الجزء ٣٠

878 15 6
                                    

.
خطّت أقدامهم بوابة حديقة الهايد بارك لتستقبلهم النسمة الهادئة ، وكأنها جاءت لتمسح على قلوبهم ليس وجوههم
التفتت كادي لإياد وهو تقول بتعب:
ليش جينا هنا ؟
أشر لها أن تمشي للأمام وهو يمشي بجانبها مُبتعدًا بخطوتين
مُتردد ، وفي تردده يشعر بالأنانية المُقيتة
إن سمح لها بالذهاب الآن ، قد لا يراها مرة آخرى .. لو أنه يُمسك يدها ويهربا بعيدًا عن أعين المتطفلين
لو أنه يُدخلها في صدره حتى لا ينال شوقها وحُبها شخصًا آخر أصبحت على بُعد مترين منه
تنّهد وهو يستعيذ بالله من الشيطان الذي يوسوس له ما لا يُحب ولا يرضى ! لن يكون أنانيًا ويحتفظ بها لنفسه
ليس لها حقٌ عليه ، وليست ملكه ! لطالما كانت ملكًا لوالدها وأخواتها ومن شاركتهم الغُربة في لندن
رغُم أنه يعلم تمامًا مكانته المرموقة في قلبها ، لكنّ هُناك شعور قوي يباغته ويأمره بالهرب ، الهرب بعيدًا
توقفّت أقدامه لتتوقف هي بجانبه وتنظر له بذات النظرات التعبة والمُستغربة
أشرّ بيده على شخص كان يجلس على الكُرسي مُرتديًا نظارته الشمسيّة رُغم أن الشمس اليوم مُختفية خلف السحاب
لتفتت ببطء وهي تنظر حيث يُأشر إياد
ثانية .. ثانيتين .. رُبما تجاوزت الثلاث ثواني لتجثو على رُكبتيها لمّا لمحت نصف وجه ذاك الشخص وهي تشهق بقوة
شهقة اختزلت بها موتها وحياتها وعظيم حنينها لأرضها
شهقة سحبت منها نتانة الموت لتُزفر اليوم عبير الحياة ، شهقة تناولت شريط أيامها لتعرضه أمامها بلا خوف
صرخت بصوتٍ مجزوع ، مُرتعب ، غير مصدّق:
خيّال !
التفت خيّال ببطء لمّا سمع اسمه بصوتٍ صارخ ومبحوح آكل رنينه الدهّر والوجع ، ليقف بشكل أبطأ من ذي قبل وهو ينزع نظارته بإرتجاف
صدّت كادي وهي تنظر إلى إياد ودمعها الذي لم يجف يومًا آن له التوقّف ، آن له الإنحسار
مسكت طرف كُمّ قميصه وهي تسحبه للأسفل وذات صوتها الباكي يتزايد:
خيّال ، هذا أخوي خيّال.
اقترب خيّال بخفّة خطوةً بخطوة ، وعيناه على تلك الساقطة في الأرض ، عيناه في عيناها البيضاء التي يستحيل أن تكون إلا في الكادي الأبيض النقيّ
( اقتربي منّي .. اقتربي أرجوك .
اقتربي لتغتالي شوقي .. اقتربي لتصدّق عيناي.
تعالي إليّ ، دعيني أدفن الموت الذي التفّ حولك
دعيّني أملا رئتيّ بعبق الكادي.
هلّمي إليّ حتى أُنير الظلام الذي أشهده أسفل عينكِ البيضاء
هلّمي فإن رُوحي تغرق في العتمة بعد أن كُنتِ الضياء )
وكأن الله استجاب لمُناجاته المُتألمة ، كأن شكواه انتقلت منه إليها ، ففهي هذه اللحظة هرعت إليه بخطوات متعثرة
انطلقت إليه مُتناسية كلّ ما مرّ عليها سابقًا ، منطلقة لحضنه راجيةً منه أن ينتشلها ويرفعها لمقامها
ارتمت بحضنه وهي تصرخ بأعلى صوت صرخت به يوماً ، صرخت باسمه مُتناسية من حولها:
خيّال .. أنت خيّال ، أخوي حبيبي ونور عيني ! ياربييييي
ناجت ربّها مثلما كانت تفعل في السنين الخالية ، ناجته هذه المرة بشغف وفرح لاستجابة دعواتها
ابتعدت عنه لشبر وهي تُقبل كتفه وصدره ووجهه وعيناه وجبينه وخيّال إلى الآن في جمود وسكون
كلّ ما يعرفه أن هذه الفتاة التي تُعرف بأخته تحتضنه وتبكي بشدة
قبّلت كتفه مرتين متتالتين وهي تُريح رأسها عليه ببكاء:
ياربي ما خيّبت ظني :
ياربي ياحبيبي أخوي قدام عيني
وينكم عني طول هالسنين وينكم عن وردكم وشذاكم؟
أخوي -تنشجت بُكاءها- ضمني تكفى ضمني ياخوي ياريحة أمي وأبوي
ضمني خليني انتقم من سنيني بدونكم
ضمني خليني ارتوي ويفيض قلبي من الشوق
استعدل خيّال في وقفته وعيناه قد احمّرت من شدة تأثره
ليمسكها من عضديها وهو يبعدها عن حضنه
همس ببحة قاتلة:
كادي ؟ -أكمل عندما هزّت رأسها- كد؟
بكت وضحكت في آن واحد وهي تقول بشوق:
ياعيوني
نقل نظراته لصفحة وجهها النقيّة التي لم تتغير طوال هذه السنين
لثواني قليلة حتى زرعها في حضنه وهو يحتضنها بشدة ليُهمس:
يا وجع قلبي أنتِ يا وجع هالروح من بعدك
نعنبوك ٦ سنين يا كادي وحنا ساعة نرثيك وساعة ندعي الله يردك
وش تسوين في أرض ماهي أرضك؟وش تسوين في دنيا ما تليق فيك؟
شدت على حضنه وهي تبكي:
حرموني منكم ياخوي
سرقوني من حضن أبوي وأنا توي ما عشت الحياة
حرقوني وضربوني وأهانوني وأنا بنت جابر
بنته اللي ما كانت تبي له إلا رفعة الرأس
قبل رأسها وغصبًا عن عينه تمردت دمعة قاهرة على هذه الصغيرة:
حسيبهم الله كأنهم حرموا الورد من أنه ينبت في مكانه
ما تزهى فيك لندن يا كادي ما زهت فيك إلا أرض الجنوب والمملكة
أردف بنفس النبرة:
خذني من هنا ، رجعني أنا بأمانتك اليوم
لا تخلي أيامي تزيد في لندن
لندن اللي ما خذيت منها إلا الحسرة
ودني لطيب جابر ودني لحضن سالمة
ودني لجنون ديّار وحب إرم ودّني لفيّاض الحنون! ودينييي
ابعدها من حضنه وهو ينظر إليها بجدية ماسحًا دموعها بابتسامة:
يا حيف الشنب لو تركتك بعد اليوم واللي عنده ريال خلّه يقطعه
راجعين يابعد الدنيا لا بارك الله في برد لندن وهواها
ارتمت مجددًا في حضنه تحاول أن تفرغ شوقها فيه صدره العتّي
رفع خيّال رأسه لإياد وهو يربت على كتفه هامسًا بتأثر:
ما أجازيك حقك يا إياد
ما أجازيك لو جلست العُمر كله أوافيك
هزّ إياد رأسه بابتسامة خفيفة ليتراجع في خطواته السريعة وهو يقف خارج أسوار الحديقة ، انحنى ويداه على ركبتيه وهو يزفر نفسه الذي يشعر أنه حشر بداخل شعيرات رئتيه المتخمة بالوجع
ليعتدل في وقفته رافعًا رأسه ليُهمس بأسى:
الله معك ، ويصبر قلبي
خطى بخطواته المُستعجلة تاركًا لقدميه الإنطلاق حتى يعود لشقته في شارع اكسفورد
عازمًا عودة أدراجه وإستئناف حياته الكئيبة من جديد
خلال دقائق معدودة كان يقف أمام باب شقته وبيده المُفتاح النحاسي ، إلا أنه تفاجأ بشدة وهو يرى سيارة سوداء خرج من داخلها ٤ رجال يرتدون بدل سوداء خط على صدروهم FBI
اقترب منه واحدًا منهم وهو يكبل يديه ليقول بصوتٍ غليظ:
سيد إياد ؟ أنت رهن الإعتقال لتسببك في جريمة قتل
سمح لهم أن يقتادوه ويجرّوه مثلما جرّوه قبل اثني عشر سنة ، سمح لهم وهو تحت خضوع كامل تام الرغبة!
لم يعد هُناك ما يًغريه للمقاومة ، انتهت ودُكتّ حصونه حتى شعر من قوة دكّها أنها قطعته إربًا إربا
ما عرف المُقاومة يومًا ، بل عرفها في جُنود مخفيين مُحبي لوطنهم ، عرفها في شباب العِراق وسوريا واليمن!
عرفها منهم وهو مُبهور ومُندهش كيف لهؤلاء الشباب أن يصمدوا أمام رياح الظُلم العاتية!
تمنّى في هذه اللحظة لو أنه يملك مقومّاتهم الوطنية القوية ، تمنّى لو أن يقف أمام أشكال القضاء ويقول لهم أني ظُلمت قبل سنين ولن أُظلم اليوم مجددًا
لكنّ ما يتمناه أمر ، وما يقرّه الواقع ويأكده أمرٌ آخر
بعد دقائق كانت طويلة على رُوح إياد المُنهكة وصلوا إلى احدى المباني الكبيرة التيّ تضم مئات المُحققين ، مبنى التحقيقات الجنائية!
أدخلوه إلى غُرفة مربعة الشكل تحتوي على طاولة وأربع كراسي ، خافتة الإضاءة
ليجلسوه على الكُرسي دون أن يفكّوا قيد يداه التي جار عليها الزمن
بعد دقائق آخرى ، دخل شخصٌ ما مُرتديًا لبدلة رسمية باللون الرُصاصي وملامحه مُتلبسة بالجدية والصرامة
وقف أمامه وهو يمدّ يده مُسلمًا ليقول بنبرة عربية جادة:
أخ إياد ؟ معاك المُحامي عمّار من السفارة السعودية بلندن
هزّ إياد رأسه ايجابًا ليجلس المُحامي أمامه بعد أن أخرج دستة من الأوراق
شبك يديه ببعضها البعض ليردف بجدية:
تعرف وش تهمتك؟
تنّهد إياد دون أن يفتح فاهه ويرد عليه ، بل هزّ رأسه فقط
ليُكمل المُحامي:
جميل ، تخطينا نصف المشوار ! تهمتك بكل بساطة جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد - مدّ له صورة طُبعت على ورقة كبيرة- السلاح هذا سلاحك صح؟
نظر إياد إلى الصورة وهو للتو يتذّكر سلاحه ، فعلًا هذا سلاحه الذي نساه في مكان الحادثة بعد أن فُجعوا بمُهند
تركه هُناك بلا إدراك عندما حاولوا نقل جثته من مكانهم إلى السيارة ، همس بهدوء:
سلاحي!
أمال المُحامي رأسه لثواني ، حتى أردف بثقة:
توقعت ، السلاح هذا مُرخص باسمك وعليه بصماتك اللي طلعتها الشرطة الفيدرالية
أستاذ إياد هل عندك علم إن الضحية مطلوب إرهابي
وإن المملكة شارية رأسه بأبخس الأثمان؟
همس بهدوء ثقيل على رُوح المكان:
أعرف!
تراجع المُحامي بظهره ليقول بنفس هدوءه:
هل في بينك وبينه عداوة ؟ أكيد شخصية مثلك ما تُمسك سلاحها وتطلق على الناس حتى لو كانو إرهابيين
شبك إياد يديه المُكبلة ليُردف بعد أن ألقى له نظرة سريعة:
اطلع أنت وواحد من المحققين اللي واقفين وراء هالزجاج لسيارتي بشارع أكسفورد وطلعّوا الملف اللي بينفعهم
بيني وبين سُلطان الوطن ، الوطن اللي باعه واشتريته أنا بماي عيني
ابتسم المُحامي بابتسامة صغيرة مملؤة بالفخر والثقة ليقف في مكانه وهو يجمع أوراقه في حقيبته السوداء:
تم أخذ الملف من سيارتك مُسبقًا مع تفتيش كامل لشقتك
سجلّك الإجرامي شبة نظيف ما عدا فترة سجنك بـ٢٠٠٨ في العراق ، ويمكن الحصانة الدبلوماسية اللي معك ما تنفعك
لكن اسمحلنا نستضيفك في التحقيقات كم يوم ، إجراءات قانونية مطلوبة خصوصًا بعد الهجمات الإرهابية على دول كثيرة كانت تحت مُسمى العرب
همّ خارجًا من الغُرفة بعد أن أخذ نظرة سريعة عليه ليلتفت له بابتسامة فخورة:
بس والله كفو عليك يابطل ، جبت رأسه اللي من سنين نبي نجيبه
ابتسم إياد ابتسامة صغيرة على تعزيزه الرقيق لما قام به من موقف بطولي بنظره ، وهو يحمد الله ويشكره أن الأمر قد لا يتعدى مجرد تحقيقات مكثفة أو يمكن سجنًا مع وقف التنفيذ
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن