36

70 2 0
                                    

فُتِحَ الباب لتضيءَ سماء الدنيا و ترنو الأرض من حولي
عرفتني الخادمة و انزاحت عن الباب فدخلتُ و سألتها و أنا أنظرُ بأرجاءِ الصالة الخالية : وينهم ؟
فأجابت و هي تضمُ يدها إلى بطنها : بابا ما في يجي , ماما في غرفة مع كاسر , ناجي في غرفة مع أزوف .
أومأتُ برأسي متوجهًا بخطواتي حيثُ تكونُ أمي و الكاسر , مبتسمًا بانتشاءٍ و حبور بكلِ خطوةٍ أخطوها
حتى صرتُ أمام الباب يدي اليُمنى فوقَ مقبضهِ و قلبي بجانبهِ الأيسر يخفقُ لفرطِ سعادته
و بضغطي على المقبض للأسفل كان يُضغط من الطرفِ الآخر فُتِحَ على مصراعيه
لأرى أخي الكاسر الذي كان يهمُ بالخروج من حجرةِ أمي
ابتسم الكاسر بسرور و قبل أن أبادر بأي ردةِ فعل نادى أمي منبهًا لها و هي تعطينا ظهرها و تخرجُ شيئًا ما من الكمودينة
التفت إليه و هي ترد : يا عيـ ... ركـــــــــــاض !!
جلست أمي على الأرض و هي تبكي تحمدُ الله تارة و تناديني إليها تارةً أخرى
قطعتُ الخطوات التي بيننا و كأنني أقطعُ ستَ سنوات من عمري عشتُها بعيدًا عنها في مجنٍ و سفور
ستُ سنواتٍ يُفترض أن تنتهي بشهادة خريج هندسة و انتهت بخريجِ سجون
ستُ سنواتٍ سلبت مني جزءًا من ركاض الذي كان فيَّ قبل السفر و أهدتني ركاض آخر
ركاض تائبٌ لربه , عائدٌ لأسرته , مقتنع بأن الحُب لا يكون إلا بعد الزواج بإطارِ الحلال
ركاض ركض بعيدًا عن شهواتهِ و نزواتهِ الدنيوية
ركاض ركضَ ليقطع السنين و يجثو حيثُ أقدام أمهِ جنتهِ في الدنيا
أُقبلُ رأسها و يديها أقدامها و هيَّ تُقبلني و تحتضني لصدرها الدافىء
هذا الحنان الذي يُغني عن كلِ حنان هذا الصدر الذي يحمل و يتجرع و لا يغلقُ أبوابه بتاتًا
تمسحُ على شعري و تشدني إليها أكثر فأكثر
سمعتُ صوتَ الباب الذي أغلق و أدركتُ أن الكاسر غادرَ الحُجرة ليتركنا براحة
فأمي أكثر من تحب في ابنائها أنا لأني الأصغر
و من المؤكد أني سأبيتُ بجوارها
و إذا لم أبيت في جنةِ الدنيا فأين لي أن أبيت ؟!





***

فتحتُ الباب و قد ظننتُه ركاض لأتفاجَىء بها
لقد حضرت لقد أتت
من أحببتُها بكلِ ما فيني و بقدرِ ما أحببتها ظلمتها
بقدرِ ما كانت تسكنُ بداخلي عذبتها
بقدرِ ما كان قلبي ينبضُ لها صرختُ بها
و بقدرِ الوجع الذي مكثَ بداخلي حينما كذبَ الطبُ عليَ جلدتها
هي الحكاية التي لم تتوج بالنهاية
هيَ ذنبي البريء و أنا المذنبُ الماجن
هيَ حبيبتي زوجتي
أمُ أطفالي لكنها ما عادت ملكي
فقد صار لها حريةَ البقاء أو الرحيل
نطقتُ بصوتٍ آسفٍ حنون : براءة دنيتي

*

قالها , قالها بعدَ انتهاءِ مُهلته , قالها بعد ظلمهِ لي سنينًا عجاف
قالها فاتحًا ذراعيهِ على وسعهما يُناديني لأحتل منزلي الذي يتربعُ صدره
حينما قلتُ لنفسي أني سأحتضنك كما احتضنتني لم أكن أقصد حضن العشق و المغفرة الذي تفتحهُ لي
ليس هذا يا معن , الحضن الذي سأحتله هوَ الحضن الواهن الذي يحتاجني
لأُساندك كما جرحتني فساندتني رغمَ أنكَ جرحي !
و أنا كذلك سأكونُ الجرح و الدواء في آنٍ واحد !
أغمضَ عينيهِ بتوتر بعدما رأى الجمودَ مني و حتى يديهِ تنتفضان انتفاضةً واضحةً للعيان
أخفضتُ بصري عنهُ إلى الأرض و مشيتُ بجانبه و دخلتُ لداخلِ المنزل
و تقدمتُ بخطواتي للأمام إلا أن عيني استرقت النظر إليه و هوَ يضمُ ذراعيهِ إلى صدره إلى حيثُ منزلي مهجورٌ يحتاجني
يستديرُ بكامل جسدهِ إليَّ في الوقت الذي أُبعدُ فيهِ عيني عنه
تقدم بخطواتهِ إليَّ و هوَ يبسطُ ذراعهُ للأمام و يُشيرُ إلى أحدِ الأبواب : حياكِ
دخلتُ إلى حيثُ يُشير و أخذتُ مقعدي المفرد
فجلسَ أمامي على الطاولة و بيننا مسافة بسطية يديهِ تستندُ على الطاولة تحاذي جانبيه
يديَ تخلعُ الخمار و عينيهِ تحفظ تفاصيلي تحكي كلَ معاني الشوقِ و الوله
أطرقتُ رأسي أرضًا حيثُ قدميه أمام أقدامي
أطرقتهُ بعدما اشتعل جسدي بالحرارة و لو أزاحَ شعري عن أذني لأدركَ خجلي منه
جاءني صوتهُ خافتًا : لازم نتكلم في وضعنا .
رفعتُ عيني إليه و بثباتٍ و صوتٍ واثق : وضعنا واضح .
لتبزغَ ابتسامةً بشفتيه تعاكسُ لمعةَ الحزنِ بعينيه ربما ابتسامةَ سخرية أو ابتسامةَ يأس ! : الفراق
حركتُ كلتا يدي : وش رايك إنت ؟
نظرَ بعينيهِ إلى سقف و تلك الابتسامة لازالت بشفتيه : معك حق , لكن القلب مو دايمًا مع الحق , القلب ما يقدر يتخلى عن سكانه .
تقدمتُ بجسدي للأمامِ قليلاً : يقدر كل بيت يسكنه ثاني , كل بيت و له بديل .
نظرَ إليَّ وقال بصوتٍ خرجَ من أعماقِ أعماقه و هو ينظرُ إلى عينيَ بتمعن : استعمرتيه , ما يقوى الهجر والله ما يقواه
رفع يدهُ إلى جانبهِ الأيسر : هنا لك مدينة لك وطن لك دنيا كاملة , هنا كل السكان أموات, هنا إنتِ و غيرك ما له و لا بيكون له وجود .
ابتسمتُ بسخرية عليه و أسى على حالي : وش فايدة المدينة و الوطن و الدنيا إن كان الجسد يرخصني بالحرام ! , وش فايدة المدينة و الوطن و الدنيا إن كانوا جحيم
وش فايدتهم يا معن ! من قوى الجراح يقوى الهجر يا معن .
تنهدَ تنهيدةً طويلة مهما بلغ طولها لن يبلغ نصف السنين الموجعة : هو كذا ما يعرف الحق أعمى يجرح و يقتل لكنه يحب بإخلاص عمره ما يستوعب أكثر من شخص
يرخص كل الجسد إلا هالعضو غالي و ما يكسنه إلا الغالي .
انتفض كامل جسدي عكس صوتي الواثق : ما أبي غلاه , جرحه قاسي ما يغفرله الإخلاص , عافيته و عافيت عيشته ياما حذرته و نصحته حاولت أبعده عن عماه لكنه عمره ما سمع لي مع إنه
يدَعي إني أسكنه لكن كنت ساكنته ميتة كلامي ما يهمه حلفاني يكسره نظرة عيني ما ترضيه , و كأنه عُطرة كانت حية و لكن حادثة وحدة موتتها ودفنتها في مدينتها .
قمتُ من على الكنبة و توجهتُ للخارج أغطي وجهي بخماري و أشعرُ بخطواته من ورائي لكني لم أنظر إليه
ترجلتُ السيارة في المقعد الخلفي و بجواري خادمتين فثالثهما الشيطان
و عينيهِ تلحقني حتى صرتُ سرابًا .

حيزبون الجحيمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن