الجزء ٢٢

863 16 1
                                    

.
هزّ خيّال كتف والده بعد أن رش بعض من قطرات الماء على وجهه الباهت وهو يصّوت عليه ويُناديه بكلّ حنان وخوف الدُنيا:
يبه تسمعني ؟
فتح عيناه بخفّة وبُطء شديدين وهو يشعر بظهره مُرتاح على سرير وثير عكس قبل ذلك ليتراءى له صوت خيّال القلق:
يبه الله يخليلي إياك من متى ما خذيت إبرة السكري؟
لو ما طلعت بهالليل أجيب أغراض من سيارتي
بتكون طايح بالحوش للصبح
حاول الجلوس والإعتدال في نومته إلا أن وهنه وضِعفه منعاه من القيام ليمدّ يده بضعف لعضد خيّال:
أختك ويـ.ـن؟
عقد حاجبيه ثواني لتنفرد عقدته ويقول بهدوء:
خواتي كل وحدة ببيت زوجها يا يبه
صرخ بكلّ عجز وفتور مرّ فيه يومًا:
ما أكلمك عن اللي فوق الثرى ، أكلمك عن اللي مالها أرض ولا سماء
عن اللي عشت أدور عليها الباقي من عُمري
أسألك عن أختك كادي!
فتح عينه على وسعها وسط شهقة زوجته التي كانت في الزاوية من أن زوجها قد بدأ ينسى أو يتناسى
همس وهو يُحاول أن يقول بذكاء:
علم أختي عندك يا يبه ، ما أنت قلت الله أخذ أمانته
عشان نقول الله يرحمها
ولا أنت قلت مفقودة عشان نقول سرينا ندور عليها
لو نحفر سابع أرض!
مسك هاتفه الذي وجده جنبه ليرميه بجانبه ويُعيد صُراخه على ابنه الذي يشعر أنه يستهزأ به:
أختك حيّة ، من يوم الحادث وأنا كل شعور يرادوني هي أساسه
شعور يقول لي إنها عايشة وتتنفس الهواء نفسه
من يومها وأنا أتردد على مكان الحادث علّي ألقى اللي يشفي قلبي
أيًّا كان اللي رسل هالرسالة فهو صادق
أنا تعبت - صرخ بحدة - تعبت من مواساتي لنفسي أن بنتي ماتت
وأنا كل شعور يقول لي عكس هالكلام!
أخذ خيّال نفسًا عميقًا وهو يُمسك هاتف والده ليقرأ الرسالة العربية اليتيمة التي وردته " بنتك حيّة "
لم تكن جُملة عادية ، بل جُملة أقرّت بصحتّها
جُملة لا تحتمل إحتمالين أو تفسيرين ، بل جُملة تأكيد وتصحيح
بلع ريقه سريعًا ويمرّ على باله ما مرّ قبل هذا ليُهمس له بوعيد:
طيّب يا يبه ، إن كان واحد يلعب عليك فوالله بطلعه من تحت الأرض
وإن كان هالكلام صحيح وإن أختي حيّة - اعتدل بوقفته وهو يقول بحقد - والله ما أخلي اللي كان السبب يعيش باقي حياته
خرج ونداءات سالمة من خلفه تتصاعد خوفًا على ابنها من أن يتهور ويُنهي حياة ابن آدم
واستيعابها للآن لم يأخذ الكلام الذي قاله جابر على محمل الجدّ ! بل كان جُلّ تركيزها على صحة زوجها التعِبة
وقف خارج غُرفة والده دون أن يرد على نداءات والدته الخائفة ليرنّ للرقم الذي أرسل الرسالة
إلا أن الرقم كان مُغلق دون ردّ ! أرسل رسالة سريعة قصيرة يستعين فيها بأحد اصدقاءه
همس وهو يضرب الهاتف في راحة يده:
كل مالها والسالفة تكمل ، بداية من الملف
نهاية بهذه الرسالة .. ويا أنت يا أنا!!
.
.
.

.
تراجعت إرم للخلف وهي تُبلع ريقها وتقول بخوف استوطن جسمها:
صالـ.ـح!
أزاح الباب عن طريقه التي أوشكت إرم على إغلاقه ليقول بهمس مجنون من صدق توقعاته:
يعني تزوجتي ؟ سويتيها وتزوجتي من وراي وأنتِ لي وعلى ذمتي
ارتجفت وهي تتراجع خطوتين عندما يقترب منها صالح خطوة واحدة ودعوتها الآن أن يدخل تميم ويُنقذها من هذا الوحش
همس بإحمرار عينيه ، وناريّة أنفاسه ، وحرقة قلبه ، وتعب جسده وروحه:
ضيّعتك ، رحتي من بين يديني ؟
تزوجتي غيري وانزفيتي لبيته ! وأنا ؟ - صرخ بجنون - وأنا ؟
واللي يحبك ويبغيك ؟ اللي يهواك وما يشوف من الدنيا سواك؟
همست والدموع تصعد لعينيها خوفًا وشفقةً على صالح الذي أهمل علاجه ليتحّول إلى ما آل إليه الآن:
أنت طلقتني !! طلقتني بعد عناء ومشقة
طلقتني بعد عيشة ضنكة وحياة سيئة!
ومستكثر علي أشوف حياتي وأورّدها بعد معاناة؟
ماخبرتك أناني يا صالح !
مدّ يده للمزهرية المُستوطنة بجانبه مُباشرة ليُمسكها ويرميها أمامها حتى تكسّرت حول أقدامها ليصرخ:
اللي تقولي عنه أناني جاك بدل المرة ألف
جاك يطلب السماح والغفران على سواياه الردّية في زهر عُمره
جيتك يا إرم ذلول وخاضع بسبب خسّتي ودناءتي
تدرين ليش ؟ - همس والدمع بعينه - لأنك عطيتيني الحياة
عطيتيني نَفَس ثاني أعيشه !
جايه بعد هالعيشة ، تخنقيني بيدينك ؟ تذبحين الحياة اللي شفتها فيك ؟
شهقت من بُكاءها المكبوت وهي تُرسل دعواتها لله أن يحميها من صالح ويقيها شره
همست وهي تتراجع أكثر وأكثر:
لا تقرب!
وكأن همسها هذا أيقظ المريض المجنون الذي بداخله
خوفها الذي لمحه في عينيها بعد أن كان الأمان لها ، تبددّ
كم كان الكون رائعًا بك يا إرم ، كم كُنت سعيدًا بقُربك
غبطتُ نفسي مراتٍ عدة عليكِ حتى شعرت من فرط الغبطة
أنني سأخسرك يومًا ما ! حدسي بغبطتي أصاب
أنا المجنون بنظرك كُنت العاقل الصاحي بحُبك .. أنا الأناني هُنا كنت سابقًا المؤثر الوحيد في سبيل قلبك
لم أفقدك بإرادتي ، أصابني مرضي في أعمق نُقطة بروحي حتى جُننت
اقترب منها بسرعة فائقة لم تستوعبها إرم ليدفعها نحو الجدار ويضرب ظهرها بقوة فيه
التصق فيها حتى شعرت من شدة اقترابه أن جسديهما سيلتصقان لا مُحالة
رفع يده في وجهها ، يده التي كانت تحمل سكين صيد صغيرة وهو يفتحها
ليُهمس بحقد:
سلبتيني حياتي اللي كانت معك ، سلبتيني أجمل سنيني وأروع أيامي
جاء دوري أسلبك حياتك ..
ما تستحقين العيش يا إرم ، ما تستحقين تمشين على هالأرض الطاهرة وأنتِ دنستيني بخيانتك
توسعت عيناها بصدمة عندما لاحت لها السكين أمامها ودقات قلبها تُسمع من على بُعد أميال طويلة
صرخت في وجهه بقدر الخوف الذي ملأها:
أنت مجنون !!
ضرب بقبضة يده الجدار بجانبها ليصرخ في وجهها:
مجنون ، ايه مجنوون
ياما سمعت هالكلمة من أبوي وأخواني وعيال عمّي
سمعتها منهم وأنا أتجرعها مثل السمّ !
بلعتها مثل الموس اللي جرحني حتى مر مني
أنت مجنون يا صالح روح تعالج ، أنت منتهي رسميّ روح اقرب مصّحة والحق على نفسك
كلهم كانوا يقولوا لي مجنون وأنا صدقت .. صدقت كلامهم حتى صرت مجنون بحقّ وحقيق
-هدأ صُراخه وبهمس - إلا أمي ، أمي كذبتهم كلهم وصدقتني
كانت تقول أنت مو مجنون يا صالح أنت مُختلف ، أنت ممُيز
أنت غير عنهم ، أنت شيخ وتوقف لك المجالس مهابة
أنت تاج رأسي وولدي البارّ الوحيد!
ما انتشلني من هالعُتمة إلا أمي ، أمي اللي زوجتني إياك لأنها شافتك تشبهينها!
-وضع السكين في الوضع الأفقي لرقبتها ليُكمل-
بس أمي كانت غلطانة ، لأن أمي ما تخلّت عني يوم تخلّوا عني أبوي وأخواني
لأنها ما صدّقت فيني مثل ما همّ صدقوا وكذّبوني
لأنها ما خانتني وطعنتني بظهري .
وتكرم أمي عنك يا إرم لأنك ما أخذتي صفة وحدة منها
أغمضت عينيها بقوة لينزل دمعها أخيرًا من رُعبها هذه المرة
الرُعب الذي كادت أن تتقيأه وهي تشعر بحدّ السكين على رقبتها
همست بألم وضيق وحُزن:
ما تؤمن بالنصيب ، ما تؤمن بالقدر الإلهي اللي يضربنا مثل حدّ السيف
ما تؤمن أن ولا واحد فينا اختار هالحياة .. ربي كتبها لنا
ربي اللي أعطاك مرضك ..ربي اللي أعطاك إياني
وربي اللي أبعدني عنك - فتحت عيناها - أنت قانط لأنك خايف
خايف ما تآخذ نصيبك من الفرح والسعادة !
خايف ونسيت إن الأقدار قُسمت من واحنا في بطون أمهاتنا
ما سمحت لنفسك تعيش بسبب خوفك.
وخوفك الحين قاعد يضرني ويضرك
همس وهو ينظر إلى عينيها بجنون متجاهلًا كلامها:
أنا كنت غبي يوم طلقتك ، ولا واحد قدامه هالجمال كله
ويستغنى عنه ؟
صرخت عندما شعرت بالسكين تمرّ على عُنقها ببطء :
صالح ، تكفى اسمعني أول!
اسمعني قبل لا تذبحني
ارتجفت عندما تراجع فجأة والسكين يسقط من يده مُصدرًا صوتًا حادًا مُزعجًا وسط هدوء المنزل
فتحت عيناها بخفة وهي ترى حالته التي ليست بغريبة عليه
رقبته تهتز بسرعة مُلتفتًا يمينًا ويسارًا .. وعيناه مُغمضة تعجز أي قوة عن فتحها
التصقت بالجدار عندما هدأ وبدأ بفتح عينه رويدًا رويدا
ليُهمس لها بحُب حاني :
إرم؟
بلعت ريقها من تغيّره المُفاجيء ، وهمسه المُرتجف دون أن تردّ
اقترب وهو يُمسكها من عضدها ليتّجه بها لكنب الصالة حتى جلس وهي بجانبه
مسح دمعها الذي استمر بالهطول ليقول بحنان:
ليش تبكين ؟ يعورك شيء ؟ علميني لا تخبيّن علي!
-هزها بقوة عندما تزايد بكاءها - قولي
أردفت بإرتجاف شلّ أركان جسدها:
ما فيـ.ـني شي!
أحاط خُصرها بيده ، وهو يُريح رأسها على كتفه ليقول بحنو غريب ومُرعب لإرم:
ولدي متعبك صح صح ؟ لا تحاتين ، ولا تفكرين
هو ولدي وينه ، وين وديتيه ؟ - خلخل أصابعه في شعرها المنثور - وينه ؟
عضّت على شفتيها بقوة حتى شعرت بطعم الدم الذي تجرعته غصبًا عنها
صالح قد جُنّ ، استنزف آخر قطرة صبر هطلت على دماغه المريض!
صرخت عندما شدّ شعرها بقوة قاصدًا إجبارها على الإجابة:
بالغرفة - هدأت نبرة صوتها ببكاء - نايم بالغُرفة
ابتسم بجنون وهو يمسح على شعرها الطويل ، وعيناها مُغمضة لا تُريد رؤية وجودها في حضنه المحرّم عليها
تأوهت بداخلها مراتٍ عدة ، وخوفها جلّ خوفها من أن يخسف فيهم ربها على هذه اللحظة
تجلس في أحضان طليقها ، في بيت زوجها الذي عادت للتو معه من شهر العسل
تشعرّ بإنزلاق روحها لا إنزلاق أقدامها ، وكلّ ما حلمت به خذلها
خذلها لدرجة أنها تشعر بجسدها يتقسّم لقطع صغيرة
سقط قلبها إلى أسفل بطنها حتى أوشك على الإنفجار والإنشطار عندما سمعت صوت تميم يأتي من أول الصالة
وهو يقول بإستغراب:
إرم يا إرم .. ليش الباب مفتوح ؟
تقدّم بسرعة لتتوقف قدماه على أرض الصالة ، وبردة فعل لا إرادية سقطت مفاتيح سيّارته على الأرض مُحدثة ضجيج عالي
من هذا المنظر المُدمي لقلبه!
ليس هذا ما أراد مشاهدته عند عودته للمنزل ، ليس هذا ما يبتغيه وما يسميه بالحياة الهانئة في ظلّ وجود زوجة وعائلة دافئة
ما زال يؤمن أن الإنسان لا يموت دُفعة واحدة ، الإنسان يتجزأ في موته حتى يستظل التُراب وضيق القبر
أغمض عينه بقهر وكلّ الظنون السيئة مرّت واستقرت بل وعشعشت في عقله
عضّ شفته بقوة وهو يقول بهمس حارق:
أيا يالخسيس!
اقترب من صالح البارد ونيرانه تحرق كلّ ما أمامه بإستثناء ذاك الجمود والبرود ، متجاهلًا بكاء إرم وشهقاتها العالية
الذي وبمجرد اقترابه أبعدها بقسوة عن حُضنه ليمسك صالح من ياقة ثوبه وبهمس:
جيت للموت برجولك ، واقسم بمن أحل القسم اللي ما كملّه خيّال المرة الماضية
أكمله أنا لك !!
ما زال يُمسك به ، ليخرج فيه إلى الخارج بعيدًا عن أعين إرم المنهارة التي انعكفت في الزاوية تبكي وتنوح من حظّها السيء الذي ظنت أنه اعتدل واستقام
ظنّت أنها ستُقاوم الإنهيار ، تُكافح الحظوظ وتُحاربها
ظنّت أن كل ما في الأمر صفحة بيضاء من كتاب انتهت للتو منّه
لكنه الإنطفاء والخُمود ، تلك الدُهمة التي داهمتها على حين غرة
جعلت منها مصباحٍ بالي قُدّر له أن يكابد ويواجه عوامل تعرية القدر
بعد دقائق قليلة دخل تميم لترفع عينها له بشهقة عندما لمحت الدمّ يغزي ثوبه
لينظر لها بنظرة تمنت أن ترى الموت وأن تُصارع سكراته بدلًا منها
وبدون أن يُردف حرفًا واحد صعد إلى الأعلى بخطوات سريعة
مسكت شعرها وهي تشدّه بين أصابعها ، وصرخاتها ماتت واندثرت في عُمقها المُتألم
نزل من الأعلى مُرتديًا لثوب جديد وبيده حقيبة سفرها التي لم تفتحها بعد
ليقترب منها وهو يرمي عباءتها عليها بحدة:
البسي عباتك بسرعة!
وقفت أمامه دون أن تُنفذ أمره ، بدمعها وحُزنها ويأسها ورغبتها في الاختباء في حضنه:
تميم ، اسمعني!
ألبسها عباءتها دون أن يترك لها مجال لتتحدث:
قلت ألبسي عباتك بسرعة بدون لا تزيدين كلام ثاني
أغلقت عباءتها وهي تنظر لعينه التي لا تنظر لها ، عينه التي اكتست بالحُزن
تميم شفاف جدًا لدرجة أن كلّ مشاعره تخرج على سطح وجهه السموح ! لا يستطيع أن يحبسها بداخله أبدًا
أمسكها من كُم عباءتها دون أن يمسك يدها بذاتها وهو يسحبها إلى الخارج
شهقت بقوة عندما رأت الدماء في فناء المنزل ليلتفت لها تميم بسخرية:
لا تخافين ياروحي ما ذبحته ، لولا خوفي من ربي اللي هو ما خافه كان دفنته في بيتي
ضربته على يده بقبضة يدها وهي تصرخ في وجهه:
لا تظلمني ، لا تبخسني حقي واسمعني
سحبها بقوة متجاهلًا كلامها ليدخلها إلى السيارة وهو يرمي حقيبتها في الخلف
ليتّجه إلى أقرب فُندق من بيته بعد أن أغلقه بالكامل!
.
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن