الجزء ٢١

988 16 1
                                    

.
فتحت عيناها ببطء وخيوط الشمس من خلف النافذة تتسلل لأعينها ، شعرت بألم يفتك برقبتها بسبب نومتها الخاطئة
آخر ما تتذكره أنها غفت وبيدها فهد ، ثم لا شيء حتى هذه اللحظة
استقامت في جلستها وهي ترفع شعرها جميعه إلى الأعلى
لتمدّ يدها إلى ساعة جوالها
كادت أن تسقط من طولها عندما رأت أن الساعة تجاوزت الثانية عشر والنصف ظُهرًا!
وقفت على عجلة وهي تعضّ شفتها بقوة:
أعوذ بالله يا ديّار كله هذا نووم !
تلفتت يميناً وشمالًا في هذه الغُرفة الواسعة التي بناها راجح بُمساعدة أعمامه
غرفة دافئة في بيت جدته القديم الذي رُمم وعُدل حتى أصبح كبيت شعبي متطور في الوقت ذاته
تذكرت فهد وكيف استيقظ دون أن تشعر به ، أو بدخول راجح على أقل تقدير
فتحت الباب المرتكز في زاوية هذه الغُرفة ظنًا منها أنها دورة المياة إلا أنها تفاجأت وهي ترى غُرفة أصغر باللون الأزرق الفاتح وبها سرير صغير ودولاب وبعض الاكسسوارات
ابتسمت بخفَة لتُهمس بينها وبين نفسه:
وحنانس اللي عنده غُرفة لحاله!
أغلقتها وهي تتجه إلى الباب الآخر بعجلة تُريد أن تستحم وتنزل إلى الأسفل!
وهاهي بعد دقائق تخرج وترتدي فستان زهري مشجّر بكُم طويل ويطل طوله لمُنتصف قدمها
آثرت أن ترتدي هذا النوع من الملابس حتى لا " تنقد " عليها جدة راجح
وضعت مكياجها الخفيف جدًا بعد أن صلّت الظهر لتنزل إلى الأسفل مُعتمدة على حاستها السمّعية لإيجاد مكانهم
طرقت الباب المفتوح وهي تدخل بهدوء لتشتعل خجلًا عندما رأت الجدة وأسيل وبجانبهن راجح
لتقترب وهي تُقبل رأس الجدة على إستحياء:
مساء الخير يمّه!
ابتسمت الجدة بحنّو لتُردف :
مساك الله بالنور يا أمي ، سلامة الأسفار
نظرت لها أسيل كابته لضحكتها ظنًا منها أن ديّار لن تعلم ما ستردّ على جدتها إلا أن ديّار فاجأتها وهي تُهمس برقة:
الله يسلمك ويسلم غاليك ويخليك لنا
وبشكل غير مسبوق جلست بجانب راجح الذي كان ينظر لها بهدوء متوتر مُغلفٌ ببرود عندما لفحت له رائحة عطرها الزهرية
لتقول الجدة بعد أن أمعنت النظر فيها:
عسى ما تعتبوا في الطريق إن شاء الله ؟
ابتسمت بخجل وهي تنظر لحركات أسيل المُغايضة لتقول بحنو:
ما هنا تعب يمّه ، ما حسيت بالطريق خفيف الحمدلله
شرب راجح آخر رشفة من فنجانه وهو يمدّه لأسيل مؤشرًا بعينيه لتسكب له آخرًا وهو يقول بإنتقام:
ما أنتي نايمة طول الطريق ، أكيد ما حسيتي فيه!
نظرت له ديّار بطرف عينها لثواني معدودة وهي التي يُستحيل أن تنسى صُراخه عليها لتُردف بابتسامة تُغيض بها راجح:
مابها مُلامة ، طالعين من عُرس وتعب ومسكنا طريق خطّ الله يعين
هزّت الجدة رأسها بإيجاب جعل راجح يشتعل غيضًا:
صادقة وأنا أمك ، الحمدلله الله يهني العروسين ويسعدهم
تركت أسيل فنجانها بابتسامة مُضحكة :
آميين يمّه آميين وعقبّال الذرية الصالحة لهم ولغيرهم!
كادت ديّار أن تغصّ عند تلميحات أسيل الوقحة بنظرها إلا أن نظرات راجح المُسلطة على أخته قد أخذت بثأرها
سمعوا أصوات قادمة من الخارج تقترب من الصالة وبحركة مُفاجئة اختبأت ديّار خلف راجح الذي استغرب حركتها
إلا أنها هدأت رويدًا عندما رأت فهد يدخل بصحبة فتاة آخرى لم تعرفها ، تكبرها ربما بعامين أو ثلاثة
اندهشت عندما دخلت هكذا وهي حاسرة الرأس ، تلف حجابها حول رقبتها
بل ما أدهشها هو ابتسامة راجح العريضة التي تُقسم أنها لأول مرة تراها
تلّقت فهد الذي قفز في حضنها وهي تحمله وتقف عندما وقفت الفتاة أمامها
مدّت يدها بابتسامة لطيفة:
أهلًا وسهلًا نورتونا
بلعت ريقها وهي مُحتفظة بابتسامتها المدهوشة:
النور نوركم!
جلست بجانب أسيل وهي تترك حجابها جانبًا وتأشر بسبابتها لفهد الجالس بحضن ديّار:
ولدك ذا كل ما يدخل بيتنا ما يبي يطلع منه ، أبوي يقول ليتني ما حطيت قفص الحمام ، رايح راد عليّه
ابتسم راجح وهو يبعثر شعر فهد بخفة:
بيطلع مقناص على أبوه إن شاء الله ، وقفصكم هذا بدل لا يمتلي حمام حيّ بيجيبه ميّت وبيشويه
شهقت وهي تضع يدها على فمها بوجل:
أعوذ بالله منك يا متوحش ، لا تعلّم ولدك على القنص وخرابيطه يكفينا أنت
ضحك راجح وهو يأشر بالفنجان الذي يُمسك به:
اهجدي لا أكسر رأسك بذا الفنجان ! ولدي بيطلع ذيب وشيخ أحسن عن أخوك النّوام
صفقت بيديها الاثنتين لتقول بحماس مجارية له:
على قولتك أخوي نّوام لكن ترا أخته زكرتيييه لو بغيت تعلمّها القنص
هزّ رأسه آسفًا على حالها ، فهو لا يلومها تربّت طوال حياتها مع ٤ أخوة دون وجود أخوات وأصبحت تصرفاتها قريبة منهم
إلا أنها أنثى رقيقة جميلة وأنيقة في غالب وقتها
انتبه للتو لشرود ديّار التي تمسح على شعر فهد بسرحان ، يظن أن أذنها معهم لكنّ قلبها لا
ليس راجح الوحيد فحتى أسيل انتبهت لتغيّرها ، لتُردف بعد أن فهمت ما آل إليه تفكير ديّار:
ديّار ؟ - ابتسمت وهي تأشر على الفتاة بجانبها - ماعرفنّاك على هالمطفوقة ، ما كانت حاضرة العُرس
بنت عمي ندى ، وأختنا أنا وراجح من الرضاعة
توسعت عينا ديّار بدهشة من أنها فهمت خطأ ، لتتحول دهشتها لابتسامة أشبة بـ"تسليكية" . هزّت رأسها :
تشرفنا يا ندى!
ضحكت ندى بخفوت وهي تضرب كتفها بكتف أسيل:
فشلتيني معها يا بنت ، وش مطفوقة ؟ - أكملت بصوت عالٍ - الشرف لي يا حلوة
مالت على أذن أسيل وهي تُردف بهمس:
البنت الرقيقة الأنيقة هذه خسارة على أخوك الدفش
أحسها شوي وتذوب من نعومتها
عضّت لسانها لتُكبت ضحكاتها وهي تقول بنفس الهمس:
اذكري ربك يامطفوقة ، والله ما كذب عمي يوم سمّاك كذا
تأففت وهي تبتعد عنها لتقول بابتسامة :
فهود يبي يشوف المزرعة ، قم بس يا راجح وخذه
نظر لها بطرف عينه متأففًا:
أنتي يالفصعونة لا تتآمرين على أخوك العود!
وفهود لاحق على المزرعة تونا اليوم واصلين
وقفت ديّار مُبتسمة وهي تُمسك بيد فهد لتقول لأسيل:
بآخذه أنا ومنها نشمّ هواء نظيف
هي صح اللي وراء ؟
هزّت أسيل رأسها بابتسامة لتخرج ديّار برفقة فهد ، وعند خروجها التفت ندى بمرح لأخيها:
ولد ، من وين طحت على هالصيدة الصاروخية ؟
اتكئ راجح على المركى وهو يقول بسخرية مُؤشرًا على أسيل:
اسألي اللي جنبك وبتجاوبك
التفتت له الجدة وهو تقول بنغزة:
البنت شايله ولدك على كفوف الراحة ، وش هي معك ؟
رفع مسبحته وهو يقلّب فيها دون أن ينظر لوجه جدته حتى لا تكشفه :
زينة !
نظرت له بغضب وهي تقول بنفس النبرة:
ما أسألك عن زينها مير زينها وأخلاقها بسيماها!
أسألك عن عيشتك معها ياولد؟
وقف متهربًا من الخوض في نقاش طويل مع جدته قد ينتهي بتوبيخه ليقول وهو يخرج للخارج:
ماهي مقصرة بنت جابر ؛ ولكنّ القلب وما يهوى يا يمّه
القلب وما يهوى!
خرج بسرعة وهو يتجّه من الباب الخلفي للمنزل الذي يؤدي إلى مزرعتهم الواسعة ، رآها تقف وبحضنها فهد
تأشر له على بعض الحيوانات والأشجار وتجعله ينطقها بشكل صحيح
وقف خلفها تمامًا ، ينظر إليها من أعلاه رغم أنها تقترب من طوله وهو يضع يداه خلف ظهره بنبرة هادئة:
ما يحتاج تتعبين نفسك بالتمثيل ، علي أو على ولدي
أو حتى على أهلي ! تصرفي على سجيتك
التفتت له برفعة حاجبها المرسوم بدقة ، وهي تُنزل فهد بجانبها لتقول بجدية:
أتعب نفسي بالتمثيل ؟ يكون عيب عليك
إنك ماعرفتني للحين يا راجح !
هزّ كتفيه وهو يمدّ ناظريه للمزرعة الخضراء المرتبة:
كل شيء واضح حتى لو إني ماعرفتك زين
مافي أحد بيتعب بنهاية الطريق إلا أنتِ
زفرّت وهي تُكبت غيضها بداخلها لتقول بابتسامة رقيقة بريئة :
أحيانًا أحس إنك تحب تقلب الأدوار
المفروض تقول هالكلام لنفسك
إنت إنسان متقلّب يا راجح ما تعرف وش تبي!
التفتت لها بُعقدة حاجبيه الغاضب منها:
على هونك يا بنت جابر ، لا تحكمين على غيرك من موقف موقفين
أمالت كتفها وهي تبتسم بإنتصار :
اشوه الحمدلله هذا أنت جاوبت نفسك بنفسك
سكت عندما شعر بأنها غلبته في حربه الكلامية ، كيف أنه كان يُريد أن يقطع دابر طريقها
لكنّها ترصدّت له قبل أن يترصدّ لها!
شعر بإقترابها الشديد منه ، لتقف أمامه تمامًا وهي ترفع نظراتها الماكرة له
تفرّس وجهها الهادئ المُبتسم ، يبحث عن نظرة أو إيماءة تُشير إلى نواياها الخفيّة
تمرّ التساءلات في نفسه : كيف تستطيعين تخييب ظنّي مرة تلو الآخرى وأنتِ صاحبة الضيّاع الكارثي؟
حبس نفسه عندما مدّت يدها إلى زر ثوبه المفتوح أعلى رقبته لتُغلقه
ثم ربتت بيديها الاثنتين على صدره لتقول بمُكر هامس:
أنا إنسانة لحوحة يا راجح ، الشيء لا بغيته وصلت له
ولو هو أبعد من نجم سهيل!
إلا أني ما أعاود الأماكن اللي تضرّني وتنثر فيني طبع السوء
محاولاتك المُستميتة إنك تكرهّني بنفسي ؟
أنا أشوفها وأوقع عليها بالفشل المُسبق ! أنت واقف قدام بنت جابر
-تراجعت على نفس ابتسامتها-
وبنت جابر ما تدخل ميدان وتخسر فيه!
التفتت لفهد الذي ينظر إليهم بلا فهم وإستيعاب لتحمله في أحضانها وهي تُلقي بنظراتها الواثقة في وجه راجح الجامد
تُبصم عشرًا دون الخمس أنه يتآكل من داخله الآن
ولكنّ لا بأس ، لتدّعه يفكرّ قليلًا أن من أمامه ندٌ له!
زفرّ عند ذهابها نفسه الذي حبسه ليهزّ رأسه بهمس:
ليلي معاك طويل ، والميدان لنا يا ديّار
.
.

ما علموك إني ابن هالصحراء ، وإني شرقي الهوية والهوىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن