الفصل الثامن والثلاثون

56 7 1
                                    


















[ الفصل الثامن والثلاثون ]



عندما خرج فارس من عندها صعدت إلى الطابق العلوي ، إلى وجهة قد حددتها سلفاً
دخلت إلى الغرفة بعد أن طرقت الباب ، كانت الغرفة مظلمة إلّا من نور الأبجورة الخافت بجوار سرير بغداد
اقتربت من السرير وهي تقول بصوت منخفض : بغداد نايمة ؟

كانت بغداد مستلقية على جانبها الأيمن ، ولا تريد أن تلتفت لكي لا ترى والدتها أثر الدموع على وجهها
لذلك ردت بهمس بدون أن تتحرك : دحين بنام

جلست والدتها على طرف السرير ، ومسحت على كتفها وهي تشعر بالألــــم الذي يمزق قلبها
الآن استطاعت فهم نظرة الانكسار والحزن التي كانت في عيناها، كانت حزينة على الإجهاض نعم ، لكنها كانت تشعر أن هناك أمر آخر
سألتها : صليتي العِشا ؟

بذات الهمس ردت عليها بغداد : إيوه
ام فارس وهي مستمرة في المسح بحنان بالغ على كتفها قالت لها : لو احتجتي أي شيء اتصلي عليا على طول
هزت بغداد رأسها ولم ترد لأن دموعها عادت تسيل على خدها

عندما شعرت بوالدتها تقوم من السرير ، ثم تغلق الباب خلفها ، أخذت شهيق و زفير طويل وهي تمد يدها إلى علبة المناديل
اخذت منديل تمسح الدموع التي بدأت تجرح خدها ، طعنها فارس طعنة موجعة في صدرها
أما والدته فقد طعنتها في ظهرها ، لم يكن جرح غائر ، بل خدش بسيط ، لكنه خدش سيبقى أثره عليها
أكثر ما يحزنها في هذا الأمر ، أن والدتها اخبرتها أن فارس توسّل لكي تقنعها بزواجها منه

ربما لو أن الأمر اختصر على انها اخبرتها انها خطبها فقط لم تكن لتدخل حياة فارس وهي لديها فكرة أنه خطبها لأنه أرادها هي بشكل خاص
كانت هذا الفكرة مسيطرة عليها وهي ما تجعلها تهدأ سابقاً عندما كانت تشعر بجفاءه
كانت تذكّر نفسها دائماً أنه أرادها بل وتوسل لكي توافق عليه
لكن الآن هذا الأساس تهدّم ..

عندما شعرت أنها ستدخل لهذه النقطة من أفكارها الموجِعة لها ، أخذت بصوت واضح تصلّي على الرسول صلى الله عليه وسلم
كررت هذا الأمر مرات عديدة حتى بدأ النوم يغزوها فعلاً ..



استيقظت قرب الظهيرة ، بقت في فراشها عدة دقائق قبل أن تعتدل بهدوء لتجلس
وقبل أن تقوم من السرير كانت ام فارس تطرق الباب قبل أن تدخل الغرفة نظرت إليها وهي تبتسم لها : صباح الخير

ابتسمت بغداد ابتسامة بسيطة وهي ترد عليها : صباح النور
أم فارس وهي تقترب منها : كيف صبّحتي اليوم ؟ حاسّة نفسك أحسن ؟

ردت باختصار : الحمدلله
كانت تريد أن تقوم من السرير بمفردها بشكل تلقائي لكن يد أم فارس كانت أسرع وهي تمسك ذراعها برفق وتعاونها على الوقوف
ابتسمت بغداد وهي تقول بصوت منخفض : ماما انا مو تعبانة لهذه الدرجة ، الحمدلله أقدر أقوم لوحدي

ام فارس : لسى انتي تعبانه وابغى اساعدك مافيها شي انا امك
ابتسمت بغداد لها و مشت عدة خطوات متوجهة إلى دورة المياه المُلحقة بالغرفة ثم التفتت إلى الخلف
وقالت لام فارس التي تمشي ورائها : ماما ترى اقدر ادخل الحمام لوحدي !
نظرت إليها ام فارس بقلق ثم قالت ، طيب انا بكون في الغرفة استناكي إلين ما تخرجي

هزت بغداد رأسها قبل أن تدخل إلى دورة المياه
فور أن أغلقت الباب نظرت إليه وكأنها تنظر لام فارس الموجودة في الغرفة ، محتارة في شعورها تجاهها
اهتمامها فيها وحرصها يجعلها لا تستطيع أن تغضب منها أو حتى تشعر بالغيض لأنها أعطتها فكرة خاطئة عن فارس وخطبته لها

في أول يوم عندما خرجت من المستشفى دخلت معها دورة المياه وحمّمتها بنفسها ، وعندما خرجت أعدّت لها وجبه دافئة بنفسها وأطعمتها بيدها
تراها حريصة كما كانت دائماً وأكثر الآن وهي في هذا الوضع الخاص
ما يجعلها تفكر في السبب الحقيقي لأن تجبر فارس على الزواج منها ، هل بسبب أنها تأخرت قليلاً في الزواج أم ماذا بالضبط ؟!

عندما خرجت من دورة المياه كانت ام فارس جالسة على سرير بغداد و تتكلم في هاتفها
مشت إليها بخطوات بطيئة فجسمها لم يتعافى بعد
نظرت بغداد باستفهام إليها وهي لا تفهم سبب تعابير القلق التي اصبحت ظاهرة على وجهها
عندما أغلقت هاتفها سألتها بغداد التي جلست بجانبها في السرير : فيه شي ؟

تنهدت ام فارس بصوت واضح قبل ان تقول : ابوكِ دوبه يكلمني انو جدتك بتجي تتغدا عندنا
ثم اغتصبت ابتسامة وهي تكمل : الظاهر ما قدرت تصبر لمن وصلها خبر اجهاضك وحبت تجي تطمّن عليكِ بنفسها

ابتسمت بغداد وهي تقول بحب : يا حياتي يا جدة
ثم اتسعت ابتسامتها وهي تفهم سبب قلق والدتها : شايلة هم لمن تجي ؟
كعادتها ام فارس لا تحب أن تُظهر شعورها ، رغم علمها ان بغداد تعرف كل شي لكنها لا تحب أن تتكلم في هذا الموضوع بالذات مع أي أحد
: مو شايلة هم بس دوبه ابوكِ كلمني وكان يبغالي استعدّ من قبل ، .. ثم قالت لها : انا لازم انزل المطبخ ، تبغي شي قبل لا انزل

هزت بغداد رأسها بنفي لتقول لها ام فارس : فطورك جاهز إذا خلصتي صلاة بخلي ام حسن تطلعه لكِ



**



خرجت من دورة المياه بعد أن اخذت حمام بارد كعادة لا تتخلى عنها ابداً عندما تعود إلى المنزل
ارتدت فستان قطني خفيف برسومات ملونة وهي تشعر بالكسل وعدم الرغبة حقيقة في النزول إلى منزل خالتها وتناول وجبة الغداء معهم

بدأت تفكر فيما إذا كان صقر سيوافق بسرعة
إذا ما اقترحت عليه أن يطلبوا من أحد تطبيقات المطاعم أن يوصلوا وجبة الغداء إلى بيتهم
وهي في تفكيرها هذا دخل صقر إلى الغرفة ومن الواضح أنه أنهى مكالمة لتوّ ، قال لها : جدتي بتتغدا عندنا اليوم
نظرت إليه وجدان باستهجان : جدتك ام ابوك ؟
صقر : إيوه
وجدان : بتتغدا هنا عندنا في بيتنا !
فهم صقر مقصدها لكنه أحبّ أن يرى نهاية هذا الأمر معها : إيوه كلمتني وقالت بتجي ، ما قدرت اقول لها لا

وضعت وجدان الفرشاة التي كانت تسرّح بها شعرها الرطب وهي تقول بعدم تصديق : صقر مو من جدك صح ؟ تمزح اكيد !
صقر بحدة مصطنع : ما تبغي تستقبليها في البيت يعني ؟ !

زفرت وجدان بصوت عالي قبل ان تقول بتوتر : شوف لو انك تمزح قول لي لأني ما احب هذا النوع من المزح
عندها صقر اقترب منها ولمس أطراف شعرها وهو يقول با ابتسامة بسيطة : ليش ما تحبي هذا النوع من المزح ؟

رفعت وجدان رأسها أكثر لتنظر إليه نظرات مُتسائلة
اتسعت ابتسامته وهو يرى عيناها البريئة جداً تنظر إليه برجاء أن يكون كلامه مُزاح لا أكثر
مد يده إلى أنفها ليشده بقوة بينما مقصده أن يمسكه بلطف فقط وهو يقول
: يعني هذه الخرشة كلها عشان قلت جدتي بتتغدا هنا كيف لو من جد جايه ، المفروض تقولي حيّاها والبيت بيتها

زفرت وجدان بارتياح هذه المرة عندما فهمت أنها مزحة من العيار الثقيل وعادت تنظر إلى مرآة التسريحة وهي تقول
: إيوه حيّاها لمن يكون عندي خبر مُسبق مو كذا فجأة أعرف

من انعكاسه على المرآة علمت أن كلامها لم يعجبه
لكنها لم تهتم حقيقة وهي تمد يدها لكريم الترطيب وتقول وهي توزعه على بشرتها
: لا تطالع فيني كذا ومن دحين اقول لك انا ما احب العزايم اللي تجي فجأة
مستقبلاً إذا عندك نية تكلم أي شخص اعطيني خبر قبلها بأيام عشان استعد

قال صقر وهو يقصد ما يقوله فعلاً : هذا من إكرام الضيف يعني ! لازم خبر مسبق وتكاليف وكلام فاضي ، المفروض أي أحد يكلمك بيجي البيت تقولي حيّاك
وجدان ببرود : الضيف لازم يستأذن من قبل ما يجي ، من الروضة ونحنا نعرف أدآب الإستئذان
و الواحد لو حتى دق الباب على أحد وما فتح له المفروض ما يزعل
ثم قالت : وبعدين ليش نحنا دحين بنتكلم ونتجادل في كلام ماله داعي ، جدتك بتجي عند أهلك يعني ولا كيف ؟

رفع صقر حاجبه الأيمن وهو يقول : مين قال نتجادل في كلام ماله داعي ، الكلام هذا وضّح لي طريقة تفكيرك في هذا الموضوع
وجدان بملل : صقر ترى انا جِد دحين مالي خِلق اتناقر معاك ، إنتا جاي وكنت تبغى تقول لي شي ، إيش هوا ؟

انتبه صقر حينها إلى مزاجها الذي لم يكن في أفضل حالاته
مشى خطوة واحدة إليها ليكون ملاصق لها تماماً وهو يسألها باهتمام : اشبك ؟ فيه شي مزعّلك

هزت رأسها بنفي : لا ، بس كذا ماليا خلق شي
ثم سألته : ما قلت لي جدتك دحين جايه تتغدا عند أهلك ؟

صقر : إيوه ، دوبها امي اتصلت تقول إنها بتجي عشان تطمّن على بغداد ، وحبّت تعطيكِ خبر من قبل عشان ما تتفاجئي
وجدان بعدم إعجاب : ما شاء الله من الظهر جايه تطمّن عليها !
ثم زفرت مرة أخرى قبل أن تقول : انا مو نازلة ، إنتا انزل اتغدا معاهم إذا تبغى وانا على المغرب بنزل اسلم عليها

عقد صقر حاجبيه من ردها الذي لم يعجبه : وليش ما بتنزلي ؟!
نظرت إليه وجدان قليلاً قبل ان تقول بجدية : شوف صقر ، حاجه لازم نتفق عليها
إذا أنا ما عندي رغبة أقابل اقاربك البعيدين فلازم تحترم رغبتي وما تجبرني اقابلهم ، وهذا الشي لك انتا كمان
إذا حصل إنو في يوم من الأيام فيه عزومة عند اعمامي وانتا ما تبغى تروح فهذا الشيء راجع لك وانا ما يحق لي اجبرك
ثم قالت له بصراحة تبرر رفضها : جدتك تكرهني وما تطيقني من وانا صغيرة ، ليش اغصب نفسي اكل وجبه معاها وانا مو مرتاحة

قال لها صقر وهو ينظر إلى عينيها بالضبط : ما تحسّي إن مستوى الصراحة عندك زايد
حاولت وجدان أن تشيح بنظرها عنه وهي تقول : هذه الحقيقية وعادي ما جات على جدتك بس ، يا كثر اللي يكرهوني

كان صقر ينوي أن يقول لها مازحاً بأنه يعلم أن من يكرهونها كُثر
لكنها عندما أشاحت بوجهها ، شعر أن هناك ما يكدر مزاجها حقاً
أعاد أنظارها إليه بأن أحاط وجهها بيديه ، قال لها وهو يدقق النظر فيها : فيكِ شي ؟

قالت له برد سريع : قلت لك لأ
نظر إليها بحيرة قليلاً قبل أن يُبعد يديه عنها ويقول : انا بتروش قبل لا أنزل

عندما دخل إلى دورة المياه جلست على كرسي التسريحة بهدوء ، وأخذت تنظر إلى نفسها في المرآة
هل واضح عليها لخبطة المشاعر التي تشعر بها ؟
تعترف في قرارة نفسها أن ما تشعر به سخيف بل ويجعلها تشعر بالإحباط من نفسها ومن وضعها كَ كل
ولكنها هي من حُرمت من الإهتمام والحنان لم تستطع إلّا أن تشعر بالغيرة من بغداد
وهي ترى كيف الجميع في اليومين الماضيين يتسابق لِ رعايتها والإهتمام بها بكل حب ، حب حقيقي عظيم لا زيف فيه

بينما هي كانت نقطة على هامش حياة والدتها ، ولم تشعر باهتمامها إلّا قليلاً جداً جداً جداً بعدما تزوجت وفارقتها
ولا تدري هل هو اهتمام من قِبَل والدتها أم شعورها أنها من المفترض أن تنتمي إليها لا إلى زوجها صقر

لم تعتاد على أن يسألها أحد ما بها ، الإنسانة الوحيدة التي كانت تشعر باهتمامها الصادق
كانت صديقتها غادة التي لديها مواقف كثيرة لا تستطيع عدها في السراء والضراء
كانت تشعر باهتمام خالتها ام فارس بصدق ايضاً لكنها كانت كذلك نقطة على هامش حياة خالتها فلديها زوجها وابناؤها

لم تستشعر من قبل أنها ثمينة ولابد من مراعاتها والإهتمام بها لأعلى درجة
بينما بغداد كانت تتلقى طوال حياتها الحب والدلال بِ تلقـــــائية ، وكأنه أمر مفروغ منه ، أمر يفعله المقرّبون منها بدون أي تفكير
هي نفسها حقيقة لم تشعر من قبل بكرهها أو بالغيرة منها ، وحتى الآن لم تكرهها وتحسدها على وضعها الذي هي فيه
وحزنت حقاً عندما علمت ما أصابها
لكنها وهي ترى الاهتمام الفائق بها هذه الأيام لم تستطع إلّا أن تتمنى أن تكون في مكانها
أن يُحيط بها الكثير من أحبابها ، الذين يحبونها فعلاً بكل صدق

هذه المشاعر التي كانت مسيطرة عليها تماماً منذ بداية اليوم ولم تستطع التخلّص منها بعد
لذلك عندما سمعت صوت باب دورة المياه يُفتح ، فتحت أحد أدراج التسريحة وأخرجت فرشاة الحواجب وبدأت بدايةً تمشّطها بخفة
كل هذا لكي يراها صقر مشغولة فيخرج من الغرفة بدون أن يتكلم معها
كانت قد بدأت في رسم الحاجب الأيمن ببطئ شديد
عندما انتهت منه كان صقر يقف خلفها مرة أخرى وقد ارتدى ثوبه ، مد يده وأخذ أحد عطوره ورشّ منه عدة رشّات
أعاده إلى سطح التسريحة وعيناه لا تفارقانها

كانت وجدان تشعر بنظراته لكنها تتجاهلها وهي ترسم الحاجب الثاني بنفس البطئ
لكنها قبل أن تنتهي منه ، سمعته يقول بنبرة هادئة هو نادراً ما يتكلم بها : عجبني كلامك لمن قلتي ان كل واحد يحترم قرار الثاني في إنو نقابل اقاربنا البعيدين
على اني اشوف أوقات يكون من الواجب إني احضر أو انتي تحضري المناسبة ، حيكون فيه استثناءات في هذا الشي

نظرت إليه وجدان بدهشة ، لم تكن تتوقع أنه قد يفكر في الكلام الذي تقوله بعد أن ينتهي نقاشهم
هو لم يبدي اهتماماً لكلامها من قبل ، وتظن دائماً أنه يجاريها في الكلام لكي ينتهي الموضوع ، فقط ..

أكمل صقر يسألها بانزعاج خفي هو نفسه لم يتعرف عليه : وليش تقولي إن كثير يكرهوكِ ؟
ابتسمت وجدان بسخرية وقالت بتلاعب دون ان تجاوب على سؤاله وهي لا تزال متشاغلة برسم حاجبها
: لأني اعرف انو كثير يكرهوني
ثم التفتت تنظر إليه : يلا انزل لا تتأخر على الغدا

نظر صقر إليها وهو محتار قليلاً في امرها ، يشعر أن مزاجها اليوم سيئ لسبب ما ، ويشعر أنها حقاً لا تريد أن تراه الآن بسبب هذا المزاج
مشى عدة خطوات قبل ان يلتفت عليها ، كانت واقفة عند باب غرفة النوم
قال لها : بخلي وحدة من الشغالات تطلّع لك غدا
وجدان برفض : لا مو مشتهية رز ، بسوي لي اندومي

كان يمشي وهي تسير خلفه ، قال باستغراب وعدم اعجاب بما قالت : اندومي ! الله يكرم النعمة بس

لم تحب أن تدافع عن الأكلة التي من ضمن أكلاتها المُفضلة ، كانت تنظر إلى ظهره وهو يمشي
حتى قالت بتردد وهو يمد يده إلى باب الشقة ليفتحه : صقر

التفت عليها صقر بنظرات مُستفهمة
عندما نظر إليها شعرت بسخافة ما طرأ فجأة على عقلها ، هزت رأسها بقوة وهي تقول : لا لا ولاشي خلاص
شعر هُنا بالفضول ، سألها : إيش فيه ؟
وجدان بإصرار : لا خلاص من جد مافي شي ، روح انزل عند اهلك
تكتفت وهو يقول : مو نازل إلّا لمن تقولي لي إيش كنتي تبغي

نظرت إليه وجدان بتردد قبل أن تبتسم بخجل وهي تشعر أنها سخيفة ، سخيفة فعلاً
فتحت يديها وهي تقول بتردد متجاهلة السخونة التي بدأت تسري في جسدها لإحراجها حقاً من نفسها
: آممممم آ كنت بقول لك تبغى اعطيك حضن

ثم ضمت يدها بسرعة وهي تقول : ما تبغى صح
كان صقر مُتفاجئ من فِعلها
باغتته بفعلها الذي لم يتوقعه فعلاً قال لها بسرعة وهو يتقدم خطوتين عندما شعر أن ردة فعله متأخرة : إلّا أكيد أبغى

لم ينتظر ان تفتح يدها ، بل هو من ضمها إليه
ثم وبحركة باتت تلقائية رفعها إليه قليلاً حتى أصبحت بالكاد تقف على رؤس أصابع قدميها

كَ كل مرة ، هي لا تفهم مقدار الراحة التي تحس بها
عندما تشعر بذراعيه تضمانها إلى صدره الذي تشعر بأنه أوســــع من أي شيء في هذا العالم

وَ كَ كل مرة ، هو لا يستطيع أن يفهم التنهيدة العميقة التي تصدر منها كلما يضمها إلى صدره
يشعر وكأنها وصلت إلى وجهتها التي تريدها ، وكأن هذا هو كل ما تريده وتتمناه
ما يجعله يُفكر في تلك اللحظات بشكل غريب أنه لا يُمانع أن تظل بين ذراعيه إلى الأبد

قال لها : إذا اتنهدتي كذا ما بقدر أنزل تحت
ابتسم عندما سمعها تضحك ضحكة بسيطة قبل أن تتنهّد مرة اخرى بصوت أعلى وهي تقول : يعني لو سويت كذا ما بتنزل

ابعدها قليلاً لكي يستطيع أن يراها قبل ان يقول : ما تبغيني أنزل ؟
نظرت إليه وجدان قبل أن تنظر إلى صدره : لازم تروح لأهلك

صقر : وانتي ؟ تبغيني انزل ولا لا
عندما لم ترد عليه قال لها : قبل شويه ما كنتي تطالعي فيني !

عضت وجدان على شفاتها السفلية قبل أن تقول دون ان تنظر إليه
: قبل شويه ما كنت ابغى اشوفك صح ، كذا كان مزاجي مقلوب شويه
بس دحين لمن شفتك بتخرج من البيت ، حسيت اني ما ابغى اجلس لوحدي

صقر بتهكم : اها ، يعني الموضوع عبط بنات ، ودحين في هذه اللحظة بإيش حاسة ؟

اخذت تعبث بأزارير ثوبه قليلاً قبل أن تقول بتردد وهي متوقعة الرفض أو السخرية كعادته : ما ابغى اتغدا لوحدي
ثم رفعت رأسها تنظر إليه : عادي لو اتغديت معايا هنا ، بعدين ننزل تحت مع بعض

ابتسم صقر ابتسامة سخرية تعرفها جيداً : اترجّيني أكثر وأفكر في الموضوع

شعرت بالإحباط ، هل كانت تتوقع أنه سيوافق على طلبها بكل بساطة
رأى صقر تقوّس شفتيها وهي تحاول في نفس الوقت أن تبعد ذراعيه المحيطة بها قال لها : اشبك زعلتي ؟

بدون ان تنظر إليه قالت بهدوء : ما زعلت ، خلاص روح عند اهلك لا تتأخر
فلت ذراع واحدة لكنه أحاط خصرها بذراعه الأخرى ، مد يده لجيبه وأخذ هاتفه ، فتحه وأجرى مكالمة بسرعة
اتسعت عيناها بدهشة عندما سمعته يخبر والدته أنهم سيتغدوا في بيتهم ثم سينزلوا للسلام على الجدة
عندما أغلق هاتفه نظر إليها ثم عض على شفاته وهو يحاول أن يكتم ضحكته على شكلها : اشبك ؟

وجدان بعدم تصديق : حتتغدى هنا ، معايا !!
صقر بسخرية : إيوه عشان لا تبكي علينا ، لأنك اتغديتي لوحدك
لم تتمالك نفسها إذ أنها رفعت يديها لتتعلق برقبته بقوة بدون أن تتكلم بحركة شُكر طفولية بحتَة
ردة فعلها وضّحت لصقر كم سعدت بتصرّفه هذا وإن كان غلّفه بسخريته المعتادة ، قال لها : بتخنقيني كذا

انتبهت إلى نفسها فلتت يدها بهدوء ، ابتعدت عنه قليلاً قبل أن ترفع رأسها وتنظر إليه بِ ابتسامة جميلة يراها لأول مرة ظاهِرة على وجهها
هذه الإبتسامة كانت كفيلة بأن تجعل حرارة غريبة في صدره لرؤيتها
ابعد عينيه عنها و قال لها وهو يمشي إلى داخل الصالة : إيش بتغدينا ، ابغى غدا محترم لأني بفوّت عشانك كبسة اللحم حق امي
ثم التفت إليها وهو يقول بنظرات تحذير : يا ويلك تقولي اندومي

قهقهت ضاحكة قبل ان تقول بحماس وهي تبحث عن هاتفها : لا افااا عليك ، بغديك غدا عمرك ما تحلم فيه ، و على حسابي كمان




**



كانت قد ذهبت إلى غرفتها بعد تناول وجبة الغداء تريد ان تستلقي على سريرها لأنها متعبة قليلاً
وتشعر بالحرج لأن تستلقي في الصالة أمام والدها او احد اخوانها ، ورافقتها جدتها في ذهابها إلى الغرفة

الآن هي في حضن جدتها وتشعر بلمساتها الحانية على شعرها التي تجعلها تشعر بالسكينة والهدوء لدرجة أن النوم بدأ يداعب جفونها
إلّا أنها نظرت إلى جدتها عندما سألتها قائلة بنبرة حنونة مخصوصة لها فقط : وش فيك يا بنتي ، وش اللي مكدر خاطرك

تنهدت قبل أن تقول بصدق : اللي يفقد ضناه يا جدة تتوقعي إيش بيكون حاله ؟
ام خالد : حاسّة فيك يا بنتي ، بس قولي الحمدلله ربي اخذ واحد وبقّى لك واحد
قالت بغداد بهمس : الحمدلله

صمتت جدتها قليلاً قبل أن تقول لها بمواساة : فقدت مثلك ولدين من قبل لا أشمهم ولا أضمهم لصدري ، واحد كنت في الشهر السادس ، و واحد في الشهر التاسع
نظرت إليها بغداد وهي قد رفعت حاجبيها بدهشة ، لم تسمع بهذا الأمر من قبل : ياألله ، يعني قيدهم خلاص متكوّنين ونُفخت فيهم الروح
ام خالد : إيه انا ما قدرت اشوفهم قلبي ما اتحمل ، اللي في الشهر التاسع كان ولد كامل مافيه شي
وحتى اللي في الشهر السادس كان متكون و الحريم اللي كانو معاي وقتها قالوا لي إنه مخلوقة يدينه ورجلينه

بغداد بتأثر : يا سبحان الله ، طيب انتي كيف كان شعورك وقتها ؟
انا الدكتورة قالت لي الجنين عمره ستة أسابيع وانهرت بكا كأن عمره ستة سنين مو ستة اسابيع انتي ايش سويتي

ام خالد : حزنت عليهم أكيد ، وأوقات أذكرهم واقول لو اني جبتهم وكانو عايشين الين اللحين كانو بيكونوا اخوان كبار لأبوك
لكن قدّر الله وما شاء فعل الحمدلله على كل حال ، حامدين وشاكرين لك يارب
لكن اللي كانت مصيبة ما قدرت في البداية اصدقها حتى ، وجزعت وصرخت والحارة كلها سمعت صوتي لمن فقدنا امك
هذا الموت اللي الين اللحين في القلب غصّة ما راحت ولا خفّت

خرجت تنهيدة حارة من بغداد عندما تذكرت والدتها الحقيقية التي لا تعرفها إلّا من الصور فقط : الله يرحمها ويغفر لها ويعوض شبابها في الجنة
ام خالد بصوت مختنق وهي قد بدأت بالفعل بالبكاء : الله يرحمها ، الله يرحمها يارب ويجعلها في اعلى درجات الجِنان

نظرت بغداد إلى جدتها قبل أن تقول بتردد وهي تسألها هذا السؤال لأول مرة
: عشان كذا مو قادرة تتقبّلي ماما صفاء ، لأنها اخذت مكان ماما ريم- والدتها الحقيقية- ؟

عقدت ام خالد حاجبيها وهي تمسح بقايا دموعها وتقول بكره لم تستطع إخفاءه
: ما اتقبلتها لأنها مهي من قومنا ولا ناسنا ولا هي توصل لنسبنا ،و زود عنها مطلقة وعندها ولد ، لكن ابوك الله يهديه أصرّ إنه يتزوجها هي
تنهدت بغداد بضيق قبل أن تقول : اتفهّم شعورك يا جدة ، بس ماما صفاء جزاها الله خير أنا مستحيل أنكر فضلها على بابا وعليّا

ثم عضّت على شفتيها بقوة وهي تتذكر كلام فارس " امي غصبتني عليكِ "
لكنها حاولت بكل قوة أن تمحي هذا الكلام من ذاكرتها وهي تكمل كلامها : عمري ما حسيت إني يتيمة ام عارفة ليش
لأنها عاملتني زي بنتها بالزبط وأكثر كمان ، حتى تعاملني أحسن من نور اللي هي من لحمها ودمها ، وتهتم فيني أكثر منها هذا الشيء انا متأكدة منه
إذا السنين اللي فاتت كنتي تكرهي ماما صفاء لكل الأسباب اللي ذكرتيها ، أتمنى دحين تحاولي تتقبليها
ما بقول حبيها لأن الأرواح جنود مجنّدة لكن اتقبليها واتذكري انو بابا الحمدلله حياته مستقرة معاها

ام خالد بملل : انا عارفة هي وش سوت ما يحتاج تقولي لي هذا الكلام
ابتسمت بغداد و وضعت كفّ جدتها على بطنها وهي تقول
: طيب لو قلت لك عشان هي كمان بتصير جدة ولدي ما بتحاولي تنسي كل الماضي وتفتحي صفحة جديدة
ثم تكلمت بصوت طفولي : عثان خاطري يا جدتي الكبيرة ، ها ؟

ابتسمت ام خالد واغروقت عيناها وهي تتخيل نفسها تحمل ابن بغداد بين يديها وحفيد ريم ، ابنة اختها التي لا زالت حيّة في قلبها
اخذت تستودع الله مافي بطنها وتدعو الله بكل رجاء أن يحفظه ويقرّ عينهم برؤيته
ثم سألتها : زوجك ما بيجي اللحين ؟
خرجت تنهيدة عميقة من بغداد دون أن تنتبه لها ، لكن جدتها كانت مركّزة تماما وانتبهت للوجع الذي خرج مع هذه التنهيدة
قالت لها بغداد با ابتسامة تخفي تحتها جرح غائر لم يندمل بعد : أكيد قبل شوية خرج من الجامعة ورايح على البيت ، يمكن يجي بعد العِشا

قالت هذا الكلام وهي تتوقع أن جدتها ستكون قد غادرت بحلول هذا الوقت
لكن جدتها بقيت التنهيدة هذه في عقلها رغم انها تجاوزت سؤالها عندما شعرت أن بغداد لن تتكلم ابداً لو سألتها وأخذت تتحدث معها في أمور أخرى
لكنها كانت تشتم في داخلها ، صفاء وَ ابنها ..




**

رواية الــسَــلامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن