الفصل الخامس والعشرون

14.1K 853 180
                                    


"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "

عندما ينكسرُ القلب، لا يتفتَّتُ إلى أشلاءٍ صامتة، بل إلى شظايا مشتعلةٍ تتراقصُ بين الحنينِ والوجع..

كلُّ شظيَّةٍ تحملُ جزءًا من الذكريات، تنبضُ بالحبِّ الذي كان، وتصرخُ بالألمِ الذي بقى..

أحيانًا أجدني أقفُ أمامَ تلك الشظايا، أمدُّ يديَّ لأجمعها، لكنِّني أحترقُ في كلِّ مرَّة.

وكأنَّها ترفضُ أن تُعاد، تفضِّلُ أن تبقى مشتعلة، حارقة، شاهدةً على الخسارة.

أحببتكَ بحجمِ الكون، حتى أنَّني اعتقدت أنَّ الحبَّ سيطفئُ نيرانَ الفراق.

لكنَّ النارَ كانت أعمقُ من ظنوني، وأشرسُ من وعودنا..

أين أهربُ من شظاياك؟!

وأين أجدني بعيدًا عن نيرانك؟..

أنتَ الغيابُ الذي يملأُ حضوري، والشظيةُ التي اخترقت روحي دونَ رحمة..

إنَّها شظايا القلوبِ التي تحترق..
لا تنطفئ، ولا تُنسى..

بألمانيا وخاصةً بالمشفى التي بها رحيل، جالسًا بجوارها محتضنًا كفَّها، رفرفت أهدابها تهمس:
-بابا..توقَّفَ منحنيًا يهمسُ إليها:
-رحيل عاملة إيه؟..فتحت عينيها ببطء، وقعت عيناها عليه، دارت بالغرفةِ بنظرها متذكِّرةً ماصار فاعتدلت سريعًا تبكي بصوتٍ مرتفع:
-بابا، أنا عايزة أشوف بابا..
حاول تهدئتها، ولكنَّها صاحت تبعده:
-ابعد عنِّي..قالتها بصرخاتٍ وركضت للخارجِ وهو خلفها، قابلتها رانيا التي وصلت من القاهرة للتو
-حبيبتي رايحة فين؟..لم ترُّد عليها وتحرَّكت إلى غرفةِ والدها، بحثت بعينيها عنهُ كالمجنونة، حاوطها بين ذراعيه:
-حبيبتي اهدي..أشارت إلى سريره:
-بابا فين يايزن، أبويا فين؟..ضمَّها بقوَّةٍ محاولًا السيطرةَ على حركاتها، هرولَ إليه الطبيبُ لحقنها، ولكنَّهُ منعه:
-أعتذر، كفى ماأخذته، لا أريدُ أيَّ مهدِّئ آخر..قالها باللكنة الانجيلزية، حاوطَ جسدها وتراجعَ على المقعد، ومازال يحبسها بين قلاعِ حصونهِ الدافئة، رفعت رأسها تطالعهُ بانهيارِ عينيها:
-بابا مات يايزن، مبقتشِ أشوفه تاني، خلاص كدا الحكاية مع أبويا خلصت، طيب ليه يمشي من غير مايودَّعني..
احتوى رأسها وأزالَ عبراتها:
- راحيل ينفع نعترض على حكمِ ربِّنا، ينفع ياراحيل، إنتِ كدا بتقولي لربِّنا ليه عملت كدا..
هزَّت رأسها ببكائها وشهقاتها التي تشقُّ الصدور:
-أنا عايزة أحضنه بس، عايز أشمّ ريحة بابا لآخر مرَّة في حياتي يايزن..
احتضنها يخبِّئها بين أحضانهِ يردِّدُ لها كلماتٍ حانيةٍ تهدِّئ من حزنها، ولكن كيف يهدأ قلبها الحزين، الذي أصبح كالطائر الذي ذُبحَ عنقه، وكيف لا أخبركم عن فقدانِ الأب، فالأبُ هو سندُ الحياة، هو الحبُّ الأوَّلُ والأخير، هو ضحكةُ الدنيا ودعوةٌ من القلب، النجمُ الذي يضيئُ ظلمةَ الحياة، والقلعةُ التي تحتويك من غدرها، فهو التي تهتزُّ الأرضُ بحضوره، وتمتلئُ السماءُ بحنانه، سفيرُ أحلامي، ودفءُ شتائي، هو الحاضرُ الغائبُ بدعائه،..فالأبُ سقفُ الحياة، تصوَّر بعدهُ حجمَ الضياعِ حين ترفعُ رأسك ولا تجد شيئاً يحميك..هذا الأب ياسادة

شظايا قلوب محترقةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن