(25)

407 29 13
                                    

بقلم نهال عبد الواحد

- يا الله! يا الله! أربط على قلبي! يا الله! يا الله!  ثبتني وقويني! يا الله! يا الله! أنا صادق يا ربي وحق نبيك إني لصادق! الصبر يارب! الصبر يا الله! الصبر الصبر...

هكذا يصيح عمارة وينظر إلى السّماء من حينٍ لآخر ويضم يوكابد المفارقة للحياة بشدة يبكي بحرقة ويرتفع نحيبه، جواره عمير ينتحب بقهرٍ شديد على فراق أمه.

لا يعرف كم مضى من الوقت على هذا الحال، لكن هاهي الشّمس بدأت تهبط وتستعد للغروب، فلاحت على ثغره ابتسامة ساخرة متهكمة قاطعت بكاءه فتوقف وشرد لمنذ سويعاتٍ فقط؛ كان ينظر إلى السّماء يترقب وقت المغيب ليعود إليها وتبيت جواره في فراشه يضمها إلى صدره ويمسّد على وجنتها وعنقها ويغرس أصابعه يعبث بخصلات شعرها يتنفسا أنفاس بعضهما ويستمعان لإيقاع نبضات قلبيهما كأجمل سيمفونية عشق بل أعذب من صوت جدول الماء حين يتدفق من العين ويخالطه صوت تغريد الطّيور من حوله، فأغمض عينَيه وابتلع ريقه بمرارة أشدّ من مرارة الصبار وتمتم: ليتني أمتلك عمري  كنتُ أعرتكِ منه أعوامًا، كنتُ اقتسمتُ ما تبقّى لديّ بيني وبينِك حتى لا أعيش بعدك لحظة واحدة؛ فلا أتجرّع كل هذا الألم والوجع...

ثم انتبه إلى عمير الممسك بيد أمه وقد ثنيَ جسده مستندًا برأسه على فخذها يهتز قليلًا يدل على بكاءه مع صوت شهقات مكتومة، قرّب عمارة أذنه إليه ليستمع إلى تمتماته، فسمعه يتمتم: كيف سأحيا كل يوم دون أن أستمع لحكاياتك؟! كيف سيمضي يومي دون أن أرهقك برأسي أسندها على فخذك فتعبثي بشعري وتقصّي إليّ؟! لا بل كنت أنا من أختار الحكاية وأحكيها حتى تملّ مني راحيل وتصيح في أن قد آلمت رأسها بثرثرتي، لكنك ذهبتِ وتركتينا! وهي ذهبت! وعمّار هو الآخر قد ذهب! أخشى الوحدة بشدة أُماه، أخشى أن أصبح يومًا وحدي وقد سُرقت مني كل عائلتي...

وقعت كلماته في نفس عمارة لتكوي جراحًا حية لا تزال تنزف، خاصةً وقد عانى الوحدة لسنوات وسنوات لكنه كان أكبر منه فتمكّن من تحمّل مسؤولية نفسه، لكن لا زال ابنه صبيًا لم يتعلم الكثير بعد.

فجذبه إليه بيده الأخرى وضمه إليه وبعد فترة شعر بالليل يعسعس بالفعل وفي نفس الوقت شعر بعدم تحرك عمير مع انتظام أنفاسه فأرخى ذراعه الذي ضم به يوكابد لتستقر رأسها على الأرض، ثم حمل ابنه ودلف به داخل الخيمة فوضعه برفق في فراشه وربت عليه بهدوء ثم قبّل جبهته وجذب الغطاء وغطاه به.

ثم تحرّك وخلع عمامته وعباءته فعلقهما وأخذ قطعة من القماش يكفّن فيها زوجته.

ابتعد قليلًا عن الخيمة ممسكًا بالفأس والقصعة اللذان كانا مع راحيل منذ سويعات، وبدأ يحفر قبرًا عميقًا ليدفنها فيه، ثم وضع جسدها وهو يهدر بصوتٍ تخالطه الشهقات: بسم الله وعلى ملة رسول الله محمد بن عبد الله!

وبدأ يعيد التراب فوق جسدها وتتعالى شهقاته ويزداد نحيبه، يرتعد جسده قليلًا فيجثو أرضًا غير قادر على أن يحثي فوقها التراب، وبعدها ينهض ويحاول إكمال دفنها حتى انتهى وأتى بحجر كبير و وضعه ليميّز المكان ثم نزع عدة نبتات من الصبار ووضعها على حافة قبرها ثم جلس جوارها وشعر أنه قد استنفذت كل قواه وطاقته فمكث مكانه يبكى وينتحب بشدة ويتمتم وسط شهقاته: هي أمانتك ياربّ وهبتها ثم أخذتها، ألهمني بالصّبر ياربّ! قويني يا الله! قلبي يحترق! تمزّقت نياطه! ألم يغزو قلبي ويحتله لا أقوى عليه! الصّبر والثّبات في البلاء! الصّبر يا الله! الصّبر يا الله!

By : Noonazad.      ( إلى طريق النجاة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن