الجزء ١٢

925 18 2
                                    

.
ظلّ إياد يرقب ردة فعلها العنيفة بالنسبة له
وهو يراها تتراجع وتنظر له بعيون ملؤها الدموع
أخطت خُطوة للخلف وهي ما زالت تهزّ رأسها بـ: لا
أن تتنفس هي هُنا وفي هذا الجزء من الكُرة الأرضية
بينما هُناك ، في منطقتها الجُغرافية الشرقية
هي ميتة ، هي سراب ، هي لا شيء
همست بعُمق العبرة التي غاص بها صوتها:
أنت تكذب ، مُستحيل تكون صادق
لا والله مُستحيل مستحيـل
هطلت دموعها البائسة اليائسة
هطلت تواسي أملها المفقود والمبتور
تشعر كمن فقد قُواه بعد أن ظلّ
يستجمعها سنينًا طِوال متمنيًا لحظة اللقاء
صدّت بظهرها وهي تركض بأقصى سُرعة خارجة من الحديقة
بعيدًا عن مسامع الحقيقة المرة
عضّ إياد شفته السفلية بضيق فعلي وهو
الذي يشعر أنه "جاب العيد"
لا يعلم لما ألمته الدموع ، ليمشي خلفها يُحاول أن يُلحق بها
ولكنّ هيهات ! فكادي ظلّت تركض بسُرعة عالية
وهي تصل إلى شقتها وتصعد لها
وقف إياد خارج البناية لعدم قدرته على الدخول إليها
ليلتفتت يمينًا وشمالًا آملًا أن يرى راشد بالقُرب منه
يخشى أن تؤذي نفسها بعد ما نطقه من سذاجة
تقدم راشد في هذه اللحظة عاقدًا حاجبيه
وهو يخرج من السوبرماركت القريب من البناية
ليُردف برفعة حاجب:
خلصتوا كلام؟
مسكه إياد من عضده ليقول بحدة:
ألحقها لا تأذي نفسها لأني مدري وش هببت معها
رمى راشد بالحقيبة القُماشية التي كان يحملها بقلق
ليُخرج المفتاح الإحتياطي لديه ويفتح باب البناية الموصد
دخل من خلفه إياد ليصعدوا جميعًا إلى شقتها
وقف راشد أمام الباب وهو يسمع صُراخ وتكسير
تفاوت من صُراخ دانة وبُكاء كادي العالي
ليفتح الباب على مصراعيه ويتفاجأ بالكادي وهي ترمي
بمزهرية فخارية محببة لها على الأرض
وصرخة دانة الخائفة:
كـادي خـلاص ، شفيـج؟
رفعت نظراتها الباكية لراشد المصدوم لحالتها
كان شعرها الأسود يتدلى من أمامها ، ونظارتها قد نالت نصيبها من الكسر
لتتضح بوضوح البُقعة البيضاء التي تُزيّن عينها
اقترب بخفوت وإياد يقف على الباب المفتوح ليُهمس:
شو قال لج ؟ علميني واكسرّ لج رأسه قدامج
صوت تنفسّها المُضطرب هو سيّد الصمت
لتنظر كادي من خلف راشد للواقف بجمود
أشرتّ بإصبعها المُرتجف لإياد لتقول بِعبرة:
هـ ـذا .. تـ تدري وش يقول ؟
يقول أنا حضـ ـرت عزاك قبـ ـل ٥ سنين
سمعت وش يـ يقول يا راشد؟
حضر عزاي ، يعني أنا متّ ! متّ بعيونهم
-مسكت شعرها لتشدّه بقوة وتصرخ - ذبحونـي
موتونـي وأنا هِنا أتنفـ ـس وأنتظـرهم
عايشة عليهم ولهم ، ويفاجأني بموتي المزعوم
-ضربت برجلها على الأرض - بينما أنا هنا ابني الأحلام
ومن كبرها وصلت لسقف السماء
انكسـرت وطاحت على كتوفـي بعد كلامـه
طاحت فـوق قلبـي وكسرتـني
كسرتنـي!
التفتت حولها تبحث عن مادة حادة بنيّة نزع الرُقاقة منها
بوحشية مُفرطة غير مُبالية
لتجد أمامها السكيّن على طاولة المطبخ
تفاجأ راشد بخطوتها غير المحسوبة والمجنونة
ليتقدم إليها ويصرخ عاليًا:
ينيّـتي أنتِ ؟ تبين تذبحين روحج؟
التفتت له وصراع أيدهم بدأ فيمن ينتصر ليأخذها
لتُردف بنبرة مقهورة / دامعة :
اتركنـي ، خلنـي أشيل هالرقاقة وأطلع من هالمكـان
خلني أرجع وأقول لهم ترا بنتكم حيّة ياعزوتها
بنت جابر حيّة ما تخلّت عن هويتها
ولا هربـت من بلادها لجل تفسد
تمّكن من أخذ السكين من يدها ليرميها على الأرض بقوة
لتضرب صدره بقبضة يدها وإنفعالها يزيد
مسك يدها بقوة وهو يلفها ليُصبح ظهرها مقابلا لصدره
كتف يديها بيديه العريضتان
ليُردف بنبرة جادة هامسة:
اهدي
وأين الهدوء منها وقلبها يشتعل نارًا يستحيل إخمادها
كيف تهدأ وزجاج روحها قد انكسر لشظايا
همست ببكاء:
أبـي أرضي ، أبي بلادي وهويني
أبـي أهلي وقبيلتي !رجعني رجعنيي
همس بصوت موجع:
واللي خلق هالروح فيني يا كادي
إنك بترجعين وبتفرحين ، وعدٍ علي وهالوعد على شنبي
وأعقاب رقبتي
شهقت شهقة عالية ، ضربت منتصف صدر راشد من حدتها
لتخرّ قواها وتجلس على الأرض
أفلتها راشد ليجلس هو جنبها وينظر إلى عينها الباكية
وإياد ما زال ينظر إلى عنفوانهم بجمود
شعر بنظرات الكادي عليه وكأنها نسل السيّف
يدخل من مُنتصف قلبه ليخرج من ظهره
قتلته نظرة عينها لم يقتله بُكاءها وصدمتها
ليلتفتوا جميعهم في هذه اللحظة لدانة
التي قالت بصوت باكٍ:
إذا كادي ميتة بالنسبة لهم ! احنا وش مصيرنا ؟
.
.
ابتسم فيّاض لدخول إحدى أصدقاءه من قسم الإتئمان
في البنك
وهو يراه يقف أمام مكتبه ويمد له ورقة معينة:
حيّ الله بالغالي
وش من ريح طيبة جابتك؟
ضحك صديقه ليجلس على الكرسي أمامه ويقول:
جابنا الشوق يابو فيض
ببنك واحد وإستراحة وحدة لكن ما صرنا نشوفك
تتغلى وأنت داري بغلاتك؟
ابتسم له فيّاض بود:
التغلي ماهو من شيم العارفين ، ولا حنا نعرفه بقواميسنا
لكن هذانا في بنك واحد
وأنت داري بالشغل اللي فوق رأسنا
هزّ رأسه موافقًا ليرُدف:
صدقت الله يهونها من عنده - سكت قليلًا ليُكمل-
أبو فيض ، لي أسبوعين أبي أكلمك بموضوع
وما لقيت الفرصة المناسبة
ولما قال لي الوكيل سلّم هالورقة لقسم العمليات المصرفية
قلت بس هذه الفرصة جات بالراحة
أردف فيّاض بإستغراب:
عسى ما شر يالغالي ؟ محتاج شيء ناقصك شيء؟
ترا الجيب واحد أنت آمر ورقبتي لك سدادة
ابتسم صديقه بمرح:
كل شيء عندكم يا أهل الدراهم فلوس
لا يابو فيض جعلك سالم ، عطاياك ما تخلص
و جودك واصل للقاصي والداني - همس للحظة -
ولكن الموضوع شوية متعلّق بأهلك
زاد إستغراب فيّاض ليقول:
وش تقصد بأهلي؟
أخذت نفسًا عميقًا:
في قرض عقاري باسم إرم بنت جابر !
أمور سدادها كانت ماشية تمام من ٤ سنين
إلا أن في هذه السنة تعثّر السداد
وصار في تأخير لمدة ٥ أشهر
بلع فيّاض ريقه ليُردف:
عبدالرحمن ، وش تقول أنت أي قُروض ؟
أختي مستحيل تآخذ قرض من البنك بدون علمي على الأقل
تراجع عبدالرحمن ليُردف بجدية:
وقرض بسعر مهوّل يا فيّاض !
ولأنها مستوفية للشروط سمح لها البنك بالقرض
أنا جيت أعلمك عشان أحطّك بالصورة
لأن القرض مرهون بسيّارة وبيت باسمها
ففي أي لحظة قد يطلب البنك رهنها
رفع نظراته فيّاض له ليقول بتوّجس:
كم قيمته؟
سكت عبدالرحمن قليلًا ليردف بهدوء:
مع الفائدة؟مليونين وميتين ألف
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن