلتُه لأتفحّصَ السّاعةَ قبلما خرجت ؛ السّابعةُ صباحاً ، موعدٌ ممتازٌ للعدوِ في حديقةٍ عامّة ، و سمّاعاتي بحوزتي أيضاً.
فتحتُ البابَ بهدوءٍ شديد ، كنتُ سأركضُ إلى الخارجِ فعلاً ، لولا ثلاثةُ أسبابٍ مانعة ، الأوّلُ أنَّ درجَ القبوِ لا تصلُه الشّمسُ و لستُ مستغنيةً عن عظامي بعد ، الثّاني أنّها تمطرُ و لن أستطيعَ العدوَ في مكان ، و الثّالثُ و الأخير ، يجلسُ كالمجنونِ فوقَ الأرض ، يسندُ رأسَه إلى الجدار ، و يبدو أنَّه غافٍ منذُ وقت.
قربتُه شبهَ قلقة ، قربتُه أدوسُ في دربي على كرامتي و على جراحي كلِّها ، لا أعرفُ ما خطبُه ، و لا أنكرُ أنّني قلقةٌ عليه أيّاً يكن ، فهو حُبُّ حياتي الأكبر ، خذلَني نعم ، و خذلتُه أيضاً من قبل ، هذه الحياةُ أليست تسيرُ بهذا النّهجِ منذ بدايتها؟
أعني.. لو أنّ شيئاً كالخذلانِ ينهي العلاقات ، ألم يكن آباؤنا ليتركوا بيوتهم منذُ القرنِ الماضي؟ قبل أن يبلغَ فينا الحنين؟

نغماتٌ فتيّة~لي هيسونغحيث تعيش القصص. اكتشف الآن