(29)

380 27 27
                                    

بقلم نهال عبد الواحد

كانت راحيل نائمة وتشعر بأصابع تعبث في شعرها برقة وصوت أمها يصدع مغنيًا:

راحيل طفلتي ما أجملها! ضحكتك العذبة محلاها! صوتــك تغريــد كسرابــا، كأن رمل الصحراء قد صار أعشابا! لكِ ملامح ملاك لم يُنجب مثلها! فإن ضاق الزمان يومًا وتعذّرَ! يلهمك الإله الصّبر الأرحبَ!

فتابعت إحساسها بأنامل أمها ثم أكملت: أريد منك الصّمود وأن تعتني بأخويكِ مثلي تمام.

فتساءلت راحيل: حسنًا سأعتني بهم جميعًا، أبي وأخويّ.

انفلتت صوت ضحكة أمها بخفة وتابعت: يكفيكِ أخويكِ وأحبابك، أما عمارة فاتركيه لي، وعودي معهم وعمّري موطننا...

فتحت راحيل عينيها ولا زال صوت أمها يصدع في أذنيها كما لا زالت تشعر بعبث أناملها في خصلات شعرها، فتمتمت بخفوت: ليتني أعود موطني، ليتني أعود أمّاه...

سكتت قليلًا تحاول أن تتكئ على ساعديها لتنهض، كانت نائمة أرضًا بعد أن دفعها عبد العُزّى، لكنها لا تقوى على الحركة؛ جسدها يؤلمها بشدة خاصةً تلك الجروح الغائرة جرّاء الجَلد والتّعذيب، كما تشعر برائحتها النّتنة فمنذ أن خُطفت ولم تغتسل أو حتى تُبدّل ملابسها المتسخة والممزقة منذ أسابيع، فتقلّست ملامحها مشمئزة، ثم فجأة انتبهت وقالت: لماذا أترك لكِ عمارة؟ ألهذا الحدّ تغارين أم... ؟

فبترت جملتها ووضعت يدها على قلبها تشعر بغصّة وفكرة بعينها تراودها، ألا وهي أن عمارة قد رحل عن دنيانا ولحق بها.

فأعادت رأسها للخلف أرضًا وزفرت أنفاسًا حارة بقهرٍ شديد وصارت دموعها تتساقط على جانبي وجهها ثم أرضًا، ليتها تنتهي من هذا الهمّ المقيم.

جاهد أوس حتى استطاع أن يخفف عن عُمير ويكفكف دمعه، ثم أقنعه أن يجئ معه؛ فلا ينبغي أن يمكث منفردًا في هذا المكان.

لم يستغرق أوس وقتًا طويلًا في إقناعه؛ فهو طفل ولن يتحمل الوحدة، لكنه أخذ الوعد من أوس أن يساعده في البحث عن أخوته ثم يعيدهم جميعًا إلى هنا.

اضطر أوس للموافقة رغم أنه لم يكن متأكدًا في الوفاء بذلك الوعد، لكنه يصر بالفعل أن يجد تلك التي سكنت بين أضلعه واختفت فتركته خواء.

بدأ يجمع متاعهم لكن ترك الخيمة دون أن يخلعها بناءً على رغبة عُمير؛ فهو على يقين من عودتهم مجددًا، ثم ساق الأغنام وفرسَين، ركب عُمير على أحدهما ووضع الأمتعة على الآخر ثم تحركوا جميعًا غير مسرعَين.

كان عُمير يتلفت من الحين للآخر يودّع موطنه الوحيد ومسقط رأسه، محل أجمل ذكريات عمره، أما أوس فتعلّقه بالمكان لأنه مكانها.

كانوا يسيرون بتباطؤ طوال الطّريق فطالت سفرتهما، وكان الصّمت ملازمًا لهما، فعُمير حزين ومشغول بما سيلاقيه وكأن ليس أمامه إلا أن يثق في أوس، فينظر إليه كأنما يجدد الوعد بينهما في إيجاد أخوته وعودته لموطنه، فيضطر أوس لمجاراته دون أن يجزم إن كان يستطيع أم لا، وفي نفس الوقت يريد أن يفتش الأرض حتى يجد تلك المحبوبة.

By : Noonazad.      ( إلى طريق النجاة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن