الجزء ٢٣

845 16 1
                                    

.
رفعت رأسها بخفة عندما تراءى لها صوت ظنّت أنها نسته
وهو يقول بابتسامة عريضة:
حيّ الله بنت جابر الغالي ، طال البُعد ووحشتينا
جملة واحدة منه كانت كفيلة بإسقاط الذكريات على عقلها مثلما يبدأ تساقط المطر على صحراءٍ قاحلة
كشعورها تمامًا ، سنوات طويلة نثر الرمل نفسه على ذكرياتها وتكوّنت شبكات العنكبوت مُحدثة عُطلًا في نظامها
غُبارٌ تكدّس حتى باتت الألوان باهتة والشمس بالكاد تدخل من جُنباتها
وفجأة ، على حين غرة .. صوتٌ واحد ونبرة واحدة تُهطل مطرًا غزيرًا وفيرًا تُمسح كلّ ذاك الغِبار المُنعقد لسنوات
حاولت سحب يدها من قبضة يده إلا أنه أردف بنفس الابتسامة:
حركة وحدة تسوينها ، ودّعي فيها أصحابك اللي معك!
جمدت نظراتها في وجهه ، هو هذا الوجه الذي يُستحيل أن تنساه يومًا
هذا الوجه الذي رأته سنين طويلة مُنذ مُراهقتها ، كان وأصبح وسُيصبح لا شك السبب الرئيسي لمُعاناتها
اجترّها خلفه حتى أدخلها في أحد الأماكن المُظلمة ، بعيدًا عن أعين المارة
ضرب بظهرها الجدار وهو يضع يده بشكل عرضي على أكتافها ليُهمس بخُبث:
مادرينا لندن تخلّي الناس حلوين مرة كذا
كان اختطفنا من زمان وجبناهم هِنا
ارتجف قلبها من هذا الإعتراف الصحيح والمُقرّ لفعلته الشنيعة
وذكرياتها تأخذها إلى أول يوم لها هُنا!
سكتت دون ردّ ، وهل يُفلح الرد في حضرة الطاغي؟
أكمل وهو يفصّل وجهها تفصيلًا:
حظك حلو يا بنت جابر ، حلو مثل حظّ أبوك
رفعت نظراته المرتعبة وهي تقول بهمس عميق:
سُلطان ؟
أمال فمه بنفس الإبتسامة :
بشحمه ولحمه يابنت جابر!
سلطان اللي خطفك وجابك هنا ، سلطان اللي غرز فيك الرقاقة
وبشهامة بعض النـاس ، شلتيها
سلطان اللي دبّر لك الشقة ودبّر لك الشغل والحياة الكريمة
سلطان اللي صادفتيه مرات كثيرة بدون لا تتذكريه
هذا سُلطان ، كابوسك ودمارك!!
مثل ما كان أبوك دماري أنا.
تشعر بأن لسانها مشلول ، وكلّ ما تفعله الآن هو إعادة برمجة بعض المواقف الذي ذكرها على مسامعها
شهقت بخفّة وهي تُحبس نفسها عندما رأته يُخرج إبرة ممتلئة بمحلول تجهل ماهية!
رفعها في وجهها وهو يبتسم بجنون خابث:
عاد والله ما عجبتني الحياة اللي عطيتك إياها بالغُربة
بغيتك تتعذبين أكثر زود على عذاب شوقك
بغيت تجربين كيف تنحبسين وتتعذبين وتقعدين أيام بدون أكل
-ضحك بهستيرية هامسة- ماقلتلك حظّك حلو؟
لأن لولاي كان أنتِ في خبر كان من زمان ، لولا سلطان الحين المُنظمة معيشتك عيشة الكلاب
محكوميتك انتهت ، لازم ترجعين للأرض اللي جيتي منها
لازم ترجعين للتراب !
خلي يعيش جابر اللي عاشوه أمي وأبوي
صرخت بصوت مكبوت إثر ضغطة على كتفيها:
اتركنـي ، وش تبي فيني بعد هالعُمر كله
ما كفّاك أنك كنت السبب بجيتّي هنا؟
ضربها بقوة وهو يُسكتها لكي لا يتعالى صوتها ويسمعوها:
وبكون السبب بموتك وموت أبوك وراك
أعادت صرختها من ذكره لوالدها كل حين:
أبوي وش سوا لك عشان تضرّه في بنته؟
وش سوا لك ؟
ضحك وهو يهزّ رأسه بسخرية عارمة:
بتعرفين بتعرفين ، ليش مستعجلة ؟
حسابنا ما خلص ، حسابنا مطول يا الكادي مطوّل
سدّ يده بفمها بقوة كبيرة ليغرز الإبرة في فخذها جعلها تُكبت وجعها وصرختها من الألم الذي شعرت فيه
أفرغ المحلول فيها وهو ما زال ينظر بابتسامته الخبيثة ليعينها المُغمضة حتى رماها بجانبه على الأرض
تعالى تنفسّها المُضطرب وهي تشعر بتنمّل ساقها شيئًا فشيئًا لتفتح عينيها وهي تنظر إليه
رفع كتفه اليمين بهمس:
كان ودي يكون داخل هالإبرة سمّ ، يذبحك شوي شوي وأتخلص منك للأبد
بس المُنظمة لا زالت تبيك حيّة - ابتسم بخبث - وابشري بنرجع أنا وأنتِ على السعودية وهي مُستعمرة
أخذت نفسًا عميقًا متألمة وهي تنظر له بسخرية:
تـ تخسي لا أنــت ولا عشـرة من أشكالــك
السعودية وراها آل سعــود يكسرون خشـمك
اخرج سكيّن صغير ، وهو يقترب منها ليثبّها بكامل جسده على الجدار
وضع السكين على فخذها ليقول بقهر :
متأملة في آل سعود كثير ؟ - غرز السكين بقوة ليُحدث شرخًا فيها دون أن تشعر بألمه-
أشكري ربك إني اليوم رايق وإن حتى الألم ما تحسيّن فيه بسبب المخدر
حاولت ضرب وجهه لكي تُبعده عنها لكنّه كان يضغط بكلّ قوته عليها ، أكمل بخبث وهو مستمرٌ في إحداث شروخًا على طول ساقها غير مُبالي بكتمها:
الأيام جاية بيننا ، وأبيك تذكرين هالعلامات زين
اذكري هاليوم ودخلّيه برأسك ! واسمعي نصيحتي
ولدّ ماجد اللي معتمدة عليه .. انسيه!
الأرض ما توسعك اثنينكم ، يا أنتِ يا هو
غمز لها وهو يتراجع للخلف لتسقط كادي بتعب على الأرض بسبب خُدر وخمول ساقها ! سمع رنين هاتفها بداخل حقيبتها
ليردف بسخرية :
ما شاء الله على الدكتور ، ما يترك فرصة إلا وهو بطلها
تنفست بشكل عالي وهي تُهمس بإختناق:
بتندم ، على كل شيء بتندم يا سلطان
تراجع وهو يتكتف ويضحك بإزدراء:
يالله يارب انتظر هذا اليوم بفارغ الصبر ، اليوم اللي بعيد عن عينك -وبخبث- ياحلوة
تراجع للخلف وهو يسمع صوتًا يعرفه جيدًا يصرخ فيه ، ليركض بأقصى سُرعة مُبتعدًا ومُتخفيا عنها
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن