الجزء ١٦

855 16 1
                                    

.
بعـد اسبـوع - يوم الجُمعـة :
يجلس إياد في صالة منزلهم وهو يرتدي ثوبه وشماغه !
كم يفتقد لهذا الزيّ الرسمي الأثيري ، لم يكن يرتديه كثيرًا
ولكن يوم الجمعة مقدّسٌ عنده فلا يستطيع أن يخلّ بقُدسيته بتاتًا
يشرب من دلة القهوة قبل ذهابهم لصلاة الجُمعة وتفكيره يتفرع لعدة أشياء لكنه يدور ويدور حتى يقف عند تميم
عند عودته منذ أيام قليلة ، ورؤيته لتميم يستقبله على عكّازه
شعر بضربة قاسية صادمة آلمت بصدره!
شعر أن روحه صعدت للحظة لتعاود الدخول إلى جسده بكلّ وحشيّة
عاد وهو يظنّ أن كل شيء سيكون كما تركه قبل ٥ سنوات
إلا أنه عاد من غُربته وأخيه فاقدًا لإحدى قدميه
لم يسمح له تميم حينها بالتفكير كثيرًا بأمره فقد قابله بمرح روحه الحزينة
التي وفي أعظم مدارات حُزنه ، إلا أنه يبتسم
شُعاع الحياة يلمع من عينيه ، بريقها وشغفها لا ينكفئ عن التّوقف مهما جابه من أمور عظيمة
ابتسم عندما شعر بالصغيرة المدلله تحتضن رقبته من خلفه وتقبّله على خده:
صباح الخير مسيو إياد
امسك يدها وهو يقبّلها بخفه ويُبعدها بابتسامة:
صباح النور يا سروري !
جلست بجانبه بعد أن سكبت لها فنجانًا من القهوة العربية الشقراء الباهيّة
تنظر له بنظراتها الغريبة التي يحفظها إياد جدًا
ابتسم دون أن يلتفت لها وهو يسكب له الفنجان العاشر في صبيحة هذا اليوم:
نعم يا أختي وش هالنظرات القافطة؟
تركت الفنجان على طاولة الخدمة لتقول بشكّ:
أنت مغيّر عطرك؟
ابتسم وبكلمة واحدة : لا
التفتت له بكامل جسدها لتقول وهي تمثّل الصدمة:
إلا واللللله مغيّر عطرك ! أنت سنين ما غيّرته
أقصد من آخر مرة جيتنا ما غيّرته ! وعطرك أعرفه من على بُعد ١٠ كيلو
دخل من وراءهم تميم يستند على عكّازه وخلفه ليث:
اهب ياذا الوجه ، كلب مب آدمية
عفس إياد وجهه بغضب ليقول:
اذكر ربك لا اخليك تندم على كلمتك الحين
جلس تميم وهو يأشر على شادن لتسكب له بعضًا من القهوة وسط ضحكات ليث:
ألف من ذكره ، بس تراني صادق
تروح وترد بعد سنين وهي حافظه عطرك بالتمام
لكنّ ما ألومها كل يوم تدخل غرفتك تشمشم هالعطور وتبكبك على أطلالها
ابتسم إياد وسط غضب شادن التي وضعت القهوة بجانبه بقوة
ليقول بصوت عالٍ:
اكسريييييها بعد ، لا أحسن اكسريها فوق رأسي
أعوذ بالله كل هذا عشان إياد
أعادت الجلوس بجانب إياد وهي تحضن عضده:
ايه كل هذا عشان إياد .. أنت وأخوك اطلعوا من بيننا
فتح ليث عينيه على وسعها:
أنا شكوووو يا صيّاحة ؟ والله أنك كلبة ما كذّب تميم
الحين لازقة فينا من سنين وبنين وبس يجي الدكتور إياد تحذفينا للزبالة .. يا ناكرة العشرة
أكمل تميم بنفس الغيض:
وناكرة العيش والملح والفلفل اللي بيننا !
قبل اسبوع تبكين عليّ وعندي والحين مستقويه باللي جنبك
أوريك خليني استفرد فيك بس وين بتروحين!
ضحك إياد على هذا الجو العائلي الذي اشتاق إليه
على تميم ومرحه ، وليث بضحكاته التي تُغيض شادن أكثر وأكثر
لا ينكر أنه يشتاق لهم بين الفينة والآخرى ، ولكنّ شعور الغُربة يتفاقم عندما يطأ أرضه ووطنه
ابتسم منهيًا جدالاتهم:
بس ترا فعلًا مغيّر عطري ، يعني هار دلك
واحد صفر لي ولشادن
ابتعدت شادن وهي تنظر له بعينين ملؤها الصدمة ويدها على فمها:
من ورااااااي ؟
عقد حاجبيه بعدم فهم لينظر لها بإستفسار وتُكمل بخوف:
إيادوه ، لا يكون تحب من وراي؟
تكفى اصفقني كفّ ولا تقول آيييه صح أنا أحب
تراجع وهو يضحك بإستغراب من استنتاجها الغريب
ليقول تميم بضحكة:
مسويه قافطه الحين ؟ شعرفك إنه يحب ؟ لا يكون قاعدة تشمّين ريحتها فيه
التفتت وهي تُنقل نظراتها بينهم:
لا حبيبي ، يقولك العلماء لو شخص غيّر فجأة عطره اللي متعود يستخدمه من سنين فهو وقع في الغرام
ضحك ليث من استنتاجها ليقول:
اوهووه علينا من أفكارها هالهبلة
طبعًا خُرافة من نسج خيال البنات
ضرب إياد رأسها بخفّة وهو ما زال مُبتسمًا بابتسامته العريضة:
أنتِ ايه يالمجنونة ، لا تجيبين أفكار من رأسك
وتبليني فيها .. أنا وين والحُب وين
-ضحك عندما رأها تصرّ بعينها غير مُقتنعة- وبعدين لو فيه وحده أنتِ أول من يعرفها
وين أمي؟
وقفت عندما رأت أمها تحمل المبخرة يشتمّ من خلفها العود الكمبودي المعتّق:
ضيّع السالفة ياحبيبي ، شادن ما يخفى عليها خافية
اقتربت زُهى وهي تقف أمام ابناءها:
تعالوا أبخركم عشان تلحقون على صلاة الجمعة!
الخطبة راح تُقام بعد شوية
اقترب إياد أولًا ليقبل رأسها :
لا خلا ولا عدم يالغالية
أدمعت عينها بابتسامة خافتة على هذا الغائب البعيد .. إلا أنه يبقى بِكرها وأول فرحتها
يستحيل أن تنسى صرخته الأولى ، سنّه الأول ، مشيته الأولى
يومه الأول في الروضة ثم المدرسة وحتى الجامعة
سجنه وحُزنه الذي فرّ هاربًا من بلاده بسببه ، كل شيء عاشته معه خطوة بخطوة
إلا آخر سنواته الطويلة ، فقد أصبح بعيدًا كبعد المشرق عن المغرب
أصبح لا يطيق ذرعًا التواجد في أحضانها ليهرب إلى أحضان مدينة الضباب
أصبح لا يُحبذ أن يفضفض ما بقلبه لها ، بل اكتفى بإحتضان وسادته وتفريغ همه لها
همست بدعوة صادقة من قلبها وبصوت مرتجف:
الله يجعلني أشوفك معرس وأبخّر بشتك بيوم السعد
يالله ما يحرمني أشوف دخلتك وعيالك يمشون وراك
أوجعته روحه التي انتفضت بشدة من هذه النبرة المُرتجفة
آهٍ يا أماه من شخصي السيء وروحي العاصية لهذا الوجه البشوش
كُنتِ وما زلتي من يأخذني للبعيد من الحُزن .. لأول طمأنينة
ولأول إحتواء ، لأول الحظ ولآخر النصيب
أعاقٌ أنا يا أماه ، أم قلبي تجبّر وغاص في الحُزن دون زُهاك ؟
قبل رأسها أعقبها آمين خافتة لأجلها فقط
قفز تميم في هذه اللحظة:
يمه عطي هالدعوة تحويله لليمين شوية
قسمًا بالله أنا قاعد هنا لا تحرون قليبي الصغيّر
اقترب ليث وهو يبتسم ليقف أمام والدته وتبدأ بتبخيره:
مشفوووح أعوذ بالله وش ذي العجلة كلها على العرس
تنّهد تميم بحُزن مصطنع :
بلاك ماتدري شيء عنه !
والله ربعي الكلاب مستانسين على الزواج ويقولون تزوج تزوج
قهروني وأقول يارب ما فاتني شيء
ضحك إياد ليضرب كتفه بخفه:
يارب الصبّر ، أنت ياولد اصلب روحك شوية
متى موعدك اليوم؟
خروجوا لسيارة ليث متوجهين لصلاة الجمعة في الجامع القريب من مسجدهم
ليردف تميم بجدية :
العصر ، خيّال الله يجزاه حجزلي في مستشفى خاص عند أحسن دكتور أطراف صناعية وبمرّ عليه العصر
هزّ رأسه دون أن يرد وطاري خيّال يُعيده لتلك التي تركها حزينة .. ومودّعه
"قبل اسبوع - في كوينز وي :
يقف مبتسمًا لا إراديًا أمامها ، وصمتها هو سيّد الموقف ..
هزّ رأسه مرتين دون أن تنتبه له ! وفي كل مرة تزفر فيها تتسع ابتسامته
حتى همست بخفوت:
خلاص ، بتـ ـروح؟
ابتسم أكثر حتى بانت اسنانه :
بروح ، تآمرين على شيء ؟
أخذت نفسًا عميقًا لتنظر لعينيه ، إلا أنها عجزت عن ثباتها أمامه نظرات عينه المُربكة
أعاد كلامه مرة آخرى:
سمّي يالكادي في خاطرك شيء؟
ابتسمت بخفّة وهو يصرّ على مُناداتها بـ الكادي ، بدلًا من كادي
يصرّ على تعريف اسمها بالألف واللام ، وكأنه يقول أن اسمك لا يزهى إلا بها:
لو طلبت منك طلب ؟ ما راح أكلف عليك؟
وضع يديه في جيب بنطاله :
ماهنا كلافة ، سمّي!
اعتدلت في وقفتها لتقول بقوة مرة واحدة:
إذا لقيت أخواني .. ولا أبوي سجلي لي صوتهم
بعد إذنك طبعًا
عقد حاجبيه ليقول بإستغراب:
اتصل فيك عشان تسمعين صوتهم يعني؟
وبنفس القوة أردفت:
لا .. بس سجل صوتهم!
كتّف يديه ليصدّ جانبًا وهو يقول بابتسامة:
يعني خلّك جاسوس يا إياد وتنّصت على أهلي - نظر لعينها بجدية - عشان تسمعين صوتهم كل دقيقة
وبكل مرّة تبكين وتزيدين جروحك ..
لا يالكادي ، آسف
تنّهدت وهي تنُزل نظراته ، لا تستغرب أنه كشف ما تُريد فعله
ولكن هي فعلًا تشتاق إلى أصواتهم!
تشتاق إلى صوت والدها بالذات وتفتقده بشدة عارمة
آخر نبرة سمعتها منه هي نبرة الخوف التي كان يتجرعها باسمها
قد يكون في طلبها لإياد قلة مرؤة ، ولكن لا تستطيع أن تمنع تفكيرها عنهم
ولأنها تعلم تمامًا أن إياد سيلتقي بهم يومًا
لتُهمس بضيق:
طيب ، خلاص مشكور ! تروح وترجع بالسلامة
أعطته ظهرها تنوي الرجوع إلى شقتها إلا أنه أوقفها بصوته:
لحظة
دون أن تلتفت له أكمل:
عندي شرط!
أنزلت رأسها بابتسامة وهي ما زالت على نفس وضعيتها:
ما يحتاج دكتور  .. اعتبرني ما طلبت منك شيء
لأن الطلب اللي يجي وراه شروط ، ينعاف
اقترب منها ليقف خلف ظهرها بمسافة قليلة وبصوت هامس:
ما ينفع كذا ، بنصير طرفين غير مُتكافئين
في أي عمل في هذا العالم ، إذا قدمتي طلب
لازم يطلبون منك شروط ! وحدة بوحدة
التفتت له بجدية لتتراجع بصدمة عندما شعرت بقربه منها
بلعت ريقها لتُردف بجدية:
إلا كادي ، ماعندها هذه القوانين !
وقلت لك إنسى خلاص اعتبرني ما طلبتك ..
قاطعها عندما أردف بعجلة:
ما تبكين ولا تزعلين ! ولا بخورها قدام أهلك كلهم
عقدت حاجبيها بعد فهم ليكمل:
تبين تسمعين صوت خيّال مثل المرة الماضية ؟
ابشري .. لكن اسجّل لك صوتهم ! اعذريني
أولًا ، ماهو من حقيّ أسجلهم بغير رضاهم
ثانيًا ، أنتِ بتتعبين وتحمليني تأنيب الضمير وأنا مو مستعد أتحمله
لذلك بخليك تسمعين صوت خيّال ، وخيّال بس
نظرت له بغضب حامق ؛ لتتراجع وهي تتنّهد بعد ذلك بهمس:
تروح وترجع بالسلامة!
زفرّ نفسه عندما رأى ظهرها ومشيتّها تدل على غضبها وحمقها
مسح على المنطقة الواقعة بين حاجبيه ليهمس:
يارب الصبر"
.
.
.
يقف مهند مقابلًا باب البناية في الشقة التابعة لكادي ، ينتظر خروج ماريّا والجو فعليًا بدأ بإنحسار برودته
ولعلّ بعد برد لندن القارص ، يأتي ربيع مُزهر لحياتهم وقُلوبهم المُخضرة
ابتسم بخفَة وهو يرى خروج ماريّا مُرتدية لبيجاما نوم بلون واحد وفوقها معطف ثقيل
تعقد شعرها في أعلى رأسها كمثله تمامًا
خرجت لتتكئ على الباب الزُجاجي وتنظر إليه:
نعم ؟
ابتسم مُهند وهو يقترب منها :
الله ينعم عليش ، ممكن ترجعين لبيتش؟
رفعت حاجبها دون أن تردّ عليه ، ليُقابلها هو بمثل حركتها مُستفسرًا:
خير ؟
كتّفت يديها لتقول بابتسامة:
روح روح الله يعطيك! ماعندنا لك شيء
فتح عينه على وسعها من زعلها الذي طال كثيرًا:
ايييه جاي اشحت أنا ؟
ترا جاي آخذ حرمتي لبيتها
حاولت كبت ابتسامتها على غضبه الذي بدأ يظهر:
وأنا أقول توكلّ الله يعطيك ماعندنا لك مره
عضّ على لسانه ليقول بغضب مكبوت:
جربتي كف على وجهش الساعة ٤ عصر ؟
شهقت بتمثيل لتتراجع للخلف:
بتضربني ؟ قصورك تمد ايدك علي يا مُهند
أردف بغضب وهو يرى مماطلتها:
تهددني أونها !
لا أنا حمار لو ضربتش ، ما يضرب الحريم إلا الحمير
قومي بسرعة جيبي أغراضش وخلينا نمشي
لا تخلي جنوني يطلع عليش تو!
عقدت حاجبيها بإمتعاض:
ورني ينونك الحين يالله ؟ يوم تتعدل برد الشقة
أما وهذه أنت حالتك اسمحلي يا حبيبي
مب مستعدة ارجع!
اقترب منها أكثر ليقول بنبرة استعطاف:
وأهون عليش مخلتني ذا كله ؟ والله لو شفتي الشقة
كيف صايرة بتقولي هذه حظيرة حيوانات مب شقة
رفعت حاجبها بإنتصار:
لأن اللي ساكن فيها حيوان ؛ مب قادر يمد ايده ويرتب شقته
-سكتت عندما رأت اقترابه يزيد حتى أوشك على الإلتصاق-
ايييه أنت وخر عن ويهي ، شبتسوي
ابتسم ابتسامة -عبيطة- ليردف:
براضيش!
أبعدت وجهه بيدها بعيدًا عنها:
وخر زييين ، مابي حد يراضيني !
مسك يديها الاثنتين ليقترب منها بهمس:
والله والله براضيش - قبّل خدها ثم انتقل لجبهتها -
وهذا بوستين بدل الوحدة علّها تليّن قلبش
نظرت لعينيه الساحرة تُحاول كبت ابتسامتها التي تطفو على السطح
يُجيد جيدًا العبث بقلبها بأبسط الأفعال والأقوال
تُحب مرحه ، جنونه ، وحتى وقوفه في هذا الوقت من اليوم مُحاولًا مُراضاتها!
ليست بغاضبة عليه أصلًا ، ولكنّها تُريد الإبتعاد عنه قليلًا
همست:
يابلفيت راضيتني الحين يعني؟
ابتسم وهو يتراجع بغمزة:
وأراضي أهلش كلهم بهالطريقة لو تبين!
ضربت صدره بغيض منه ، لا تمر دقيقة دون أن يُغيضها
مسك يدها قبل أن تُعيد ضربه مره آخرى:
يلا خلينا نمشي
ابتسامة بخفوت لتُهمس له:
ماقدر ، بردّ باجر ! الحين دانة وكادي ينتظروني
مب حلوة بحقي أطلع وأنا أوردي وعدتهم ايلس عندهم
ترك يدها ليتراجع وهو يتأفف بصوت عال مغتاض ليُأشر لها بإصبعه السبابة مهددًا:
بكرة من يصبح الصبح بجي اخذش !
وإن قلتي لا .. لا تلوميني على أي حركة بسويها بعدين
ضحكت بعد أن عجزت السيطرة لتهزّ رأسها دون أن تُجيبه وهي تُعاود الدخول للداخل
تأفف مُهند بملل بعد أن رحلت عن ناظريه ، ليأتيه صوت مرح من خلفه:
ها المطرووود؟
التفت لمصدر الصوت ليجد راشد بضحكته المكبوتة يحمل أكياس بيده
نظر له بنصف عين:
أقووووولك .. بتندفن اهنييي هاااه
ضحك راشد بصوت عالٍ مستفزًا إياه ليُأشر له:
امشي امشي بس خلينا نروح شقتي
بسويلك هذيك البيتزا اللي تعوف البيتزيات بعدها
مشى بجانبه بنفس الابتسامة الضاحكة :
أخيرًا مستر شيف نزل من برجه العاجي وتنازل لنا
ما بغينا يا شيخ
مد بعض الأكياس له ليرفع مُهند حاجبه :
بشكارتك أنا ؟ شيلها بروحك
عقد حاجبيه بغضب مصطنع:
ساعدني يا حيوان ! ولا والله أخليك بيوعك اليوم
وشوف من يسوي لك بيتزا!
أخذ الكيس من يده بحمق ، ولم يكتفي بذلك
فقد مدّ يده حول رقبته ليسحبه حتى وضع رأسه على مستوى بطنه !
بعثر شعره مراتٍ عدة وسط ضحكات راشد العالية:
بتذل أميييي على هالبيتزا هاه ؟
قول ترا بعدنا على البر ، إذا هذا أولها ينعاف تاليها
وبشوفلي أقرب مطعم بيتزا من هنا
ضحك راشد مستمتعًا على إغاضته ليقول بألم مصطنع:
اييييه رقبتي تعورنيي ! خوز عنيييي
ابتسم مُهند ليُخفف من قبضة يده لكن لم يتركه ، بل أحاط يده بكتفه محتضنًا إياه:
تدري راشد ، كانت فرصة سعيدة إني ألتقي فيك هنا
والله العظيم أنت مافي مثلك ، رجال عن عشرة رجاجيل
واقف معنا بالحلوة والمرة وتتألم قبل ألمنا ، تخاف علينا قبل خوفنا على نفسنا
تهتم فينا كأننا من لحمك ودمك ، والله إن أمثالك نادرين
وقفا أمام باب البناية ليُخرج راشد المُفتاح ويفتحه:
يالس تدهن سيري ؟ ترا بسويلك بيتزا بدون دهان
ضحك مُهند وهو يدفعه من كتفه بخفّة:
منت محتاج دهان سير ! أنا أقولك الصدق يعني
دخلا لينقطع صوتهم عن ذاك الذي كان يقف في الشارع المُقابل لبناية راشد
وعينيه متسعتان على وسعها من الصدمة التي يرى في هذا المخلوق في هذه المنطقة الجغرافية
همس لصحابه الذي بجانبه بصدمة عارمة:
شفته ؟ هذا ما مُهند اللي كان معنا في ثانوية الإمام جابر بن زيد ؟
التفت له صاحبه بعقدة حاجبيه:
ويش ؟
نظر له والخوف ملأ قلبه ، الأموات لا يعودون للحياة
الأموات في قبورهم يُحاسبون الآن ، يستحيل أن يكون من أشباهه الأربعين !
فمُهند هو مُهند تعرفه من هيئته من على بُعد كيلومترات طويلة :
مُهند بن أحمد بن علي ما تعرفه ؟
كان ماسك فريق الموسيقى في المدرسة ، دارس معنا في جامعة السلطان قابوس
وقالوا بعد فترة إن مات ، وحاضرين عزاه
ما تتذكره؟ والله هو .. قسم بالله هو عيني ما تكذب!
.
.
.
نزلت إرم من سيارتها بعد أن أوقفتها خارج المنزل لوجود سيّارة خيّال أمام باب الكراج
وهي تنزع نظارتها من وجهها بعد عودتها من عملها الطارئ الذي خرج لها في إجازة نهاية الأسبوع
رأت وقوف احدهم متكئًا على سيارة مُشتغله وعكازه بجانبه
لم تحتج وقتًا طويلًا لتعرف من هو!
فقد سبق وأخبرهم خيّال عن إصابة صديقه تميم ..
همّت بالدخول للمنزل إلا أن صوتًا جادًا أوقفها:
إرم !
عقدت حاجبيها لتلفتت ببطء شديد تُحاول إذنها إستيعاب هذا الصوت بعد أن قامت بتهديده
نظرت له بنظرات شرسة مُتناسية وجود تميم بالقُرب منهم:
أنت ما تستحي على وجهك؟
بكل قواة عين وبعد الكلام اللي قلته لك أشوفك هِنا
جاي تكلمني قدام بيت أهلي؟
أخذ نفسًا عميقًا مُستعدًا لكل كلمة تقولها في سبيل رضاها:
أبي أكلمك ، وهالمره في حضرة وجود أبوك وأخوانك
أنا كنت جاد في كلامي يا إرم ! وماهو أنا اللي يتراجع
-وبنغزة - من مجرد تهديد
ابتسمت بسخرية :
جنيت على نفسك بجيّتك اليوم ! والله يا صالح جنيت على نفسك
أنت ما ترحم حالك ؟ ولا ترحم أمك وأبوك ؟
اقترب منها وجدًا لينظر في عينيها بقوة :
لسانك وإن كذب يا إرم . بس عيونك دايم صادقة
ما عُمرها غلطت في نظرة .. جاتني
أنا أبيك ، لآخر رمق أبيك ! واللي تبينه منّي بعدين أنا حاضر
حتى لو .. - ليسكت قليلًا ويهمس بصوت وصلها هي فقط - أتعالج!
اعتدلت في وقفتها لتقول بقوة وهمس:
علاجك يخصّك وحدك ، لأني طلعت من حياتك وما عاد فيها شيء يغريني
أنا انتهيت منك يا صالح .. بأي لُغة لازم أقولها حتى تفهمها ؟
نظرت له وهو يرفع عينيه للأعلى ويُغمضها مُحاولة كبت غضبه
وبوضوح رأت اهتزاز رقبته عدة مرات ليتراجع للخلف
همس بشرر:
غيري ما بتآخذين ، خليتك سنة تفكرين ويطيح اللي برأسك بس الظاهر لازم أتحرك بنفسي
لا يكون حاطه في بالك إنك بتبعدين ؟ - رمقها بنظرات ساخرة ليلتفتت لتميم بنفس النظرات -
أو حاطه عينك على هالناقص؟
توسعت عيناها بصدمة من وصفه الدنيء في حق تميم الذي رأت ابتسامته الساخرة المُوجعة دون حتى أن يلتفت إليهم
لتنظر له بكلّ الغضب الذي في قلبها عليه بصوت شبه عال:
تعيّب على غيرك والعيب فيك؟
التفت لمصايبك يا صالح وحلّها ثم عالج عُقدك هاللي خلتك تشوف نفسك فوق
نرجسيتك وعنادك بيضيّعك وحدك!
اقترب منها بصُراخ غاضب وهو يرفع سبابته في وجهها من عدم مُبالاتها
وكسرها لقلبه دومًا ، من قوتها التي يكره أن يراها في قمة ضعفه:
والله العظيم ما بتتزوجينه ، ولو فكرتي بس فكرتي
يا إن حق ولدي اللي راح بطلّعه من عينك!
سكنت حركتها فجأة مصدومة من هذا الرجل الذي أصبحت لا تعرفه ! أو بالأحرى
كانت تعرفه ولكنّ بعد فكّ أقفالها قد بانت شخصيته المُتوحشة
ارتجفت من ما تفوه به ، ارتجف قلبها عندما تذكرت طيرها الراحل بجوار ربها قبل أن يطلق صرخته الأولى في هذه الدنيا
لتدمع عيناها ، من وجعها ورغبتها الشديدة كلّ يوم في احتضانه
رجفات قلبها عندما يضرب بطنها إثباتًا لوجوده ، تجهيزاتها له بكلّ شغف ولهفة
وبكلّ برودة دم ، يأتي هذا الذي كان سُيصبح أبًا فاشلًا ، يقول أنه سياخذ حقه
اقتربت بخطوات ساكنة / هادئة / دامعة / متألمة وكل المشاعر المُتناقضة
لتمدّ كف يدها للأعلى حتى هوى على خده !
لم تكتفي بذلك ، بل رفعت حقيبتها التي كانت تحملها لتضربه على صدره بشكل متتالي
لم تُبالي بوقوفهم أمام منزلهم ، أو أمام تميم
لم تُبالي بصوتها العالي الباكي ! فإن حُرقة قلبها هي سيّدة الموقف
صرخت بقهر / بدموع ساخنة حرقت وجنتيها:
حق ولدي اللي راح ..  بتآخذ حق ولدي اللي راح ؟
من اللي خلاه يروح يا حقير .. من اللي حرمني منه ومن وجوده حولي وحرمني من تربيته
ماهو أنت يا سافل يا حقير ..
٨ سنين وأنا صابرة على ضيمك ومزاجك التافة ، ٨ سنين وأنا أعاني بسكوت حتى صابتني حالة نفسية بسبتّك
٨ سنين ووجعي كل يوم يزيد ويزيد..  ويزيد معها حُبك لي اللي منعني من الانفصال والطلاق
٨ سنين وأنا واقفه معك بكل مرارتك يا ناكر المعروف .. ٨ سنين ضيّعتها من عُمري وصحتي وشبابي عشان ايش؟
عشانك تُحبني ! عشان ما بغيت أهدم الحياة اللي بيننا
-تراجعت وهي تمسح دموعها بوحشية -
صبرت عليك عشان مرضك اللي تخبيّه عن أمك ، عشان مرضك يا مُنفصم الشخصية
كنت تصحيني بنص الليل راجع من برا وتطيح فيني بالضرب ، اسكت وأبلع موس لأنك مريض
-صرخت بقهر - لأنك مرييييض ، والمريض مرفوع عنه القلم
إن ما لقيت أغراضك الشخصية . أو ما عجبتك طبخة معينة
أو شفتني محركة بس محركة مزهرية وحدة من البيت يزيد جنونك وتضربني ضرب يهدّ حيلي
تبي تعرف كيف راح ولدي ؟ - صرخت مرة آخرى - تبي تعرف يا حقيييير؟
ماهو أنت اللي شفتني صاعدة الدرج ولأنك ناديتني وأنا ما سمعتك
جيتني وضربتني بعقالك وطيحتني من ٥ درجة!
تبي تاخذ حق ولدك الحين ؟ من أول مرة ضربتني فيها ! سقطت كل الحقوق اللي عندي لك يا صالح
سقطت ، بححح طاااااارت
تراجعت بعد هذا الإنفعال وسرد الذكريات البائسة التعيسة !
فقدت السيطرة على نفسها ورجفتها تزداد عند كُل صرخة
كانت ستُكمل ، ستُفرغ ما بداخلها أكثر وأكثر
إلا أن صوتًا ملأهه الشر من خلفها بحدة:
تقولينه صادقة يا إرم؟
التفتت بخوف عميق لخيّال الغاضب وجدًا أمامها
خيّال اليوم بالذات هيئته مُختلفًا كليًا وتمامًا ! تبدلت ملامحه للشر والغضب والقهر والحسرة مما سمعه للتو
همست بخوف:
خيّـ ـال
اقترب بهدوء وعينه على صالح ، يرفع أكمام ثوبه بهدوء ونيتّه تتضح دون قول وبهدوء:
يعني ٨ سنين وأنتِ ساكته عن هالكلب ..
واحنا يا غافلين لكم الله؟
بلعت ريقها دون رد ، وأخيها اليوم مُهتاج في حالته ! خيّال اليوم غير قابل للنقاش أو حتى التفوه بحرف واحد
صرخت بخوف عندما رأت خيّال يُمسك صالح من ياقة ثوبه
ليهوي بجبهته على أنفه التي تُقسم أنها تفتت من الدماء النازفة
صرخ خيّال بغضب وهو ما زال يُلكمه:
هذه آخرتها يا صالح .. هذه آخرتها يا ولد الخالة ؟
تضرب لك بنيّة صغيرة .. تضربها وتعلّم على جنوبها - لكمه على عينه بصرخة - عطيناك شيختنا
عطيناك تاج رأسنا واللي تسوى عيوننا وآخرتها تضربها وتهينها
ما حسبت حساب الجبال اللي وراها ؟ السند والقوة اللي يكسرّوك ويدفنوك بمكانك؟
سقط صالح على الأرض بدماءه دون أن يقول حرفًا واحدًا
وكأنه راضٍ عما يُبدر من خيّال لعلّ هذا الأمر يُريح إرم
لعله يُريحها عندما ترى أن أخيها قد اخذ حقها واقتصّه منه
ضربه برجله على بطنه ليصرخ بألم وتصرخ وراءه إرم بدموعها الحارق:
خيّــال اتركــه خلاص ! اتركــه
التفت لها ليقول بتهديد وعيناه الغاضبة تُخيفها:
ابعدي عني احسن لك ، حسابك معي ما خلص
تراجعت وهي تضع يدها على فمها لتبكي بخوف ! وتميم ما زال يتخذّ الصمت موقفًا له
مع ابتسامة طفيفة مملؤه بالفخر بسبب ما يفعله خيّال
فإن كان قادرًا لأصبح اليوم قاتلًا بسبب صالح
لدفن صالح في مكانه وحيث يقف
رفعه خيّال من الأرض بكلتا يديه ليسحبه له بهمس غاضب:
وجاي تسوي لي فيها العاشق الولهان اللي ندمان على طلاقه
جاي بكل قواة عين تستسمح من أبوي على سواد وجهك
وأنا أقول ليش أختي رافضة هالقد .. طلع مو سهل الشيء اللي عاشته
تطلع من هنا للشرقية .. واقسم بالله يا صالح
لو شفتك ، عاتب مو بس باب بيتنا ! إلا عاتب الرياض بكبرها إني لأشرب من دمك - صرخ بغضب - سامعنييييي؟
خرج فيّاض في هذه اللحظة بسرعة بعد أن ضربت إرم جرس منزلهم عدة مرات ليرى ما الذي يحصل
فيتفاجأ بخيّال وصالح المُمتلئ بدماءه ليتقرب منهم ويُبعد خيّال بغضب:
حسبي الله عليك يا خيّال وش سويت بالرجال؟
مجنون أنت تبي تفضحنا في الحارة
أبعده خيّال بقرف وهو ينظر لعينه بقوة وحدة ! ويلتفت فيّاض لتميم الباسم وبغضب:
وعاجبك أنت الثاني هاللي صاير ؟ وراه ما اتصلت فيني وعلمتني
لو ما طلعت كان الرجال بعداد الموتى
ابتسم تميم لفيّاض:
يسلم رأس خيّال واللي جابه ، لو إني بصحتي كان صلبته بوقوفه
توسعت عينا فيّاض من جنونهم اللامُتناهي ليرى خيّال وهو يُبعد صالح بعصبيته:
انقلع من هنا لا تخلي عيني تلمحك ياحقير
لم يسمح صالح لفياض بأن يُمسكه بل ابعد يده التي امتدت ليمشي بترنح لسيارته
التفت فيّاض لأخيه المُندفع بغضبه العميق:
ممكن تفهمني المهزلة اللي صايرة؟
زفرّ خيال وهو يتبع سيارة صالح بنظراته ليلتفت لإرم دون جوابٍ لفيّاض وبحدة:
ادخلي داخل .. وحسابك بعدين
ليعاود التفات لتميم وهو يقول :
امشي أنت الثاني
ركبا السيّارة لينطلقا على مرأى من نظر فيّاض الذي تنّهد وهو يحوقل:
الله يصلحك ياخيّال ، مدري وش هبتت مع الرجال
انتهى⌛️

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن