الجزء ٤

1.5K 27 0
                                    

.
في أحد مُستشفيات الرياض الكبيرة:
توقّفت إرم عند باب آحدى الغُرف ويدّها معلّقة على المقبض
بعدما سمعت اسمُها من فم أحد الممُرضات
التي اقتربت منها لتقول بنَفَس:
دكتورة إرم ، تـ تفضلي !
هذا ملف البنت الصغيرة اللي بهالغُرفة
أخذت إرم نفس عميق لتُردف بعدما شمّت رائحة إهمال:
طيب ، المرة الجاية جميع الملّفات تنحط على مكتبي
التأخير مو من صالح أحد
تركتها لتفتح الباب دون أن تنتظر ردّها
فهي تُمقت أي موظف لا يقوم بعمله على أكمل وجه
تهتم بتفاصيل التفاصيل بكلّ حياتها
وهذا ما جعلها تعيش بخيبة كبيرة ! بسببه
رسمت ابتسامة واسعة عندما رأت العيون الصغيرة الخائفة
لتقترب منها وهي تقول بحلاوة روحها:
الأميرة دَنى صاحية ، تغديتي ؟
ناظرتها دنى بخوف لوهلة حتى هزّت رأسها بإيجاب
اقتربت إرم لتلبس سماعتها الطبية وتقول:
شاطرة ، الحين خُذي نفس وطلعيه شوي شوي طيّب؟
وضعت السماعة على صدرها ثم ظهرها
وهي تبتسم بخفّة لنظرات الصغيرة !
ابتعدت لتقول:
عال العال ، شفتّي الأميرات كيف يصيرون طيبين لمّا ياكلون ويشربون زين!
ابتسمت دنى ابتسامة صغيرة على إطراءها
لتتراجع إرم وهي تأشر على والدة دنى
التي كانت واقفة بجانبها طوال هذه الوقت
همست لها بخفة:
أم دنى ، العملية بكرة الظهر إن شاء الله
راح يمرّ الدكتور الجرّاح ودكتور التخدير ويعلّموك باللازم
مسكت أم دنى يد إرم لتقول بخوف:
عساها مهيب بكايدة؟
ابتسمت إرم بطمأنه لهذه الأم الخائفة لتُردف:
تطمني ، إن شاء الله ماهي بكايدة
الجراح من أحسن الجراحين وأمهرهم
تراجعت للخلف وهي تضع يدها على صدرها لتُزفر براحة
لتستأذن منها إرم حتى تأخذ إستراحتها
ولكنّها تراجعت عندما سمعت النبرة المُرتعبة الهامسة:
د..دكتـ.ـورة!
التفتت وهي تقترب منها لتُكمل الطفلة:
مـ ما راح أمـ.ـوت صح؟
انقبض قلب إرم على هذا السؤال المؤلم الذي تفوهتّ به
كلّ يوم في عملها تمرّ بحالات مُتشابهه
من قلق الأطفال من الأطباء ! بودّها لو أن تأخذهم لصدرها
وتُمحي كلّ ألم عنهم
مسكت يدها الصغيرة بقوة حانية:
بسم الله عليك يا ماما ، ما راح يصير فيك شيء
أنتي طيبة صح؟ قلبّك صاير طيّب بعد
بكرة بس بتنامين وتصحين وترجعين البيت تلعبين مع أخوانك
انفرجت أسارير دنى بعد هذا الكلام التحفيزي
لترتسم ابتسامة على ثُغرها الصغيرة
مسحت إرم على رأسها بخفّة لتقبلّها وتتراجع خارجة
تحبّ الأطفال حُبًا جمّا وتتمنّى لو أن تُرزق بعشرة منهم
ربمّا كانت ستحصل على واحد على أقل تقدير
ولكنّه ذهب قبل أن يكبر في أحشائها!
وحتّى هذا اليوم تحمد الله على نزوله!
فهي لا تُريد أي شيء مِن مَن كان يُسمّى بشريك حياتها
.
.
خطّ على اللوحة الملساء الضخمة التي بخلفه اسم
" ستيفن هوكينج - Stephen Hawking "
ليلقي بنظره إلى القاعة الكبيرة والمُمتلئة بالطلاب المُنتبهين له ليُردف بصوت واثق :
قد لا يخفى عليكم من هو ستيفن هوكينج
أبرز العُلماء الإنجليز في مجال الفيزياء النظرية وعلم الكون
كان العُلماء من قبله يظنون أن الكون له شكل وهيئة واحدة
منذ نشئته وحتى نهايته
ولكنّه أتى باكتشاف جديد وهو الكون اللانهائي!
وأسس نظرية" الإنفجار العظيم"
أي أن الكون بدأ في التمدد بشكل كبير بعد أن كان
مجرد مساحة ضئيلة أخذت في الإتساع والإنشطار
"تريليون" إنشطار في الثانية
رفع نظره لساعة يده ليقول بهدوء:
انتهى درسنا لليوم ، أطلب منكم غدًا تسليم لائحة بقائمة
أهم العلماء على مر التاريخ الإنجليزي!
وبعدها سنبدأ بدرس العصر الفيكتوري
خرج بعد أن جمع أغراضه إلى خارج مبنى
مدرسة مانشستر بزنس التابعة لحَرم جامعة مانشستر
وقف أمام البوابة ليأخذ نفس عميق لصدره
حتى خطى بخطواته السريعة إلى الخارج وهو يشعر بضيق فعلي
فتح أول زريّن من أزرار قميصه الرسمي وبيده معطفه الرمادي
اصطدم فجأة بكتف أحد الأشخاص
ليلتفت له ويقول بنظرة زائغة:
اعتذر منك!
نظر له الشاب بنظرة مُريبة لخطواته غير المُتزنة
يشعر أن سيسقط وينكسر من طوله
وهو الذي خابت ظنونه ولمّ يسقط يومًا
جلس على الكُرسي الخشبي ليضرب صدره بقوة ليُهمس:
يـ يارب !!
يناجي ربه حينًا وبغتةً ، لمّ تقدر له الحياة!
لا يشعر أن بالكون متسعٌ لجسده!
لا الوطنُ يبغيه ولا الغُربة أنجته من الغرق
رفع عينه الحزينة للسماء وبداخله ينطقٌ بيارب يارب
بدون تفكير أخرج هاتفه من جيبه
ليتصلّ برقم بات طويلًا نائمًا بين لائحة أرقامه
يبدو أنه يشعر أن الموت قد دنى منه
لذلك جاءت والدته في باله سريعًا ليهتف:
يمه!
ابتهل قلب الأم الحنون بسماعها لصوت بِكرها لتُردف:
ياعيون أمك ، ياعيوني يا إياد
عضّ شفته بقوة حتى شعر بالدم على طرفها
أيشيبٌ الرجل بعين والدته ؟ لا يكبر ولا يشيب
رُغم أن الشيب قد خطّ شعرهُ ! رغم أنه بلغ من العُمر ما بلغ
همس بصوت واهن:
وحشتيني!
مسحت دمعتها الخافتة لتقول:
مايوحشك عزيز وغالي يايمّه!
بلع ريقه الجاف ليُردف:
يمه ، تعالي هِنا
تعاليّ اليّ يا أماه فإني ما عُدت أطيق الموت
ما عُدت أتمنى غير أن تصعد روحي وهي بحُضنك
لتهمس والدته بحنين:
أجيك وأنا مالي حيل يا يمّه ؟ ارحم قليبي يا إياد
وخليني أشوفك على أرضك!
وش ترتجي من ديرة الكفّار لا أنيس ولا ونيس
أفنيت عُمرك بهالدراسة ونسيت إن لنفسك عليك حق
ليُردف بصوت مبحوح جارح :
يوم بغيت أرضي ، أرضي ما بغتني يمه
أجيها شايل خيباتي وحسراتي
لتقول بإندفاع أبى أن يُحبس بداخلها:
ديرتك ما استخسرت فيك نَفَس !
لا تعلّق اللي صار لك شمّاعة عليها.
هي وملوكها وشعبها من وقف معك في أول محنة
أنت كنت ولا زلت قضية وطن يا إياد
ارجع ، هي تنتظر عمارك لها!
تنّهد ليسكت ، فهو لا يملّك ردًا يردّه على من يقول له " عُد إلى وطنك "
لا يملكُ إلا الصمت الذي ينتشله من غياهب الحُزن
همس بصوت حاني:
انتبهيلك يمه ، وحفّيني بدعواتك!
استأذنك الحين
أغلق منها وهو يشعر أنه يعود إلى إنغلاقه النفسي
الذي لا يستطيع فكّه وفكّ أقفاله إلا صوتها الحنون
الرجلّ ذو الـ٣٧ سنة ، لا يخجل أن يقول
بأنه يتوّرد ويتلّون بصوت والدته!
وقف من مكانه مُتجهًا إلى شقته غافلًا عن الأعين التي تُراقبه
ليهمس بينه وبين نفسه:
جارت عليك بلادك يا إياد ، وبتظلّ عزيزة عليك
نعم ! فكما قالها الشريف قُتادة أبو عزيز
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا على كرامٍ

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن