الفصل الثالث والعشرون

124 3 0
                                    





[ الفصل الثالث والعشرون ]


مثل عادته ، كان يجلس على مكتبه وفي يده مسودة كبيرة يخطّ بها بعض أفكاره ونتائج بحثـه ..
و في جانب المكتب الأيمن كوب يتصاعد منه بخار الشاي الساخن ..

ومن الممكن أن يظل هذا الكوب على حاله لا يمسّ إذا انغمس في بحثه ، كما هو حاله الآن ..
كان يكتب بكل تركيز أول الصفحات التي يريدها في كتابه ..

( الدولة الأموية كانت أكبر دولة إسلامية في عهدها ، تحديداً في عهد الخليفة الأموي العاشر هشام بن عبدالملك المتوفي سنة 125
بلغت الدولة الإسلامية أقصى اتساع لها على الإطلاق ، اتساع لم تبلغه دولة إسلامية بعدها .
في التاريخ الإسلامي ظهرت العديد من الدول مثل الدولة العثمانية التي كانت دولة تركية إسلامية
كانت الكلمة الأولى فيها للجنس التركي ، وأيضاً كان لباقي القوميات الإسلامية شأنٌ بها
وأيضاً الدولة الأيوبية كانت دولة كردية إسلامية الكلمة الأولى بها للمسلمين الأكراد ثم لباقي القوميات الإسلامية
ودولة المرابطين ودولة الموحّدين كان الأمر الأول والأخير كان للمسلمين البربر
وكانت لباقي القوميات الإسلامية كلمة بعد إخوانهم البربر في هاتين الدولتين الإسلاميتين
بمعنى أن كل جنس مسلم يؤسس دولة تكون الكلمة الأولى لهذا الجنس ثم بعد ذلك لمن معهم من الأجناس الإسلامية الأخرى .

ولكن وعلى الرغم من قيام الكثير من الدول الإسلامية ذات المنشأة العربي مثل الدولة العباسية
ودولة الأمويين في الأندلس التي أسسها عبدالرحمن الداخل وغيرها من دول منشأها عربي
إلّا أن هذه الدول وإن كان العرب بها الكلمة الأولى إلّا أن باقي القوميات المسلمة أيضاً كان لها الدور البارز في وقت من الأوقات

ولكـن وحدها الدولة الأموية ، هذه الدولة الإسلامية الكبيرة ، كانت ذات طابع عربي صِرف
بل أستطيع أن أقول بأنها دولة العرب المسلمين
وسوف نرى هذه النزعة العربية الواضحة التي أتسم بها تاريخ الدولة الأموية . )

أضاف نقطة على السطر ، ثم نظر بتركيز إلى ما خطّه قلمه ..
بعض زملائه يصفونه بأنه عنصري متطرّف لبني جنسه العرب ..
وما يعزز هذا الكلام ميله الواضح لتاريخ الدولة الأموية وبحثه المتعمّق فيها التي كانت عربية بامتياز ..

وهو بكل صراحة لا ينكر هذا الامر ..
وربما ينقم بعض الشيء على خالد زوج والدته بسبب تسمية ابنته البكر بإسم بغداد ..
نسبة إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية ..

هو لا يرى الدولة العباسية دولة عظيمة ، فكيف يفكر زوج والدته بل ويشطح في تفكيره كما يقال ..
ويسمي ابنته الغالية بهذا الإسم ؟ !

أسباب عدم ميله للدولة العباسية وإنحيازه الكامل للدولة الأموية كــثيــــرة ..
من ضمن الأسباب وهذا السبب بالذات يثير حنقه أن أغلب الخلفاء العباسيين لم تكن امهاتهم عربيات ، بل كن أعاجم !
كيف لدولة كبيرة حكمت العالم فترة طويلة مثل الدولة العباسية لم يكن خلفائها عرب مائة بالمائة !

عربي عنصري متطرّف ، نعم يعترف بهذه التهم ، ولا بأس لديه أن ينعته أي شخص بهذه الأوصاف ..

نظر إلى الساعة ، كانت تشير إلى السادسة مساءً ..
نظر إلى أوراقه ، ثم نظر إلى الساعة مرة أخرى وهو يشعر بالحيرة والغرابة ..
وتفكيره في بغداد الحقيقية التي دخلت إلى غرفة نومهم بحجة أخذ قسطاً من الراحة منذ وقتٍ طويل ولم تخرج حتى الآن ..

قام من كرسيه متوجّه إليها وهو لتوّه يشعر أن هنالك أمر غير طبيعي فيها هذه الأيام ، واليوم بالذات ..
كانت هادئة على غير العادة ..
فمنذ أن ركبت معه في السيارة حتى وصولهم إلى المنزل وتناولهم وجبة الغداء التي اشتراها ، كان الصمت يلفّهم ..


دخل إلى الغرفة المظلمة بفعل الستارة العازلة ، رغم أن الشمس ما زال ضوئها الخافت ينير السماء ..
اقترب من السرير حتى جلس على ركبتيه بجانبها ..
فتح الإنارة التي بجانب السرير وعقد حاجبيه بخفة عندما رأى عيناها المغمضة تتحرك ..
سألها بهمس : صاحية ؟ !

لم ترد عليه سوى بهمهمة وهي تضم اللحاف إلى صدرها أكثر ..
نظر إلى شعرها القصير المبعثر حولها ..
ثم إلى وجهها الشاحب على غير العادة ..

وضع يده على شعرها ومسح عليه بهدوء وهو ينادي عليها ..

لم تكن نبرته الحنونة العفوية وهو ينادي على اسمها ما جعلها تتأثّر ..
بل كانت لمسته الدافئة على شعرها وجانب وجهها ..

سمعت نبرته تتغير للخوف وهو يسألها : ليش تبكي ؟
في نفس الوقت الذي شعرت برطوبة على خدها ..
اعتدلت جالسة و مسحت خدها بسرعة وهي منزعجة ، أصبحت دموعها تنزل بدون أن تشعر عند أدنى اهتزاز لمشاعرها ..

نظرت إليه ، كانت عيناه تنظر لها باهتمام وقلق ..
لا تزييف في ذلك ..
مثلما كانت نظرته قبل عدة أيام تحمل الرفض بدون تزييف ..
ومثلما كانت نبرة صوته مهتمة بشدة قبل عدة ساعات ..
وهو يتكلم مع والدته في السيارة بكل أريحية أمامها عن موضوع صقر و وجدان ..

وهذا الأمر الأخير هو ما جعلها تدخل في نوبة احباط جنونية فور أن دخلت إلى سريرها ..
كانت تبكي وتفكيرها محصور في أن فارس مهتم جداً بموضوع صقر ويتناقش نقاش مطوّل في هذا الموضوع ..
و هو الذي يتشدق دائماً أنه لا يحب التدخل في شؤون الاخرين ..

والنتيجة التي خرجت بها أن فارس مهتم بالموضوع بسبب أن وجدان طرف فيه ..

عاد لها بعد ذلك الشعور الغريب الذي شعرت به في أول أيام زواجها ..
شعور الـــــغيـرة من وجدان ، القريبة الوحيدة لفارس وليست من محارمه ..
والتي فيما يبدو أن فارس يهتم لأمرها اهتمام من نوع خاص ..

كان فارس ينظر إليها وهو يشعر بالحيـــــــــــــــــــر ة ..
بوده أن يدخل إلى داخل رأسها ويعلم ما بها ، و ما سرّ هذه الدموع التي هطلت فجأةً ..

بشكل فطري أو عفوي ،جلس إلى جانبها على السرير و ضمّها إليه وهو يهمس : بسم الله عليكِ ، اشبك ؟
ربت على ظهرها وكتفها قليلاً قبل أن يبعدها عنه بخفة وهو يسألها باهتمام : بغداد بإيش حاسّة ؟

كانت تشعر بالاطمئنان بقربه ، رغم أن كل المشاعر والأفكار السلبية هو من تسبب بها ..
عندما سألها المرة الأولى لم ترد عليه ..
لكنه عندما أبعدها ونظر في عينيها باهتمام ، اشاحت بنظرها عنه وهي تعيد رأسها على صدره ..
وتقول بصوت مرهق : تعبانة شويه ، ومتضايقة

زفر بحيرة ..
ما هذه الإجابة المعقدة التي يصعب تحليلها ..
سألها مرة أخرى : قرأتي أذكار المساء ، الوقت هذا تتفلّت فيه الشياطين ؟

بغداد باختصار : إيوه

ظلّا على هذا الوضع لعدة دقائق ، هي تشعر بالهدوء وهي تستمع إلى صوت نبضات قلبه ..
أما هو فكان يفكر بكل تركيـــــز محاولاً أن يعلم ما خطبها فعلاً ..
هذه النسخة من بغداد غريبة عليه ولا يستطيع فهمها ..
نعم هي رقيقة وتبكي تأثراً في بعض المواقف بعض الأحيان ، ولكنها لم تبكي بسبب أنها متعبة أو تشعر بالضيق !

قال لها بهدوء بعد أن فكر بحل سريع لهذه المشكلة
: إيش رايك نخرج نتقهوى برى ، منها تتنشطي شويه وتغيري جو

كان هذا بمثابة الحل السحري لبغداد ، تودّ فعلاً أن تخرج من جو المنزل ..
ربما لو شاهدت الناس تنشغل قليلاً عن التفكير في وضعها ..

وافقت بسرعة ، وقالت وهي تقوم من مكانها : باخذ لي ربع ساعة كذا ، ما بطول ..
فارس : عادي خذي راحتك شويه ، بعد صلاة المغرب بنخرج ..

عندما دخلت إلى دورة المياه ، قام من مكانه وخرج إلى الصالة ..
فتح هاتفه ودخل إلى محرك البحث ، تردد قليلاً قبل أن يكتب ما يريد وهو يشعر بالحرج ..

هو بطبيعة عمله باحث ، مهمته البحث والتنقيب عن كل ما يصعب عليه فهمه ..
و وضع زوجته قبل قليل و هذا التحول المفاجئ في شخصيتها يستدعي البحث في أمره ..








:









تأثير الخروج من المنزل انعكس عليها بشكل ايجابي ..

كان المقهى الذي يجلسون فيه حالياً بجانب منزلهم ..
وعلى الرغم من أنه ذا شعبية كبيرة إلّا أنه بسبب أن اليوم في منتصف الاسبوع ..
كان المقهى هادئ نوعاً ما ..

كانو يجلسون على أحد الطاولات في الجلسات الخارجية في الطابق العلوي ..
ويتأملون بصمت من الأعلى السيارات التي تمر أمامهم ..

هي من خلف النقاب كانت تنظر إليه نظرات ثاقبة ..
الكثير والكثير من الأسئلة التي تريد توجيهها لشخصه الغامض ..
لكن السؤال الذي يتربع على عرش هذه الأسئلة هو ما استجمعت بعض الشجاعة لتسأله بكل هدوء
: فارس بسألك سؤال إيش معنى قررت تخطبني أنا ؟

كاد أن يشرق بكوب الكابتشينو الذي كان يشرب منه
بُهت بسبب سؤالها الواضح المباشر بدون أي مقدمات : عفواً ؟

وضع الكوب على الطاولة وهو يسمعها تعيد السؤال عليه مرة ثانية ..
حاول أن يتنفس بهدوء ولا إرادياً كسى وجهه الجمود والجدية ..
رغم أن نبضات قلبه السريعة تكاد تفضح توتره ، قال لها : ما فهمت معنى سؤالك ؟

أصاب بغداد بعض الإرتباك من الجدية التي تكلم فارس بها ، قالت له بشيء من التردد
: يعني جاني فضول أعرف
يعني ما كان فيه بنت في بالك من قبل
أو يعني ما فكرت إنك تخطب من قبلي أي بنت وما اتيسر لك الموضوع

كانت تودّ أن تسأله بكل صراحة ألم تفكر في خطبة وجدان من قبل ، لكنها لم تجد الشجاعة الكافية لذلك ..

استغرب فارس هذا السؤال ، واستغرابه الأكبر كان من أسلوبها ..
الواضح فيه التردد والمُراوغة ..
لكن لماذا ؟
ما سبب سؤالها له فجأة إذا كان يوجد في عقله امرأة أخرى غيرها ..

هل يمكن أن تغيّر هرموناتها هذه الفترة هو السبب !
هذا كان نتيجة بحثه ، أن معظم الإناث غير تعب الجسم وتشنجات البطن وما إلى ذلك ..
يصيبهم بعض التغيّر في المزاج مثل الاكتئاب والعصبية الغير مبررة ..

ورغم أنه لم يفهم الأمر بشكل جيد ، وكيف من الممكن أن تتغيّر هذه الهرمونات ..
قرر في وقتها أن يبحث عن الأمر فيما بعد بشكل موسّع ..
فإذا كان هذا الأمر سيكون بشكل شهري ، لابد أن يكون مستعد له ..

أجاب باختصار : لأ

سألته بغداد بعدم فهم : إيش هو اللي لأ
فارس : جواب سؤالك ، لأ

شعرت بالإنزعاج قليلاً لهذا الجواب المتكون من حرفين فقط ..
للأسف أنه بخيل في التوضيح والإسهاب ..

إنزعاجها هذا جعلها تتجرّأ وتقول له : لمن كنت تتكلم مع ماما ، حسيتك بالمرره مهتم بموضوع صقر
استغربت صراحة
ما أحسك تهتم بهذه المواضيع
يعني ما شفتك مهتم بموضوع طارق مع إنو ماما بالمرره كانت مو راضيه
و إقناعها إنها توافق ولو من ورى قلبها ما كان سهل

نظر إليها وهو يحاول أن يستوعب تغيّر الموضوع بشكل سريع ..
ربما لو أنه يتكلم مع نور لم يكن ليدقق ..
لكنها بغداد ، أو بالأصح ، النسخة الغريبة من بغداد ..

عندما بحث في موضوع تغيّر الهرمونات لم يصدقه ، أو بالأدق لم يقتنع به ..
لكن فيما يبدو أن الأمر صحيح ولا تشوبه شائبة ، فكّر بكل بجدية أنه من المهم فعلاً دراسة الموضوع دراسة عميقة ..

نظر إليها وهو يتذكر أن أساس موافقة والدته على خطبة طارق أنه اختارها هي لتكون أسلوب ضغط على والدته ..
وفي التو واللحظة يشعر أنه بالفعل كان لؤماً منه قوله بكل تبجح أنه سينهي خطبته لها إذا لم توافق والدته ..

ولأول مرة يشعر أن بغداد لم تستحق هذا الكلام الذي قيل بكل استخفاف من خلف ظهرها ..

رغم كل هذه الأفكار التي تضجّ في عقله ، إلّا أنه جاوبها بهدوء
: طارق إنسان عاقل والواحد ما بيشكّ في صحة قرارته لكن صقر
وسكت قليلاً قبل أن يكمل : بصراحة مو واثق فيه ذيك الثقة

كلامه أوقد نار الغيرة في صدرها التي هي مشتعلة من الأساس : وليش يعني ؟ عشان خطب وجدان
فارس بكل بساطة : إيوه
زفرت بهدوء رغم أن انفاسها خرجت متقطعة لشدة إنفعالها داخلياً : ليش أحس إنك مهتم بزيادة بالموضوع ؟

نظر إليها باستغراب وهو يسمع هذا الكلام منها للمرة الثانية : طبيعي إني بهتم بزيادة
بغض النظر عن الأسباب اللي اشوف فيها إن صقر لسى مو مؤهل إنه يتزوج
بس موضوع إنه يبغى يخطب وجدان شيّ ثاني

حاولت أن تتكلم بهدوء لكن نبرة صوتها خرجت حادة قليلاً : وليش شي ثاني يعني ؟

فارس باستغراب : غريبة إن هذا السؤال يخرج منك انتي !

بغداد بحدة : تشوف يعني إنو ما يحق لي اسأل هذا السؤال ؟

نظر إليها وهو يفكر هي ليست طبيعية ابداً ..
ماهذه الاسئلة الغريبة والنبرة الحادة المُصاحبة لها وكأنها تُحقق معه ..
خشي أن أي كلام يخرج منه سيجعلها مستاءة أكثر ..
نعم شعر أن هنالك ما يزعجها في موضوع خطبة صقر ولكنه لا يدري ما هو ..

قال لها بهدوء وهو ينوي أن يوضح موقفه الكامل إزاء هذا الموضوع ربما تهدئ قليلاً
: قبل ما أجاوبك على سؤالك ، لمن سمعتي نور تتكلم في موضوع الخطبة هذا ايش اللي جا في بالك

" إن اهتمامك بالموضوع مو طبيعي لأن وجدان طرف فيه "
من المستحيل ان تخبره بهذا الكلام ، لكن هذا ما هو مستحوذ على عقلها

حاولت أن تبعد هذا التفكير عنها وتفكر في الأمر بجدية وحياد
بعد القليل من التفكير ، تذكرت ما شعرت به فعلاً أول ما سمعت بهذا الموضوع
قالت له : حسيت إن فيه شيّ غريب

فارس بترقب : صح ؟
تحسّي الموضوع مو راكب على بعضه ؟

لم تحب أن تخبره بكلام صقر السابق عن وجدان ، هي لا تحب أن تتكلم عن النساء بوجود أي رجل
فَ كيف إذا كان هذا الرجل زوجها : الموضوع مو راكب لأنه صقر ، لو إن طارق اللي خطبها كان ممكن نفكر إن الموضوع عادي

وافقها فارس سريعاً : بالضبط ، هذا تفكيري

نظرت إليه بعيون متسعــــة مُستغربة
كانت فعلاً فاغرة فاها وهي تفكر في إجابته السريعة الغير متوقعة
أليس من المفترض أن يرفض أن وجدان تخطب لأي رجل إذا كان يكنّ لها بعض المشاعر ؟ !
قالت بتردد : يعني ما عندك مشكلة لو إنو طارق خطبها

شعر أن سؤالها مبطّن بسؤال اخر لكنها اليوم كاللغز الذي لا يستطيع حلّه : ما ادري إذا فهمت قصدك أو لأ
بس إيوه يعني ، إذا البنت بيتزوجها طارق أو أي رجال غيره يكون عاقل وثقة ليش لأ
أصلاً جدتي من جد يعني كم مرة تقول لي إنو وجدان تنخطب اكثر من مرة بس هي ترفض
ويجي صقر يخطبها كذا فجأة ، الموضوع غريب ، ويخلّي الواحد يشكّ فيه

قالت بدون مُبالاة مُصطنعة وهي ترمي أخر شكوكها تجاهه : ممكن صقر يحبها

هذه المرة كانت الدهشة من نصيب فارس الذي ردد أخر كلمة بعدم تصديق : يحبها ؟ !
وعقد حاجبيه بحيرة : ما خطر على بالي هذا التفكير

وأخذ يفكر بجدية في هذا الخَيار ، رغم أنه يشك بسبب طبيعة أخيه ..
ليس من النوع الحساس أو رقيق العواطف ..
يشكّ في هذا الأمر ، ولكن من يدري ..

بغداد كانت تنظر إليه متفحّصة وجهه باهتمام وتركيز ..
لا يوجد ما يدلّ أنه انزعج لفكرة أن صقر يحب وجدان ، أو أن طارق قد يكون الأجدر لخطبة وجدان من صقر ..
هل من المعقول أن تفكيرها كان خاطئ من البداية ؟
ولكن اهتمام فارس بوجدان حقيقي !

تبددت شكوكها بالكامل عندما قال لها فارس بصدق : ممكن نحنا نكون كلنا مبالغين بتفكيرنا
ويكون صقر فعلاً بس يبغى يخطب وجدان بشكل عادي وطبيعي ويشوف إنها بنت خالتنا وهو أولى فيها
لكـــــــن وأنا قلت هذا الكلام لأمي ، إن صقر بكل فوضى كذا يتكلم وهو مو متوظف ولسى ياخذ المصروف من أبوه
هذا شيء أنا أشوفه مجازفة وعدم مسؤولية
كيف يفكر إنه يخلي بنت على ذمته وهو لسى ما يكسب دخله الخاص بنفسه
غير إن البنت يتيمة وخالتي الله يهديها ما تدري وين ربي حاطها ، ما همها إلّا نفسهـــــــا
أكيد البنت تفكر إنها تبغى تتزوج رجال يعوضها عن نقص الاهتمام اللي عاشته

كلامه لا غبار عليه ، لكن عندما قال كلامه الأخير شعرت ببعض الغيرة
قالت بدون أن تُحاسب على كلامها : تتكلم عنها كأنك متأكد إن هذا تفكيرها

فارس : مو متأكد ، بس حاسس بيها

بغداد وشعور الغيرة الذي متلبّسها اليوم بشكل كامل ارتـــــــــــــــفع مؤشّره لأعلى درجة
لكن هذه المرة بدون إحساس الضيق الذي كان مُصاحب له
قالت بهدوء صريح لأبعد درجة : ممكن ما تتكلم عنها كذا

نظر إليها فارس بعدم فهم
ما جعلها تقبض على كفيها التي فوق الطاولة وتعترف اخيراً : طبيعي اني بغار لمن تقول إنك حاسس بيها
في النهاية هي بنت خالتك مو اختك عشان تتكلم عنها بالأريحية هذه

فارس بدهشة : تغــــــــــــــــــاري !

نظر إليها بعيون متسعة وهو يسترجع كل ما قيل في هذه الجلسة ..
هل كان اسلوبها الغريب ناتج عن شعورها بالغيرة ..
حاول أن يتذكر ما قاله قبل قليل ..
لم يفكر كثيراً في كلامه لأنه قاله بطبيعية ، لكنه يريد أن يسترجع كل ما حدث بصورة دقيقة ..

تغــــــــــار عليه !
الغيرة هي من أقدم المشاعر على وجه الكرة الأرضية ..
ويصفونها دوماً أنها مشاعر موجعة للقلب ..
إذا لماذا يشعر أنه قلبه يرفرف فرِحاً لقولها بكل صراحة وبساطة أنها تغار عليه ..

تغار عليه إذاً هو شخص مهم جداً لديها ، ولا تريده أن يفكر باهتمام في أي أنثى سواها ..
هذه الفكرة جعلته الإبتسامة لا تتزحزح عن شفتيه ما تبقى من مساء ذلك اليوم ..










**







يوم الخميس ، صباحاً /*


كانت تقف بكامل حجابها وبجانبها اخيها الصغير محمد ..
تنظر بتركيز شديد إلى العمال الذين ينسّقون صالة الشاليه التي استئجرته اليوم من أجل حفلة ملكتها التي ستقام الليلة ..

عندما أحسّت أن العمل قد شارف على الإنتهاء ..
أخبرت اخيها بهمس أنها ستدخل إلى داخل أحد الغرف لكي ترتاح قليلاً ..

واخيها الذي كان يعدّ نفسه رجل البيت ، كان حانق قليلاً من وقوفها بجانبه وكأنها لا تثق بوجوده لوحده مع العمال
قال لها بضيق : طيب روحي وخلاص لا تخرجي إلّا لمن يخلصوا

نظرت إليه العنود وهي ملاحظة حنقه الواضح لكنها لم تعلق و مشت متجهه إلى الغرفة الواسعة ..
التي ستكون غرفة تجهيزها فيما بعد ..
بينما هو كان ينظر إليها ولا يستطيع تحديد مشاعره تجاه هذه الاخت البعيدة دائماً روحاً قبل أن تكون بعيدة جسداً ..

أخرج هاتفه من جيب ثوبه الذي صدح بنغمة الرنين وردّ على اخته الكبرى ..
التي لا تنفكّ أن تتصل عليه كل نصف ساعة تتأكّد أن كل شيء يسير على ما يرام ..

قال لها بملل قبل أن تنطق بحرف : خلاص العمال بيخلصوا شغلهم بعد شويه
سألته بيان بلهفة : وكيف طيب شغلهم ؟

نظر محمد إلى تنسيقات الورد الفائقة الروعة و قال باختصار : تمام
بيان وهي تحاول أن تجعله يفصّل قليلاً : إيوة يعني حلو ؟ يجنن ؟

أعاد محمد الكلمة وهو لا يفهم لماذا جاءت الشركة من الأساس ونثرت الورد هنا وهناك
كان شكل المكان أنظف بدونها : قلت لك تمام

وصلته تنهيدة بيان المتحمّسة قبل أن تقول : ياربييييه يا برودك ، صوّري لي طيب المكان كيف صار

قال لها وهو يحاول بكل جِد واجتهاد أن يركّز في العمل النهائي
فهو قد رأى النتيجة النهائية المفترضة من الصور
ومما فهمه فلابد أن تكون الصورة وما يراه أمامه متطابقين : طيب ، يلا أنا بقفل مع السلامة

أغلق هاتفه وبعد أن أخذ جوله في المكان ويطابق الصور التي في هاتفه وفيما يراه أمامه ..
ذهب إلى المطبخ التحضيري وأخرج من الثلاجة بعض قوارير الماء الباردة ..
وأخذ يوزعها على العمال الذين فرحوا بمبادرته اللطيفة ..

بقيت قارورة ماء واحدة تردد في شربها قبل أن يحزم أمره ويتوجه إلى جهة الغرف الداخلية ..
دق الباب ولم ينتظر إذ أن شقيقته فتحت له الباب فوراً بعد أن تأكدت من هويته ..

دخل إلى داخل الغرفة وهو يريها بعض الصور التي ألتقطها
قالت العنود وهي نتظر إلى الصور بتمعّن : ممتاز ، اتأكد بس إن الكوشة زي الصورة بالزبط ، وأتوقع بعد كذا ما بقي شي

خرجت منه زفرة إرتياح مكتومة ..
فقط أطبقت العنود على أنفاسه منذ الصباح الباكر بتدقيقها الزائد في كل شيء ..
أعطاها قارورة الماء وقبلتها منه شاكرة ..

نظر إليها وهي تشرب من القارورة بكل اناقة ..
كانت لديه فكرة عندما كان أصغر في السن ..
وهي أن العنود ليست اختهم حقيقة بل هي فتاة وجدها والده المرحوم عند المسجد ..

بسبب أنها جميلة جداً ولا تشبههم ، غير أنها مرتبة على الدوام ليست كَ بيان مثلاً ..
استمر هذا الاعتقاد معه حتى رأى ذات مرة صورة قديمة لوالدته عندما كانت شابة ..
كان هناك بعض الشبه بينها وبين العنود ما جعله يصدق انها اخته بوجود هذا الدليل ..

سألها سؤال خطر في باله في هذه اللحظة : دحين لو اتزوجتي ، بتعيشي في جدة خلاص إلى الأبد ؟

كانت هي اليوم سعيدة جداً أن خطتها التي كانت ترى أنها طويلة المدى، بدأت ترسم خطوط نهايتها
ومع سعادتها و ارتياحها ، جمودها الذي دائماً تلتفّ به بقوة خففت من شدّته قليلاً بدون أن تشعر
قالت له بِ ابتسامة صغيرة : إيوة

محمد والذي كان ينظر إلى موضع قدمه ، قال : يعني ما بتعيشي في مكة ابداً

نظرت العنود إلى وجه اخيها بتدقيق لأول مرة ..
ولتوّها تنتبه إلى شعرات الشنب التي بدأت تظهر على استحياء ..
و تركز أن صوته قد تغيّر قليلاً ، نظرت إليه بدهشة طفيفة ، متى كبر هذا الطفل الصغير ..

ولا تدري لماذا جاءتها رغبة غريبة في أن تجعله يطمئن عليها
: جدة قريبة مرره من مكة ، يعني ان شاء الله اقدر ازوكم دايماً

وسكتت قليلاً قبل أن تقول : أنا ما ازوركم دحين كثير لأني أدرس في الجامعة ، إذا خلصت أقدر ازوركم كثير

نظر إليها بصمت معنى كلامها أنها لن تعود لتعيش معهم في نفس المكان ابداً
خرج من الغرفة وهو يقول : بروح اشوف العمال

نظرت العنود إلى الباب الذي خرج منه اخيها ، جلست لدقائق على السرير تفكر في كل الأمور التي تريد فعلها اليوم ..
ثم قامت من مكانها إلى الدولاب الموجود في زواية الغرفة ..

فتحته ونظرت بسعادة إلى فستانها الذي اختارت لونه وموديله بعناية فائقة
لمست قماشه بنعومة وقالت برجاء : يارب ، يارب يعدّي اليوم على خير



**

رواية الــسَــلامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن