الجزء ٢٥

861 17 2
                                    

.
فتحت إرم عيناها على صوت المُنبه وهي تشعر بِصداع يفتك رأسها ، أصابها الأرق ليلًا كعادتها عندما تُجهد نفسها بالتفكير
لم تجد تميم بجانبها ، ويبدو أن قد استيقظ مُنذ زمن لأن مكانه أصبح باردًا
اعتدلت في وقفتها وهي تتجه لدورة المياة حتى تغتسل وتتجهزّ للذهاب إلى عملها التي استأنفته بالأمس
أخذ منها الأمر نصف ساعة حتى ارتدت ملابسها العملية ، وأخذت عباءتها وحقيبتها وبطاقتها الطبية ! وتميم لم يدخل الغُرفة حتى الآن
نزلت للأسف وهي تعدّ الفطور للسريع لتميم وأعدّا لها قهوة سوداء ليوم طويل ومُتعب
لتقترب من مدخل الصالة وهي ترى في مُقدمته منشفة وعلبة رياضية مملؤة بالماء
أخرجت رأسها بإستغراب لترى تميم ، مُرتديًا " شورت " قصير جدًا ، وقميص مُلتصق بصدره بلا أكمام
يركض ذهابًا وإيابًا في فناء المنزل الكبير ! كرياضة إعتاد ممُارستها حتى لا تخمل قدمه الاصطناعية
حملت المنشفة والعلبة ليقترب هو منها بعد أن لمحها بابتسامة واسعة:
يا صباح الورد
ابتسمت وسط عُقدة حاجبيها لتردف:
صباح النور ، من متى وأنت هِنا؟
أخذ العلبة من يدها ليسكب بعضًا من الماء في فمه ، والبعض الآخر رشّ به أعلى رأسه من الحرارة التي يشعر بها:
من صليّت الفجر
رفعت حاجبها بدهشة :
يعني لك ساعتين الحين ؟ -عقدت حاجبيها- يارجال ارحم نفسك شوي ، كل صباح وأنت تركض بالحوش
والمساء تطلع الجم مع خيّال وأخوك
ابتسم وهو يلتقط نفسًا عميقًا مُنعشًا:
عادي ياحبيبتي لياقة لياقة - أشر بعينه على حقيبته - بتطلعين الدوام؟
هزت رأسها بإيجاب مُستعجلة:
ايه ، جهزت لك الفطور افطر قبل لا تطلع مهب مثل كل يوم يا تميم
اعتدل في وقفته وهو يقول بابتسامة جادة:
حاضرين يا حلو ، اليوم بتأخر في المقرّ
عندنا إجتماعين مهمين .. بعدها بنقعد نعدّ للبرنامج الجديد
إذا حبيتي ترجعين بيت أهلك تراك مرخوصة
أهم شيء عطيني خبر
ابتسمت وهي تمدّ يدها لتمسح على حاجبه الغليظ:
ماني براجعه بيت أهلي ، برجع بيتي عندي شغل كثير
-تراجعت وهي تتنهدّ وترتدي عباءتها- على العموم أنا بعد احتمال اتأخر
تدري فهد ولد راجح زوج أختي نقلوه للمُستشفى اللي اشتغل فيه ، واحتاج اتطمن عليه
وعلى باقي المرضى !
اقترب منها وهو يقبّل جبينها ليتجاوزها داخلًا إلى الداخل وبصوت مُرتفع:
الله يحفظك وانتبهي لسياقتك
ابتسمت وهي تُهمس بآمين خافتة لتخرج للفِناء حيث تقبع سيارتها ، أشغلتها لدقيقة
ثم انطلقت في يوم جديد ، وكفاح جديد
.
.
.
دخل راجح بإجهاد لمنزله صباحًا بعد أن كان مُستلمًا لـ" شفته الليلي " وهو يشعر أن قدماه ستتهشمان من التعب
ظلّ طيلة الليلة يجيء ويسير في الطُرقات والممرات بلا هدف كعادة الدوام الليلي
أكمل ابنه شهرًا كاملًا في غيبوبته ، حصلت له إنتكاسات عديدة وبُمعجزة ربانية تجاوزها بصعوبة
كم من دعوة في جوف الليل أرسلها لرب السماوات السبع مفادها " يارب احفظه وعطه من عُمري "
كم من همسات دامعة همس بها بينه وبين نفسه في طريقة لمواساة نفسه اللوامة
فقد كان يلوم نفسه ، أنه المُتسبب الأول بعد القدر الإلهي
يؤمن أن لكل شيء قدرٍ معلوم ، وقدّر لفهد أن يسقط جسده في بئر مملوء بالماء
ولكنّه لم يعمل بالأسباب ، لم يُمسك يده الصغيرة وهو يعلم أن في المزرعة مخاطر أخرى غير البئر
تعوذّ بالله من الشيطان الرجيم ، شهرًا كاملًا عاشه في وهن وضعِف وهو يُحاول التسلّح بالقوة
من أجل جدته الثكلى أولًا ، ثم من أجل أسيل .. وديّار
دخل إلى الصالة وهو يرى جلوس جدته وأسيل على الأرض يتناولان طعام الفطور
والصمت وحده الصمت يحوم حولهن ، متدثّرات به
كأنه عزاءٌ مفتوح الأمد ، لا زمان له ولا حدّ
قبّل رأس جدته ونظراته تستفسر عن غياب ديّار
لتُردف أسيل بخفوت:
فوق .. بالغُرفة
رفع ساعة يده وهو يهمس بضيق اتضحّ على ملامحه:
ما عندها دوام اليوم؟
هزّت كتفها بلا دراية لتقول جدته بحنو خافت:
قم اطلع لها يابو فهد ، البنت لها شهر بهالحال المايل
هي معنا وماهي معنا .. ماتدري ساسها من رأسها
تنّهد وهو يعتدل في وقفته ليتجهّ إلى الأعلى .. إلى غُرفته
فتح الباب بخفّة بالغة دون أن يصدر صوت ، ليراها على المكتب المنزوي
والذي قد أحضره لها عندما بدأت الدراسة
مُسندة جبهتها على الكتاب المفتوح ، وهمهماتها تصله بشكل مشوّش
اقترب ليضع يده على كتفها العاري بسبب إرتداءها لبيجامة نوم بحمّالة ليُهمس:
ليش مو جاهزة للدوام ؟
تنّهدت لترفع رأسها وهي تُبعد يده عن كتفها وتُهمس بضيق:
اليوم عندي أوف
نظر لها من جانب وجهها الذي كان مُقابلًا له ، تغيّر وجهها كثيرًا
اختفى بريقها الذي كان يشع من ناظريها ، تكدّس الليل المُعتم أسفل عينها
وشفاها فقدت رُطوبتها النديّة ! أصبحت كالجثّة تمامًا
بالكاد تتحرك وتذاكر وتنام ، وكثيرًا ما نشب بينهم شجار حاد بسبب أكلها الذي باتت تأكل منه القليل
ازاح الكرسي وهي فيه ليجعلها مُقابله ، جلس أمامها على أطراف أصابعه ليقول بحدة:
أنتِ وبعدين معاك ؟ كم يوم ما أكلتي أو حتى شربتي ماي؟
تنّهدت وهي تُترك القلم وسط كتابها:
مالك دخل يا راجح ، اهتمّ في نفسك وبس!
زمجر باسمها بحدة كادت تُبكيها ، فهي ليست بناقصه حتى يستثير مشاعرها:
ديّار !!
وقفت لتبتعد عنه وهي تجلس على السرير ، شبكت يداها ببعض دون أن تُردف بكلمة واحدة
اقترب منها ليجلس أمامها على السرير وشعوره بالغضب يتصاعد:
آمني بالله ، وبقدرته ومُعجزاته
هذا وهو ولدي .. من صُلبي وقطعة قلبي ! ما سويت سواتك
ولا أفقدت نفسي أساسيات الحياة.
إن قدّر له يعيش ، اللهم لك الحمد والشكر
وإن قدّر له الموت ! فاللهم لا إعتراض
طير من طيور الجنّة
ارتجفت شفاهها من كلامه القاسي على قلبها الطريّ ، كلامه لا يواسيها بل يُدميها لتُهمس بأنين:
أنت كيف لك قلب تقول عن ولدك كذا ؟
كيف لك قلب تتفاول عليه؟
هذا مب ولدك وبس .. هذا ولدي أنا بعد
-أكملت بغصة وهي ترى نظراته الساكنة- ليش أنت تحسّب
الأم اللي تولد وبس ؟ تراك غلطان
الأم هي اللي ترّبي وتكبّر وتسهر ! واللي عشته مع فهد بهالشهور ؟ يكفيني عن ميّة سنة
ولدي يا راجح ، اتقيّ الله في أمه من كلامك القاسي
تنّهد بُعمق الوجع في قلبه ، ونبرتها المُتألمة هذه تشقّ صدره العاتي من كل شعور
(كيف تختزلين كلّ هذه المشاعر في قلبك لطفلٍ لم يخرج من رحمك؟
أسألك بالله ثلاثًا ، أي مخلوق رقيق هذا الذي يقبل الزواج من رجلٍ أرمل من أجل طفله فقط؟
وأنتِ التي بعُمرك ، يجب أن تبحثين عن الحياة والحُب والإنجاز
لا عن إيجاد أمومة مُبكرة ، وتربية عصيبة)
اقترب منها مُحاولًا مواساتها وإن كان أكثر ما يحتاجه إياها
لكنّها أجفلت منه وهي تتراجع
باتت تخشى القُرب ، تخشى الإنهيار والدمار لصروحٍ قد بنتها مُنذ شهور طويلة
تجفل من كل حركة أو لمسة .. وهو بات ضعيفًا أمامها
ضعيفًا جدًا حين يراها تبكي ليلًا ، ولا يستطيع أن يزرعها في حضنه لخوفها غير المُبرر منه
كتم غيظه وهو يقول بغضب خرج غصبًا عنه:
لين متى كل ما قربت منك شبر .. تراجعتي أميال؟
لين متى وأنا أحاول أدك حصونك اللي ما تنتهي ؟
وقفت وهي ترتدي الروب القطني فوق قميصها لتقول بجمود مُصطلب :
مالك حاجة فيني ، قلتها قبل شهور بلسانك يا راجح
وبرجع أقولها لك بلساني حتى ما تفكّر مجرد تفكير تقرب منّي
-التفتت له بسخرية- ما قصرت
من أول يوم في ليلتنا العجيبة صرّحت برغبتك
لا تظنّ الشهور هذه بتغيّر شيء !! خلّك قد كلامك
اقترب ليلتصق بظهرها وهو يقول بهمس عميق:
ما نسيت يا ديّار عشان ترجعين تذكريني !!
لكنّ كل ما دخلنا البر ، وكل ما تعمقنّا فيه
تغيرت أحوالنا !
أخذت نفسًا عميقًا وهي تلتفت إليه بعد أن تراجعت خطوة:
أبي أروح أشوف فهد دام اليوم أوف
أمال فمه ليتراجع وهو ينزل ثوبه ويعلّقه في مكانه ليأخذ منشفته هامًا بالدخول وبحدة:
لا !
أردفت بنفس حدته الغاضبة:
هالمرة أرفض على كيفك لأن رفضك ما راح يوقفني
ودامك طول هالشهر ما تبي توديني ؟ فالله لا يحوجني لك
جابر وعياله موجود في الوقت اللي أبيه
صدّ بظهره وهو يتوّجه لدورة الميّاة ليقول بوعيد:
ما يحتاج أقول اللي تخطي خطوة وحدة برا البيت بدون شوري .. وش يصير فيها!
أغلق الباب من خلفه لتضربّ الأرض بقدمها مراتٍ عدة من غيظها المُتعاظم في صدرها
تكره أن تُستعبد هكذا ، عاشت مُدللة مُعززة وكل طلباتها أوامر في حال انصبّت بمصلحتها
لكنّ هذا الراجح بات يُقيدها بكلامه ، فهي على الرُغم من قُدرتها على نكث وعيده !
إلا أن كلام والدتها يتسربل لإذنها كلمّا أرادت بُمخالفته
( يا أمي الرجال تعالي له بالمسايسة ، لا ترفعين صوتك ولا تكبرين رأسك ! ولا تنسي إن رضاه متعلّق برضى ربّ العالمين )
تنهّدت وهي تُعاود الجلوس على الكُرسي تُحاول أن تلهي نفسها في الدراسة .. وقليلًا من التفكير في فهد
.
.
.
وقفت إرم أمام زُجاج العِناية المُركزة تنظر من خلفه لجسد فهد الذي تحسّن كثيرًا عن سابقه!
قبل شهر بالتمام ، كان جسده مُنتفخًا ! وكأنه كرة مطاطية كلما يزداد بداخلها الهواء يزداد حجمها
بات أفضل من ذي قبل ، عادت مؤشراته الطبيعية للإنتظام
إلا أنه ما زال في غيبوبة ، ولا يستجيب لأي حركة
تنّهدت وهي تلتفت مُتجهه لغُرفة الطبيبة المُشرفة على حالته
وتدعو الله بداخلها أن تكون ما زالت في مكتبها
فقد انصرف الأطباء مُنذ زمن عند هذا الوقت
طرقت الباب لتتسع ابتسامتها وهي تسمع صوتها من خلفه لتدخل بكلّ هدوء
ابتسمت الدكتورة التي تجلس خلف مكتبها:
أهلًا دكتورة إرم ، الحمدلله إنك مريتيني اليوم
من كثر الشُغل نسيت أطلبك
عقدت حاجبيها ونبرتها لا تُشجعها على الإقتراب ! لكنّها وأخيرًا جلست عندما أشرّت لها الدكتورة:
عسى ما شر؟
شبكت كفيّها وهي تضع مرفقيها على الطاولة لتقول بتوتر:
أتمنى إنه خير يا دكتورة إرم .. أنا كشفت اليوم على حالة فهد
الحمدلله حالته في إستقرار تام !
إستمرار الغيبوبة لحد هذا الوقت شيء وارد لأنه جسمه ضعيف ويحتاج وقت
وأنا متفائلة إن شاء الله إنه بيصحى في وقت قريب جدًا
لكنّ - سكتت قليلًا لتُكمل - كونه ولد أختك أبيك توصلين لهم الخبر بطريقة ألطف عن طريقة الطبيب المُشرف
زفرّت إرم نفسًا طويلة من هذه المُقدمة البالية لتقول بجدية:
يا دكتورة وش يشكي منه فهد؟
أكملت الدكتورة بمهنية :
أنا عرفت إن فهد لما وصل المُستشفى كان خلاص الأكسجين بدأ ينفذ
لعلّ هذا أثر عليه ، وإحتمال ..
هذاني أقول احتمال يا دكتورة
والاحتمال تتوارد له آلاف الحلول
إحتمال إنه يُصاب بشلل نصفي بسبب قلة وصول الأكسجين للدماغ
مسكت إرم جبهتها بصدمة من هذا الكلام المُوحش والمؤلم
يالله ، أيُحتم على هذا الطفل أن يعيش باقي عُمره مشلولًا
وهو للتو لم يعش بقيّة حياته
ما أهون الأمرين يالله ؟ أن يموت ؟ أو أن يُصاب بالشلل ليُنحر والده .. وديّار ؟
تنهدت وهي تقف لتقول بجدية:
لا حول ولا قوة إلا بالله ، بوصل الخبر لأهله
وأي تحسّن ولو طفيف ياريت تعلميني يا دكتورة
أنا أتابع حالته يوميًا ! بس ما يمنع
خرجت بعد أن ودعت الطبيبة وهي تتجه لمكتبها لتحمل عباءتها وحقيبتها عائدة إلى المنزل
وعيناها مُتخمتان بالدموع ، عاجزة عن صياغة الخبر لديّار
أختها الصغيرة .. التي أنهارت قبل شهر في أحضانها
من احتراقها وترمّدها ، من رُعبها في فُقدان فهد
كيف تُخبرها اليوم وتُخبر راجح أن طفلهما الصغير سيُصبح مشلولًا للباقي من عُمره ؟
ركبت سيارتها وهي تمسح وجهها بخفّة لتحوقل بقلبها الشجيّ مراتٍ عدة
وهي تدعو الله أن يمدّها بالقوة والصبر !
قادت سيارتها على سرعة خفيفة نظرًا لكونها ما زالت في حرم المُستشفى
ويدها بداخل حقيبتها تُحاول الوصول إلى هاتفها لتُحادث تميم وتُخبره أنها ستعود لمنزل أهلها أولًا
تأففت عندما لم تستطع الوصول إليه ، وهي تظّن أنها نسته في مكتبها
ضغطت على الفرامل لتُعود إلى الخلف ، لتتفاجأ أن الفرامل مُعطلة
سقط قلبها في بطنها ، لتُبلع ريقها بخوف:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
مدت قدمها مرة آخرى للفرامل ، لكنّ على حالها .. مُعطلة
تنظر لسُرعتها التي تجاوزت الستين ، وعلى بُعد كيلو يأتي دوار المُستشفى الكبير
تشعر كمن دنى منه الموت ، تشعر أن هذه هي نهاية حياتها
( يالله ، لست مُستعدة !
لست مُستعدة لأن تُنزع روحي من جسدي !
ماذا قدمت لهذا الجسد قبل أن يُبلى ؟ قبل أن يوارى تحت الثرى ؟
لم أنجب أطفالًا بعد ، لم آتي بهم لهذه الحياة حتى يذكرونني
وأصبح ذلك العبد الذي يلقى " ولدًا صالح يدعو له " بعد موته
لم أعش حياتي كما أبتغي !
هل لتلك الدرجة كُنت مُحاطة بالنعم دون أن استشعر قيمتها
وحين لاح لي من بعيد هيئة الموت أدعوك ؟
لأدعوك بحق إلاهيتّك يارب ، أن لا تُفجع أمي وأبي بي
أسألك بعظمتك أن تقبض روحي ، وجسدي صالح للكفن وتوسد التُراب
لا مُحترقة ولا مطموسة يارب )
كيف يُعقل أن تتعطلّ الفرامل والسيارة منذ الصباح تقف في المواقف المُخصصة
بلعت ريقها عشرًا ، عقلها يعمل سريعًا ! سُرعتها ما زالت ثابتة
ولكنّ الدوار يقترب ! يقترب كثيرًا كإقتراب خُروج الروح من الجسد
أمالت المقود ، وفي ثواني معدودة جدًا
وجدت نفسها تدخل في مُنتصف عمود الإنارة
.
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن