(28)

394 28 22
                                    

بقلم نهال عبد الواحد

كلما اقترب من مكان العين كان يشعر باهتزازةٍ في قلبه كأن نفسه يضيق، دهشه ذلك الشّعور كثيرًا لكنه أمضى في سيره.

وصل إلى مكان العين وكله أمل واشتياق للقائها أو حتى رؤيتها، لكنه فكّر في اتخاذ قرار بعينه وهو متيقن من قبول والديه.

ترجّل من فرسه وتجوّل في المكان قليلًا يبحث عنها بعينيه، لكنه لم يجد إلا الأغنام ازدادت ريبته وداخله نبت شعور بخطبٍ جلل!

سار بتباطؤ وسط الأغنام فلمح الصّبي جالسًا بشرودٍ مهمومًا، اقترب منه بضع خطوات فانتبه إليه فنهض واقفًا ينفض جلبابه وهو يقترب نحوه محاولًا أن يرسم ابتسامة التّرحيب لكنها في الأخير لم تكن سوى ابتسامة باهتة.

صاح عُمير: مرحبًا بك سيدي!

أومأ له أوس مبتسمًا وتابع: مرحبًا بك يا عُمير، ألست تُدعى عُميرًا؟

فأومأ له الصبي مؤيدًا وأطال النظر في وجهه وزمّ حاجبيه محاولًا تذكّره ثم أهدر: ألست أنت من جئت ذات مرة؟!

فأومأ برأسه مبتسمًا وأجاب: أجل، قد جئتُ هنا ذات يوم وملأتما سقائي، كنتَ يومها أنت مع فارسة ملثّمة.

قال الأخيرة بنبرة مختلفة بها من الشّوق، لكن بمجرد أن قالها تبدّلت ملامح الصبي لتصبح أكثر قهرًا وألمًا، حتى أن ثمة ارتعاشة في شفتيه قد لاحت وبدأ يطرف بعينيه محاولًا كبح زمام نفسه لألا يبكي.

هوت روح أوس وارتعد قلبه وتساءل في لهفة لم ينجح في إخفائها: ما الخطب يا أخي؟ تبدو مهمومًا محزونا!

فبكى الصّبي وانتحب واضعًا كفيه على وجهه يخفيه، فاقترب أوس وربّت عليه ثم هزّ كتفَيه قليلًا وتساءل: ماذا بك؟ لم أنت هكذا؟ اعتبرني أخاك الأكبر ربما تمكّنت من مساعدتك.

نزع كفيه من على وجهه ماسحًا دموعه ثم قال بصوتٍ تخالطه الشّهقات المتكررة: قد هاجمنا لص قتل أمي وخطف أختي وذهب أخي يتتبع أثره ليلحق بأختي لكن لم يعد أحدهما منذ أسابيع...

وما أن سمع أوس مقالته حتى تشنّجت ملامحه وكأن أحدهم غمد خنجرًا في قلبه فوضع يده موضعه وضغط عليه يسكن ألمًا فاجأه، فأكمل عُمير: ومنذ ذلك اليوم وأبي يكاد لا يبرح قبر أمي، قد انحني ظهره وأنهكه فراق أمي وأخوتي، اعتمد عليّ في رعي الأغنام، أشعر به كأنما قد كبر أعوام خلال تلك الأسابيع، صار قليل الكلام ويحب العزلة، قبيل المغرب أعود بالأغنام فأجلس معه عند قبر أمي، أحيانًا ينتبه إليّ ويشاركني الأكل وحينًا أخرى كأنما يغيب عن وعيه ولا زال على قيد الحياة، أخشى عليه كثيرًا، أخشى أن يصيبه مكروه، أرتعب أن يلحق بأمي ويتركني وحيدًا بلا أهل، لقد غاب أخوتي ولا طاقة لي بالوحدة أبدًا!

ثم أكمل بكاءه فضمّه أوس وربّت عليه وقال وعيناه متغرغرتان بالدمع: اطمئن سيعودان وسيصبح كل شيء على ما يرام.

By : Noonazad.      ( إلى طريق النجاة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن