الجزء ٣٣

892 15 8
                                    

.
الإمارات العربية المُتحدة:
توقفت السيّارة السوداء المحملّة براشد وأشواقه ومآسيه أمام منزل عمه الكبير ، فاليوم هو يوم الجُمعة وقدّ تعودوا على الاجتماع في منزل عمه لكون جده الذي يأمل أن يكون حيًا يسكن هُنا
دعى الله مراتٍ عدة أن لا يخيب رجاءه ، وأن لا تتحطم حُصونه وتموت أمنياته في هذه اللحظة
التفت لموظف السفارة الواقف بجانبه وهو يقول بهدوء:
أهلي ماعندهم خبر؟
هزّ الموظف رأسه بالنفي:
مثل ما وصيت أخوي راشد أهلك ما يدرون ! كان ودّنا نحط عندهم خبر عشان ما يتفاجئون بشوفتك!
تقدّم راشد خطوة صغيرة وهو يأخذ نفسًا عميقًا:
لا جي أحسن.
ابتسم الموظف بطمأنة:
نترياك هنيه ، أي مُساعدة بتلقانا موجودين
هزّ رأسه بإيجاب وهو يتقدّم يجرّ من خلفه خطواته المترددة والمندفعة في آن واحد ! ليدخل من الباب الكبير المفتوح كعادتهم
وقف في مُنتصف الفِناء وهو يشعر بشعور سيء ، شعور بغربة وطنية مُقيتة! رُبما لأن منزل عمه قدّ تغير كثيرًا ، كثيرًا بشكل جعله يوقن أنه أخطأ في المنزل
أخذ نفسًا تحشرج في وسط صدره ، وهو يلتفت جانبًا إلى بيت الشعِر المفتوح والأحذية مصطفّة أمامه بشكل يوحي له أن جميعهم هُنا
أخافه الصُراخ الخارج من البيت ، وعدّة أصوات تتداخل بين الأصوات الأنثوية والرجولية لم تتبين له
تقدّم حيث البيت ووقف أمامه والأصوات باتت واضحة جدًا
ليتراءى لمسمعه صوت غريب يقول ببُكاء ( يباه الله يخليك لا ، لا تجبرني الله يخليك )
هذا الصوت يشعر أنه يخصّه ، يخصّه وحدة هو ! لا يعلم لما أعطاه دافع وقوة في أن يتقدم ويدخل إلى الداخل
ليقف على العتبة وهو يقول بصوت جهوري:
السلام عليكم ورحمة الله
هدأت الأصوات ، وتلفتت الأعين للواقف أمامهم ! ارتفعت الهمهمات والهمسات حولهم مُستغربين ومُندهشين
المجلس أمامه كان في حالة فوضى ، على جهة يجلسن الفتيات وأمهاتهن
والجهة الآخرى الشباب وأعمامه وجدّه ، والغريب في صورتهم
عمّه حمدان الذي يُمسك بفتاة دموعها تهطل على خدها من عضدها
جاءه صوت غاضب من إحدى الشباب الذي وقفّ هامًا بالإنقضاض عليه:
انتا منووو ؟
لكنّ همس ميره الباكية والمُحاصرة بيد أبيها أوقفهم جميعًا وجعل شهقاتهم ترتفع:
راشـ ـد!
وقعت عينا راشد على عينا ميره ، آلمه أنها الوحيدة التي تعرفت عليه بعد ٩ سنوات من الغُربة!
الوحيدة التي لم تنسى معالم وجهه التي اختفت خلف شُعيرات وجهه الكثيفة وملامحه العربية الحادة
لم يُعطى أحدًا ردة فعل بإستثناء تلك المرأة التي اقتربت منه بتعثرّ وتمايل لتقف قِباله وهي تتنفس بصوتٍ مسموع
أردفت بهمس قاتل:
راشد ، أنت ولدي راشد؟
في هذه اللحظة دُكتّ حصون راشد وقِلاعه ، اهترأت وتساوت بالأرض عندما وأخيرًا تراءى لأذنه هذا الصوت الحنون
جثى على رُكبتيه أمامها ومُقلتيه قد امتلأتا بالدمع حتى فاضت وانهملت
مسك يدها الحانية الدافئة المُغطاة بالحناء ورائحة العود تنتشر به ليُقبل يدها مراتٍ عدة وهو ينتحب بشكل أفزعهم:
هيه امايه ها راشد ولدج
ولدج العود يا شيخة الحريم كلهم
انحنى يقبّل أقدامها ، تلك الأقدام التي وُضعت الجنة تحتها
وبُكاءه اليتيم نحر صدرها الشفوق على فلذة كبدها ، لتمدّ يدها نحو كتفه وتسحبه إلى الأعلى وهي تنظر إليه بصدمة
مسكت رأسه لتوجهه جانبًا وتُحني إذنه لتقطع شكّها باليقين
أمرٌ واحد ستعرف بعده إن كان هذا ابنها بحق وحقيق أم لا
وبشكل مُفاجئ عندما رأت ( شيخة ) الوحمة الصغيرة المُختبئة خلف إذنه تراجعت وصوتها يتعالى:
ولدي ، والله العظييم ولدي - اقتربت منه لتحتضنه بقوة وصوتها تحشرج من شدة البُكاء - ياربي ما أرحمك
ما أعطفك ياربي ما ردّيت دعائي ، ما نسيت شفقتي!
ما خابت عليك دموعي وحسراتي
هطلت دموع راشد وهو يقبّل كل مكان يقع عليه فمه في كتف ورأس أمه ، والأصوات من حوله تتزايد تارة مُندهشة وتارة باكية
وأصوات الرجال بدأت تتعالى ما بين ( لا إله إلا الله - وسبحان الله )
ضربت ظهره بيدها لتقول بقهر مؤلم:
وينك كل ها السنين يا ظالم ؟ وينك عن قلب أمك
هان عليك تعقّ فيه وأنت اللي كنت البار الرحوم به؟
ياويل قلبج يا شيخة ولدج ردّ لج بعد عُمر ، بعد ما الناس صلّت عليه ونسته!
بينما كانت هُنا شيخة تُعاتب راشد الصامت ، هُناك ميره التي تنظر هي الآخرى لراشد بصمت ! صمتٌ تدّثرت بس على مدار ٩ سنين عِجاف
لتسحب يده والدها بقوة ودمعها مُختلط بابتسامتها:
يباه ، هذا راشد صح ؟
عيوني ما تكذب قول لي إنه راشد
رفع حمدان طرف شماغه وهو يمسح دمعة أوشكت على الخُروج ، بعد أن كان اليوم سيعقد قِرآن ابنته على ابن عمّها سالم إجبارًا حتى تفقد أملها بعودة راشد ليخرج راشد خطيبها المزعوم من حيث لا يحتسبون
هزّ رأسه بإيجاب ليُهمس:
هيه ابوي ، ها راشد ولد عمج
شعرت بدوار يفتك بها لولا أنها تمسّكت بيد والدها بقوة ، وحينها التفتوا جميعًا للذي دخل مستندًا على ابنته ويقول بصوتٍ غاضب:
شو بلاكم ؟ الصبّي يايبني من المسيد يقول خوانك يتناقرون
كبرتوا وخرّفتوا ؟ ما كنّ الواحد تحته عشر رياييل
توقف في مكانه عندما خرجت شهقة من جوف ابنته وأنظاره مصوّبه على وجه راشد الذي التفت له بمُجرد أن سمعه صوته
همس بضعف ووهن :
لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله محمد رسول الله
شعر أنه سيسقط من طوله وهو يرى وجه ابنه الغائب منذ زمنٍ بعيد إلا أن راشد كان أسرع منه وهو يتلّقفه ويحضنه بشدة
قبّل رأسه والده وجبينه ليُهمس بابتسامة موجعة:
أبو راشد ، رجع لك ولدك ! رجع راشد اللي يحفّ الأرض على شانك!
مسح على عضده بحنيّة بالغة وفرحة عارمة استحلّت قلبه ليُهمس:
اللهم لك الحمد والشكر كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك
اللهم لك الحمد والشكر ما خيّبت هقوتنا أنا والعيوز
والله يا راشد ما يعشيّك الليلة رأس ناقة
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن