في تمامِ الرّابعةِ عصراً من يومِ العودة ، أمام بابِ شقّةِ إيثان ، برفقتي حقيبةٌ قماشيّةٌ ضخمةٌ أرسلَها أبي له كعربونِ شكر ، أضعُها قربَ الجدار ، و أقفُ معها وحدنا منذُ دقائق ، لا أجرؤ على اتّخاذِ خطوةٍ إضافيّة.
ظللتُ أتأمّلُ السّماءَ المُلبّدةَ بالغيوم ، و الثّلجَ الرّقيقَ الصّادرَ عنها ، لقَدْ صبغَ الأرضَ فعلاً باللّونِ الأبيض ، لكنَّه لم يثبت نفسه بعد ، ما يزالُ رقيقاً.
حاولتُ مدّ يدي إلى الجرس ، ثلاث مرّاتٍ متتاليةٍ عدتُ عنها لكثرةِ ما ارتجفَتْ ، فكّرتُ في تركِ الحقيبةِ و المُضيّ من ثمَّ ، لكنّ هذا ليس حلّاً على الإطلاق ، و لو عرفَ أبي به سينزعجُ كثيراً..
ماذا سأفعل؟ الجوُّ يستحيلُ قارسَ البرودةِ مع اقترابِ المغرب ، و الرّيحُ المُجلّدةُ لا ترى أمامها ، أكادُ لا أشعرُ بجسدي..
سأفعل ، و بسرعة ، سينتهي كلُّ هذا بسرعةٍ لونا ، لا تقلقي.
أغمضتُ عينيّ كيلا أتراجع ، و على الفورِ ضغطتُ زرَّ الجرس ، انتشرَ الشّللُ في أعصابي حالما فعلت ، و تثاقلَ التّوتّرُ في بطني حتّى كادَ يهوي بي أرضاً..
أنا متوتّرة.. متوتّرةٌ و أكادُ أبكي لشدّةِ التّوتّر..
سمعتُ وقعَ الخطواتِ في الدّاخل ، ثمّ صريرَ مكابحِ الباب ، تماماً كآخرِ زيارة ، لكنَّها لم تأتِني بالسّعادةِ في هذه المرّة ، على العكس ، ضاعفَتْ خوفي ، أضعافاً مُضاعفة..
تحرّكَ البابُ أخيراً ، ببطءٍ شديدٍ لا أعرفُ إن كانَ واقعاً ، و ظهرَ وجهُه المُتجهّمُ من ورائه ، وقفَ الزّمنُ بيننا لبرهةٍ غيرِ حقيقيّة ، تصنّمَ كلانا فيها ، هو ينظرُ و لا ينظر ، و أنا ، أنا أترقّبُ معجزةً ما تحرّرنا.
و في لحظةٍ لا أعي متى حلَّتْ ، استسلمَ هو أمامي ، أخفضَ ناظريه ، أخفضَ سلاحَه المُشهرَ في وجهي ، تركَ البابَ يُفتَحُ على وسعِه ، و خرجَ إليّ.
كانَ يرتدي كنزةً خفيفةً كعادته ، و بنطالاً قصيراً بعضَ الشّيء ، لم تلفت هذه الأشياءُ انتباهي للمرّةِ الأولى بصراحة ، و إنّما شعرُه المقصوصُ بعبثيّة ، أجفانُه المُحمرّة ، و وجهُه الذّي بدا مرهقاً أكثرَ ممّا كانَ عليه في المقطع.. أهو بخير؟
أفقتُ فجأةً لحقيقةِ أنّني لم ألقِ السّلامَ بعد ، و أنَّه لم ينبس بحرفٍ حتّى الآن ، نحنُ الاثنان شاردان ، لا يوجدُ ما نقول ، و لا يوجدُ ما نفعل ، الصّمتُ أبلغُ في شرحِ المعاناةِ ممّا تفعلُ آلافُ الأحاديث ، و القلوبُ أكثرُ إنهاكاً من أن تنصت ، لا شيءَ نقولُه.. لا شيء..
تحمحتُ بعدَ وقت ، جذبتُ انتباهَه لجزءٍ من الثّانية ، ما استغللتُها على نحوٍ صائب ، فصوتي ظلَّ محشرجاً في صدري ، ماذا أقول؟ ما الذّي يجيءُ بي هنا من بعدِ ما أخبرتُه أنّنا انتهينا؟ هو على الأرجحِ يتساءل..
أجلتُ نظري في المكانِ بما أنَّه غيرُ منتبه ، حتّى استقرَّ على الحقيبةِ القماشيّةِ المسندةِ إلى الجدار ، خلفَ موقفِه الحديثِ تماماً ، و لا يبدو أنّه سيلحظُها في موعدٍ قريب ، لقَدْ جئتُ أوصلُها أصلاً ، نعم.. جئتُ أوصلُها و أمضي.. لا شيءَ يخيفُ في هذا.._"أبي.."
نظقتُ بصوتٍ مسموعٍ أخيراً ، لكنّني ما استطعتُ أن تابعت ، فما إن لفظتُ أولى كلماتي ، رفعَ عينيه إليّ ، و بعثرَ شجاعتي و كلماتي و كلَّ شيءٍ استخدمتُه في الوصولِ إلى هذه الكلمة..
يا إلهي.. يا إلهي كم هو.. كم هو.. لا أعرفُ ماذا!
أحنيتُ رأسي قليلاً إلى أسفل ، و رحتُ أشغلُ نفسي بقراءةِ المكتوبِ على كنزته ، ردّدتُ الكلمةَ ثلاثَ مرّاتٍ و لم أفهمها ، كنتُ أحاولُ التّهرّبَ منه و ممّا يفكّرُ فيه ، من السّلبيّةِ القابعةِ في داخلي ، و من العاطفيّةِ في ذاتِ الوقت ، بيدَ أنّني و في دربِ الهربِ عدتُ إلى نقطةِ البداية ، لقَدْ هزمت.. أعترف..
أنت تقرأ
نغماتٌ فتيّة~لي هيسونغ
Фанфикأستطيعُ التّعرُّفَ إلى نغماتِ الحنانِ في صوتِكِ ، أو لنَقُل ، صوتُكِ هذا بحدِّ ذاتِه بعثَ في قلبِي إحساساً ما.. إحساساً بخيرٍ قادم و لذا جئتُكِ ، مفعماً بمشاعر تغلغلَتْ في جذورِ نغماتِكِ ، و أنبتتْها نضرةً حلوة ، مثلكِ تماماً تقولُ هذا و كأنَّ صوتِي...