الجزء ١٨

1K 19 2
                                    

.
على طاولة الطعام ، يجلسون جميعًا حولها يترأسهم جابر الصامت بشكل مُوحش ، صمته دومًا يجبرهم على الصمت بعد أن كانوا مفعمين بالحياة وكلامهم وضحكاتهم لا تنقطع أبدًا ،صوت الملاعق هو الصوت الوحيد المسموع بينهم
تنقل إرم بين الفينة والآخرى نظراتها لخيّال العاقد لحاجبيه
أصبحت هذه هيئته عندما يجتمع هو وهي لوحدهم أو مع أهلهم
تنّهدت بخفوت دون أن تصل لأذانهم وعيناها ترتفع له ، رأته وهو يحدق فيها بغضب
بعد أن صدّ عنها عندما سقطت أعينهم ببعضها البعض
أخذ خيّال نفسًا عميقًا وهُناك سؤال يقرقع بداخله منذ أمد
جاء الوقت ليسأل والده ، وإن كان وقته خطأ فلا بأس:
احـم ، يبـه ؟
رفع جابر نظراته الهادئة مُستفسرًا دون أن يجيب ليُكمل خيّال بحذر :
أبنشدك عن واحد خذيت منه دينٍ ماهو بقليل ، وعطاني مهلة خمس سنين
اختفى هذا الشخص فجأة بدون ما أدري عنه شيء
هل ممكن تعرفه أو تعرف حد من أهله؟
رفع جابر حاجبه ليقول بصوته الغليظ:
منهو ولدٍ له؟
ركزّ خيّال بنظراته على والده ملتقطًا لكلّ ردة فعل:
ولد سالم السيف ، سلطان
ترك الملعقة التي كان على وشك إدخالها في فمه ببطء وهدوء ليرفع نظراته الحارقة / الغاضبة من ذكره لهذا الاسم
اسمًا ارتبط دومًا بالغدر والخيانة في عقل جابر الفدى ، لوطنه وشعبه وأرضه
اسمًا كان يضمه في دعواته بجوف الليل يعقبها بـ" حسبي الله ونعم الوكيل"
اسمًا بات ليلًا ونهارًا يبحث عنه بعد خروجه من السجن بكفالة ظالمة!
أصدر صوتًا غاضبًا من فكرة أن ابنه قد أخذ دينًا لذاك الخائن:
بأي وجه حق تلتجئ لواحد مثله وتطلب منه دين وسلف ؟
بأي وجه يا خيّال ؟ مالي وحلالي كانوا فدا لك
تترك القريب وتركض للغريب عشان يحل مشكلاتك المادية ليش؟
- ضرب على الطاولة بيده جعلت قلب البنات ووالدتهن يرجف من غضبه الثائر- خذيت منه دين عشان نصير مديونين له
خذيت منه دين وأنت ما تعرف وشهو أصله وطينته
عقد حاجبيه وسرعان ما انفكت عقدته وهو يقول بهدوء مدروس:
كان ذراعك اليمين ، ويومه بغاني وبغى فزعتي فزعت له بطيب نفسي وسمح أخلاقي ! ما ردّيته
ويوم دارت الدنيا وصرت بمكانه كان أول من مسك يدي وساعدني أطلع من اللي كنت فيه
خذينا وعطينا ، ماديًا وأخلاقيًا يا يبه ! مافيها شيء
وقف بغضبه العارم متكئًا على عصاته :
فيها وفيها يا خيّال ، فيها إنك كنت غشيم ما تدري من وراه
فيها إنك مشيت على نياتك ساعدته ورد الدين لك بمساعدته
فيها إنك صرت مديون لخاين
صرت مديون لمطلوب إرهابي جبان وحقير
شهقت سالمة بصدمة من ما تفّوه به زوجها للتو
وقف خيّال مجاريًا لوالده وهو الآن قطع الشكّ باليقين
أصبح متأكدًا أن هُناك لعبة قذرة في الوسط راح ضحيتها أحدًا ما
ليس والده أو حتى سلطان وأهله ، إنما شخصٌ بريء ببراءة الذئب من دم يوسف
وبراءة يوسف من كلام امراة العزيز
بريء ببراءة مريم من كلام قومها وطعنهم في عفتّها وشرفها
وبراءة السيدة عائشة من اتهام المنافقين في حادثة الإفك
ليقول بحدة :
سلطان ذنبه أكبر من إنه إرهابي ويشتغل لصالح المنظمات الإرهابية
سلطان ذنبه شخص ، وهالشخص أنت لك علاقة فيه
وش اللي سويتوه يبه ؟ وش اللي ترك سلطان يغدر فيك ويهرب
وهو كان مخزن أسرارك!
وش هالموت اللي خلاك تموت ألف بدل المرة
ارتفع صوت جابر بشكل أكبر من قبل ليضرب بعصاه على الأرض:
وقص لسانك يا خيّال ، صوتك ما يرتفع في وجه أبوك
أنا ٣٥ سنة في شغلي ما حاسبتني الدولة على خطأ لأني نظيف
تجي أنت يالفصعون تحاسبني ؟
تراجع خيّال بإحترام متعاظم ليتنهدّ من غضبه الذي أنسل فجأة من بين شفتيه
اقترب من والده ليقبّله على رأسه ، قبلة أشبه بقبلات الإعتذار
لو كانت هُناك قبلة تمحي الوجع الذي يراه في جمود والده
لقبّله مئات المرات حتى يُشفى ويطيب:
السموحة يالغالي ، حقّك علي!
والله لا يجعل لي صوت إني كاني رفعته مرة عليك!
اخذ هاتفه ليتراجع وهو يخرج خارجًا صاحبها تنهيدة من جوفه العميق
عاود الجلوس على كُرسيه وهو يحوقل مئة مرة في اللحظة ذاتها
رنّ هاتف إرم في هذه اللحظة لترفعه ويأتيها صوتًا عاليًا قد سمعوه من بجانبها:
الدكتورة إرم .. حصلت إنتكاسه لحالة مريضتك نارا
والدكتور المُناوب ماهو راضي يتدخل فيها!
وقفت إرم بجدية من صوت الممرضة الهالع لتردف بجدية:
دقايق وأنا عندك ، لا تحقنوها بأي مُهدئ
-أغلقت هاتفها لتنظر لوالديها- بطلع المستشفى اتصرف مع الحالة وأرجع
هزّ جابر رأسه ليقول بخفوت:
انتبهي لنفسك ولا تسرعين
صعدت إرم غرفتها لتنزل بعد دقيقة مرتدية عباءتها وفوقها المعطف الأبيض المُنتهي بإسمها
خرجت للخارج وهي تصدف خيّال يقف وهاتفه على إذنه ، لقطت كلمة لولا عجلتها لباغتته بالأسئلة حين قال " قلبي ناغزني ، أختي وموتها أبوي يعرف سرّه "
التفت لها ليغلق هاتفه بسرعة وهو يقول بحدة اعتادتها إرم هذه الأيام:
وين رايحة بهالوقت ؟
أخرجت مُفتاح سيارتها وهي تتوجه إليها وبهدوء:
المُستشفى .. عندي شغل مستعجل!
مسك يدها مُوقفًا إياها وهو يأخذ مفتاحها:
لا تسوقين بهالليل ، الساعة ٩ يا دكتورة
امشي أوصلك !
تنّهدت ليركب خيّال وتركب هي خلفه دون أن تُضيف حرفًا واحدًا
استقرا على الكرسيين وأخذ التفكير كلًا منهما في جانب مختلف
"قبل أيام - غرفة إرم :
تراجعت بحدة وهي تُبعد يديها عن مجال يديه وتنظر له بصدمة ودهشة عارميين ، آخر ما كانت تتوقعه إرم هو هذا الكلام
لم تظن ولا ١٪؜ بعد أن قذفت من حمم تكدست في قلبها لسنواتٍ طويلة أن خيّال سيُفاجئها بهذا الآمر ، همست بعدم تصديق:
أنت مستوعب اللي تقوله ياخوي ؟
هزّ رأسه بإيجاب جاد وجدًا ليقول:
تميم خطبك مني اليوم ، أنا عارف أخوه تقدم لك قبل فترة ورفضتيه بس هالمره عطي نفسك فرصة
أنتِ تحررتي من عبودية صالح ، صرتي حرّة تقدرين تتخذين قرارتك بدون أدنى عاطفة
ضحكت بخفّة ، لتصمت ، ثم عادت للضحك غير مصدقة
رفعت حاجبها للأعلى لتقول بحدة:
بإذنك ياخوي سمعت معاناة الـ٨ سنين مع صالح
بيدك شوهت وجه اللي كان سبب موتي داخليًا ونفسيًا
حضنك توه لمنّي من قسوة اللي صارلي ، وصوتك طبطب عليّ
تجي الحين وتقول لي يا إرم تزوجي ؟ وأنا ما سمعت إلا
يا إرم موتي ، يا إرم وافقي على نار العيشة الثانية مع مجرم ثاني
قاطعها بحدة من بخسها لأخلاق تميم:
يكرم تميم عن فعول صالح ، لا تحطينه في نفس الكفّة
لأن كفة تميم هي الراجحة والرابحة دائمًا
أنا أبخس الناس بتميم ، تميم شيخ الرجال
تراجعت وهي تصرخ بقهرها في وجهه:
وفيّاض كان يقول نفس هالكلام عن صالح يوم أنا بنت الـ١٨
كان يقول صالح شيخ ومافي مثله في الرجاجيل!
وافقي عليه وما تنظامين ، أنا مو بس عشت الضيم
أنا انظلمت وانهنت وانذليّت ! تبي تعيد اللي صار لي مع صالح؟
ياقسوة قلبك يا خوي ، ياقسوة قلبك اللي توي سمعت دقاته الخايفة
اقترب منها بجدية محاولًا إقناعها وإن كان " غصبًا عنها ":
شوفي إرم ، أنا ساكت هالمره وما علّمت أبوي عن اللي سواه
أنتِ تعرفيني ، عتابي أخف واحد من بين أبوك وأخوك
اللي لو عرفوا والله ما راح تسلمين من عتابهم اللي يعيشك طول عمرك بتأنيب ضمير
لا تخلين الندامة تلحقني إني ما تركت صالح يموت قدامك
ولا تظنين سكوتي عنه يعني رضاي ! أنا ما زالت احترق
وبظل أحترق وأنا أشوفك دافنه نفسك ومشاعرك
وهو ينوي يعيش حياته يمين وشمال!
إن كانك تبيني أسامحك ، وافقي على تميم !
وإن كنتي مصرة على هالظلام - أردف بحدة - لساني لا يطبّ لسانك
فتحت عيناها بصدمة وهي تُأشر عليها بسبابتها :
تساومني على غلاك ومحبتّك ؟
تساوم أخوتّك معي لجل تميم ؟ - ابتسمت بحسرة -
والله العظيم ترميني بالنار ياخوي ، ترميني وتحرقني بإرادتك"
تنهدّت بصوتٍ عال وهي ترى إقترابهم من المُستشفى لتُهمس:
أنا موافقة!
سمع همسها لكن لم يلتفت لها لتُكمل هي :
أنا موافقة على تميم إن كان هذا بيرضيك عليّ!
رفرّ نفسه وهو يشدّ بقبضة يديه على المقود ويقول بهدوء:
في يوم يا إرم أجبرتك على شيء ؟
أنا أو فيّاض أو أبوي ؟ عُمرنا عيشناك تحت ضغط نفسي ؟
-سكتت ليجاوب بدًلا منها - لأ ، وأنتِ عارفة هالشيء
يا إرم الزواج سنة من سنن الحياة ، لا ربي ولا رسوله قال للمرأة ادفني نفسك بعد طلاقك أو اكرهي روحك بعد عشرته السيئة
الناس أصناف ، وإن ما مضت حياتك مع واحد منهم كملي الباقي من عُمرك مع غيره
ابتسمت بسخرية على ما قاله:
تقولها وكأنها سهلة !!
قاطعها بجدية عارمة:
سهلة لو تبينها تكون سهلة ، أمر حياتك بعد الله بيدينك أنتِ
-تنّهد ليُردف بهدوء خاشع- " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة "
جات المودة والرحمة قبل الحُب !
مافي أحد يطالبك بحب جديد ، ولا أحد يطالبك بإستنزاف مشاعرك عشان ذكر
مودة ورحمة يا إرم ، اللي تربيّتي عليها من صُغرك
همست وهي تفتح الباب هامة بالخروج بأمر قطعي لا رجعة فيه:
اللي تبيه بيصير ياخوي ولكن ..
إن ما ارتحت معه ، بصير مطلقة للمرة الثانية
وتحمّل بعدها ذنب نفسي وذنب طلاقي!
أغلقت الباب من خلفها ليتبعها خيّال بنظراته الذابلة
.
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن