الجزء ٢٨

773 17 6
                                    

.
صباحًا - الرياض
أغلق خيّال باب غُرفته المشتركة مع ليث بالقرب من منازلهم وبيده حقيبة سفر صغيرة
التفت بشكلّ مُفاجيء لليث الذي جاء من خلفه وهو ينظر إليه بشيءٍ من المرح:
صدتك
عقد حاجبه بإستغراب :
يالله صباح خير ، وش تسوي هنا بهالوقت؟
رفع ليث حاجبه بسُخرية وهو ينظر إلى ساعة يده التي تُشير لبدايات الفجر:
الساعة قريب الستّة ، وأنت هنا معاك شنطة سفر
لا يكون شارد من البلد؟
عضّ شفته بحنق ، لترتخي ملامحه وهو يزفر نفسًا عميقًا ونظراته تتجّه لعينا ليث:
عندي سفرة مُستعجلة ، ماني متأخر كذا يوم
لكن تكفى ياليث ! تارك وراي أهلي بدون ما أعلمهم وين رايح
وأخوي فيّاض مو موجود بالرياض
دور لي على تميم لأن أمس نزل أختي وما أدري وين راح
لا هو يردّ على جواله ولا هو موجود ببيته
أبيه يطلّ عليهم بين فترة والثانية
ربتّ ليث بيده على كتف خيّال ليردف بهدوء:
توكل على الله يا رجال ، أهلك معهم ربهم ثم جابر الله يبقيه
أنت انتبه لنفسك وإن احتجت شيء كلمني
هزّ رأسه بإيجاب وهو يحتضنه بسرعة ، ليتراجع ويركب سيارته التي كانت أمام مكانهم
توّقف خيّال عندما سمع هِتاف ليث الذي قال بابتسامة:
أقول يالحبيب ، بس ترجع روح وحلل عشان نفرح فيك
ابتسم خيّال فجأة وهو يفهم مقصده ليُردف بمرح:
اللهم لك الحمدلله عشت وشفت هاليوم
أنا قلت الناس رافضيني ومستحيين مني
رفع صوته ليث بضحكة وهو يأشر له:
لا تقول مرة ثانية وأحسن الظن بعيال ماجد -رفع يده مودعًا- استودعتك الله
لّوح له خيّال وهو يركب سيارته متجهًا إلى المطار بعد أن تلّقى رسالة إياد المُستعجلة
.
.
.
طرقت إرم باب غُرفة ديّار طرقتين مُتتاليتين وهي تدخل دون أن تنتظر إذنها ، ابتسمت عندما رأت وجود ديّار المُشرق
وهي التي تجاهلت المرور عليها ليلًا خشيةً من بُكاءها
لكنّها مُشرقة كعادتها ، بابتسامتها المُنيرة ووجهها الصافي
ابتسمت ديّار بإستغراب:
حيّ الله الدكتورة إرم ، غريبة زايرتنا بيت أبوي
ما هي عادتك
جلست على سريرها وهي تنظر إليها بنظرات ذات مغزى لكنّها ابتسمت بهدوء:
خلّك مني ، تعالي قربي شوي أبي أقولك شيء
ارتبكت ديّار من هذه المُقدمة التي تُرعب الشخص حتى وإن كان لم يفعل خطأً ! لتجلس بجاورها على السرير شابكةً يديها ببعضها
ابتسمت وهي تُربت على يديها:
تعرفينا يا ديّار بطبعنا ما نحب نتدخل بخصوصيات بعض
وبالنسبة لنا إذا واحد منّا ما تكلم ، فإحنا راح نحترم سكوته
لكنّ أنا أختك الكبيرة ! ما أبيك تدسين شيء عنّي
أنت متهاوشة مع رجلك ؟ أو مقصر معك في شيء
عشان تجين بيت أبوي من الصباح؟
هزّت رأسها بالنفيّ وهي تُهمس بوجع لم يتبين لإرم:
ماهو مقصرّ أبو فهد ، يمكن القصور منّي أنا
شدّت على يدها لتُردف بمساندة:
زوجك ولده تعبان ، وفي غيبوبة لا يعلمها إلا الله
ما تحسيّن إنه يحتاج مؤازرة في هالوقت بالذات؟
ترا مثل هالمواقف يا ديّار هي اللي تحتاج تبينين فيها معدنك الأصيل
الناس من يوم طلاقي تدور الزلة على بنات جابر
وشايفة وسامعة كيف أكلونا وقت العُرس بكلامهم
تبين تخلين لهم مدخل علينا؟؟
تنّهدت وهي تقول وترتب هندامها لتقول:
كل اللي في الموضوع إني حبيت أرتاح كذا يوم
حاسه إني مضغوطة من كل صوب
دراستي ، موضوع فهد، شغل راجح المتذبذب
من غير شغل البيت اللي صرت أنا راعيته
نظرت لها من الأعلى ، بداخلها كلام كثير لكن التعب الذي تلمحه في عيناها يجعلها تتراجع وتؤجل المواجهة
فهي ليست بحملٍ حتى يزداد عليها ضغط المشاعر
هزتّ رأسها لتُردف بهدوء:
طيب انزلي المجلس راجح ينتظرك فيه
بلعت ريقها وهي تتراجع للخلف خطوة لم تطف على إرم ، إلا أنها أخذت نفسًا عميقًا وهي تومئ رأسها بإيجاب
خرجت إرم وبعد دقائق خرجت ديّار
سمت بالله وهي تفتح باب المجلس وتدخل بهدوء جامد وعميق ، لتقفّ في مُنتصف الصالة مسلّمةً عندما رأته يجلس هو في زاويتها
وقف هو وهيئته اليوم ، تختلف عن الأمس
كان بالأمس يؤسًا قانطًا جزوعا
لكن اليوم .. آملًا مطمئنا فرحا
اقترب منها وهو يبتسم وابتسامته اليوم صادقة جدًا
ابتسامة اخرجت الماضي من حياته ، وركزت على حاضره
اقترب حتى وقف أمامها مُباشرة وعيناه تنتقل على صفحة وجهها الصبوح
انحنى من أعلاه ليقبّل جبينها بخفة كفخة النسيم في بدايات الفجر
القبلة التي جعلت ديّار تحبس نفسها وشهقة كادت تفلت منها
بل فلتت منها عندما قال لها راجح بحنان متعاظم
جعلها تسقط من طولها وتجهش في البُكاء بهمس :
فهد صحى
تنشّجت بُكاءها وهي تُبكي شهرًا مرّ دون رؤيته ، تبكي فقدها له في حياتها التي بهتت وأُظلمت
تبكي الأيام التي فقدت فيها احتضانه ولملمته والعناية به
انحنى راجح وهو يُمسكها من عضديها ويرفعها حتى زرعها في حُضنه!
همس لها بابتسامة من بكاءها الغريب:
أقولك فهد صحى وتبكين ؟ يالله منكم يالبنات ما ينعرف لكم
فرحتوا تبكون ، زعلتوا تبكون
ابتعدت عن حُضنه وهي تنظر له لتُردف بنشيج:
أنت صادق ، صادق يا راجح ؟ تكفى لا تكذب علي
تكفى ارحم شوقي له وشفقتي عليه!
مسك كتفيها بقوة وهو يُهمس لها بجدية:
اكذب عليك على حساب ولدي ؟
صادق يا ديّار -ابتسم بعمق- ولدك صحى والله العظيم
ما تبين تشوفينه؟
هزّت رأسها بقوة مراتٍ عدة وهي تتراجع:
إلا أبي والله أبي ، بلبس عباتي واجي
تكفى لا تروح تكفى يا راجح
قبض على يدها ليُردف بجدية:
والله ماني برايح إلا معك ، يالله استعجلي
خرجت بخطواتها السريعة التي كادت تتعثر بها من شدة بُكاءها وفرحها في آن واحد
شهرًا كاملًا انتظرت هذه اللحظة ، احتسبت لإستيقاظه يومًا بيومًا ، تلتها بالساعات والثواني
كافئها الله بصبرها ودعواتها في جوف الليل أن يحفظه لها ويقيه من شرّ الأسقام
وها هو اليوم الموعود جاء ، لتعود مياة حياتها لمجرايها بعد أن أوقفتها بمرض فهد !
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن