الجزء ٢

2.5K 36 1
                                    

.
ليلًا :
واقف أمام باب البناية المُوصد بأمان وإحكام !
مُتردد بعض الشيء ، ولكنّه ليس براشد إذا تردد في أمر يخصّ من يعتبرهم "اخوته"
التفت للوحة الأزرار المُرتبطة بكلّ شقة وهو يضغط على جرس الشقة رقم 203!
ثواني معدودة حتّى جاءه صوتها بلكنة بريطانية ثقيلة اكتسبتها في فترة قصيرة لتقول:
نعم ، تفضلّ؟
سكت قليلًا ليُردف بعدها بهدوء:
كادي ، انزلي تحت شوي أبي أرمسّج!
استغربت كادي من وجود راشد بهذا الوقت أمام البناية ، ولكنّها تعلم حرصه الشديد عليهم جميعًا
لذلك ارتدت معطفها ولفّت على رأسها بالتوربان
لتخطي خطواتها إلى الأسفل!
كان يولّي الباب ظهره وهو يدسّ يديه داخل معطفه
ينظر إلى الماره بهدوء ، يشتمّ رائحة لذيذة قادمة من مكان ما
التفت للباب الذي فُتح ليرى وقوف كادي أمامه بنظراتها المُتسائلة!
اشرّ لها بنظراته كي تتبعه ليخطو خطوتين وهو يقف أمام إحدى المطاعم العربية الصغيرة
المُنتشرة ضمن شارع كوينز وي!
التفت بابتسامة الى الرجل الطاعن بالسن ليقول :
كيفك عمو؟
تهللّ وجه الرجل ليقول بمودّة :
أهلين وسهلين يا ابني ، منيح بنشكر الله
ابتسم راشد على لهجته المُحببه لقلبه ليسحب الكُرسي
الموضوع أمام المقهى ويجلس وتجلس كادي خلفه
أردف :
بدي اثنين شوارما من ايديك الحلوين
ابتسم الرجل بهدوء ليقول:
ايه لك تكرم عينك ، ثواني على القليلة
هزّ راشد رأسه وهو يوّجه نظراته لكادي المُبتسمة بخفّة
لأنها تعلّم أن راشد يحب شوارما مطعم العمّ بسّام الفلسطيني اللاجئ
أنزل يده لجيب مِعطفه وهو يمدّ لها علبة كرتونية مُستطيلة الشكل ويرميها على الطاولة الفاصلة بينهم
نظرت للعلبة برفعة حاجب وعينها مُرتكزة على الاسم المكتوب عليها لتُهمس بسخرية:
البريغابالين ؟
رفع كوعه على الطاولة ليُأشر لها بسبابته بصوت حاد:
شوفي ! سالفة دانة تييب لج الحبوب من صوب
وتقطينهم أنتِ من صوب ؟ هذه مب علي
حبتين لثلاث حبات في اليوم!
وإن طوفتي حبة وحدة لا تلومين إلا نفسج
تكتفت وهي تصدّ بنظراتها الغاضبة من راشد
وتصرفه المُهدد في كل مرة تترك فيها الدواء
الدواء الذي إذا لمّ تتناوله قد يُسبب لها نوبات صرع شديدة
همست بضيق:
راشد ، الموضوع خرج عن السيطرة
وأنا راضية بحالتي هذه ! الحبوب تزيد مرضي مو تشفيني
نظر لها بحدة مخلوطة بخوف عليها
يعلم جيدًا سبب عدم رغبتها في تناول الدواء!
الموت ، الموت بأي وسيلة هو رغبتها
أردف بحنّو:
ما راح اسمح لواحد منكم يموت قدّامي وأنا قادر أحميه
وبالذات إنتِ يا كادي ! تبين تموتين؟
بتموتين على أرضج وبين أهلج
بس الوقت الحالي راح تآخذين دواج وتتعافين
سكت قليلًا وهو يرى الشاب النادل يترك صحني الشوارما على طاولتهم
ليُهمس وهو يضع يده خلف كتفه :
كلنا تأثرنا من الرُقاقة المزروعة فينا يا كادي!
بس أنتِ أكثرنا!
ما يحتاي أذكرّج شو كان يصير لج بأول أيامج هنا
ولا يحتاي أقول كم مرة قلت لج انتبهي على مشاعر الغضب عندج
صعدت الدموع لعينها المُنهارة من الإنكسار النفسي
الذي تشعر أنه يحوط بها في كُل مرة
يفُتح فيه هذا الموضوع بالذات ! موضوع الرقاقة المزروعة
ضربت على الطاولة الصغيرة لتقول بصوت باكي:
٥ أيام يا راشد وراح يتكرر الموال!
موال العام اللي كل مرة أقول في هذا اليوم راح أموت!
خمس سنين أنتظر موتي ، وعيّا الموت يجيني
نظر لها بشيء من الحدة ليُردف:
وأنا كنت قبلج بثمان سنين!
راشد اللي جدامج راح يطق الـ٢٨ سنة
وهو كل سنة يحتفل بعيد عن أهله
كل سنة يموت من داخله ولا لاقي اللي ينقذه
سكت وهو يتنّهد من الموضوع غير الغريب عليه أن يُفتح قبل كل ذكرى سنوية على وجودهم في لندن
مدّ يده على طولها ليضعها على الطاولة وهو يفتح راحة كفه
ويرفع كُم معطفه عن رُسغه ليظهر من خلفه الوشم
همس لها بهدوء :
مدي يدّج
نظرت له بدموع باكية لتمدّ يدها على آمره وتضعها بجانب يده
ويظهر كذلك الرقم الموشوم على رُسغها
مد راشد سبابته وهو يمسح على وشمها بهدوء والمكتوب به " 966 "
لينتقل الى وشمه ويمسح عليه كذلك ! وهو يتمعنّ في الرقم " 971 "
همس بخفوت :
يوم من الأيام راح نعيش!
الحياة اللي ياما تمنيناها وياما خططنا لها راح نعيشها
اليوم نموت عشان بلادنا!
عشان السعودية والإمارات ! عشان عُمان وقطر والكويت والبحرين!
عشان خليجنا ، أرضنا ، جزيرتنا العربية يا كادي.
أنزل كمّ معطفه ليمد يديه الاثنتين ويقبض على يدها المُرتجفة / الساكنة على الطاولة ويهمس:
اكلي دواج ، وأنا أوعدج هالألم بينتهي
هالكابوس بينمحي ، وبنرجع !
والله بنرجع !
أغمضت عينها بقوة لتعيش الحُلم على الواقع المرير
لتتخيّل يوم من الأيام أنا واقفة قبالة بوابة مطار هيثرو
عائدة إلى وطنها العربي الأصيل!
الوطن الذي مهما أبعدها سيظلّ مفتوح الأحضان لها
ولكُل مُغترب بعيد!
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن