49

112 14 4
                                    

ما انفكَّتْ دموعي تجفُّ طوالَ ساعاتٍ إلّا و عادَتْ تنهمرُ بغزارةِ أوّلِ مرّة ، و على إثرِ ألفِ وجعٍ و وجع ، كلّما سكنَ واحدٌ ينهضُ غيرُه ، و كلّما اطمأنَّ قلبي عادَ و غُرِسَ بألفِ رمحٍ قتّال ، أنا غيرُ مطمئنّة.. كلُّ شيءٍ غريبٌ و مُرعِب.. أنا.. أنا خائفة..
أنا جالسةٌ منذُ وقتٍ في صالةِ القريةِ الدّينيّةِ الخاصّة بمجالسِ العزاء ، في النّصفِ النّسائيِّ منها ، حيثُ تصطفُّ المقاعدُ الجلديّةُ جنباً إلى جنبٍ على طولِ جدارين و زاوية ، و تتوازعُ المدافئ المعدنيّةُ كثيرةُ الأحطابِ و الأعطال ، أجلسُ بين كارول و لينا حديثاً ، فقَدْ كنتُ أعاونُ في المطبخِ قبلما جلست.
مرَّ كلُّ شيءٍ كما يفعلُ في الكوابيس ، بلا سرعةٍ منطقيّة ، كيف جئنا من المدينةِ و كيف وصلنا و العصرُ معاً إلى القرية ، كيف بكينا و انتحبنا و ترامينا على أهلنا ، كيف بدّلنا ملابسنا إلى ملابسِ الحدادِ في المنزل ، و كيفَ صلّينا معاً لأجلِ عمّي كعائلةٍ واحدة ، تلك العائلةُ التّي فتّتتها قسوةُ الزّمان ، لم أنتبه حتّى إلى أنّ إيڤانا كانَتْ معنا ، كلُّ شيءٍ سارَ بأسلوبٍ غريبٍ خارجٍ عن الوعي ، أتمنّى لو أنّني فعلاً عالقةٌ في قلبِ كابوسٍ ثقيل ، و سوف أستيقظُ بعدَ دقائق و أنساه برمّته ، أتمنّى..
أخذتُ نفساً عميقاً ، تلفّتُّ من بعدِه فيما حولي ، لمحتُ إيڤانا في الصّفِّ الأيمنِ تجلسُ إلى قربِ اثنتين أعرفُهما ، لقَدْ تفاجأتُ بحضورِهما لأكونَ صريحة ، لكنَّني لا طاقةَ في داخلي تستقبلُ التّفاجؤَ أو علاماتِه و نتائجه ، إحداهما والدةُ إيثان ، و الثّانيةُ شقيقتُه ، تلك التّي بدأَتْ إشعالَ آخرِ الحرائقِ في حياتي المُهترِئة.
لم أفكّر في الأمرِ كثيراً ، لم أستطع بصراحةٍ سلكَ أيِّ مسارٍ حديثٍ في قلبِ التّشوّشِ العظيمِ القائمِ في رأسي ، و بدلاً من ذلك ، نظرتُ إلى ناحيةِ الرّجالِ من الصّالةِ الواسعةِ سيّئةِ التّدفئة ، مجلسُ الرّجالِ يقابلُ مجلسَنا ، يبعدُ كثيراً منه ، لاحَ لي أبي من بين الجميع ، يجلسُ سيباستيان ابنُه من غيرِ لحمه إلى قربِه ، كالعادة ، و إيثان و روي في الجهةِ الأُخرى ، على خلافِها.
لم أتوقّع أنّه سيكونُ هنا ، في القريةِ و بين المنكوبين ، لا هو و لا عائلتُه ، لا زلتُ لا أفهمُ كيف خبروا حتّى ، و لستُ مكترثة ، فهم هنا لأجلِ الواجب ، و سوف يرحلون قريباً بغيرِ أن يتعرّضَ لي أحدُهم ، و لكن ، لماذا يزعجُني هذا الموضوعُ عندما أصارحُ نفسي به؟ أعني..
لماذا أناقضُه لا أسيرُ بموجبِه؟ و مع أنّني أطرحُه لأبرّدَ قلقي؟ هل أكذبُ على ذاتي؟ هل أفعل؟
لطمَتْ لينا ذراعي فجأةً ، و أشارَتْ لي بيدِها ، إشارةً لم أستطع لا رؤيتها و لا فهمها ، رأيتُ يدَها فقط تلوحُ خفيةً ، ثمَّ رأيتُها تنهضُ و تسيرُ في الجهةِ المُعاكسةِ لي ، تلاقي أُمّي في مكانٍ ما ، ثمّ تستديرُ و تشيرُ لي من جديد.
نهضَتْ كارول من ثمَّ ، و ضربَتْ على ذراعي الأُخرى كي ألحقَ بها ، لم أشأ أن أفعل ، فقَدْ فهمتُ سرَّ هذه النّقلةِ في قلبِ الحداد ، كانَتْ زيارةُ والدةِ إيثان و أخته قد وصلَتْ نهايتها ، و يبدو أنّ إيڤانا ستغادرُ معهما أيضاً.
أحسستُ أنَّ كلَّ من في الصّالةِ يراقبُ هذا الحراكَ المُفاجئ ، بالأخصِّ أقاربي ، لذلك بقائي هنا ، لن يكونَ لا في صالحي و لا في صالحِ مجلسِ العزاء ، سأخرّبُ كلَّ شيءٍ بعنادي ، و أنا طبعاً لا أريد.
تبعتُ كارول على عجلة ، و وقفتُ إذ وقفَتْ ، كانَتْ ، و غيرُها ممّن ذكرت ، قَدْ حاموا حولَ خالتي و والدةِ إيثان ، إذ قرّرَتِ الأخيرةُ أن تودّعها قبلما ترحل ، و خالتي العزيزة ، بعينيها المُحمرّتين و وجهها المُحافِظِ على حلاوته برغمِ وضوحِ الإنهاكِ و الكربِ فيه ، أرادَتْ شكرَها على حضورِها ، لا أظنُّ هذه المرأةَ ستفهمُ شخصاً بمكانةِ خالتي ، هي ليسَتْ كمثلنا ، خالتي تذوقُ عذابَ الفراقِ مُذْ أعلمَها عمّي بمرضِه ، و تذوقُ عذابَ الوحدةِ إذ أسرّتِ الأمرَ و ما وجدَت من تشكو إليه ، هي متعبةٌ أضعافَ ما تعبَ أيُّ أحدٍ نعرفُه ، آهٍ كم أُحِبُّكِ يا خالتي..
خرجتِ الواقفاتُ أخيراً ، و خرجتُ أنا في إثرهنّ ، لم تخرج خالتي بطلبٍ من أُمّي ، لكنَّها ربّتت عليّ ما إن مررتُ بها ، كم تمنّيتُ البقاءَ بقربها ، كم تمنّيت..
بيدَ أنّها بذاتها ، رغبَتْ في أن أخرجَ معهنّ..
من تلك ليودّعها وفدٌ كاملٌ على هذه الشّاكلة!؟
صفعتني الرّيحُ الباردةُ ما إن وطئتُ بوّابةَ الصّالة ، أوشكَتْ على أن تفسحَ مجالاً لي كي أهربَ إلى الدّاخلِ ، هذا لولا أنّ الجميعَ كانَ يراقبُ خطواتي خطوةً خطوة ، ليسَ هنالك ما يغطّي عليّ ، حتّى الشّمسُ باتَتْ ترمي بضعةَ أشعّةٍ عليّ في آخرِ لحظاتِها اليوم..
تنهّدت يائسة ، و تقدّمتُ رغماً عنّي من تجمّعِ الوداعِ الأخيرِ هذا ، إلى الأمامِ قليلاً من البوّابة ، في أكثرِ نقطةٍ مكشوفةٍ لريحِ الشّمال ، الصّالةُ قابعةٌ فوق مرتفعٍ جبليّ ، المنظرُ ساحرٌ و لكنّ الجوّ قاتل.
انزاحَتْ كارول لي مُذْ وصلت ، و دفعتني كي أقفَ إلى قربِ أُمّي ، كانَتْ والدتُه تحدّقُ بي ، على نحوٍ أكثرَ عجباً و قوّةً من بقيّةِ النّاظرات ، على محياها ابتسامةٌ بسيطةٌ تكادُ لا تُلاحَظ ، و ليسَتْ مريحةً على الإطلاق..

نغماتٌ فتيّة~لي هيسونغحيث تعيش القصص. اكتشف الآن