مذكرات العقد الاخير : التحول6

36 5 1
                                    

كانت الدراسة من اكبر المعضلات انذاك في حياتي .
اذا تمعنت مليا في المستقبل ، ستدرك بأنك تضيع اثني عشر سنة من حياتك في الهباء .ذلك ما اراه من خلال ابناء الحي الذين خيرو مقاطعة العلم و ذهبو لتعلم الصنائع حتى يجلبو المال ..و لا اخفيكم سرا انني صارحت والداي اكثر من مرة برغبتي الشديدة في ان اغادر مقاعد الدراسة و اذهب للعمل بدوام كامل مع اترابي . و لئن كان ابي كعادته صامتا في كل مرة يسمع رجائي ، الا ان والدتي دائما ما ترفض ذلك بشدة و تتعلل بأنني اذا سلكت نفس درب هؤلاء ، سأصبح منحرفا مثلهم و ستضيع قيمتي و هويتي و سألطخ سمعة العائلة و ازعزع استقراريتها .
لم تكن والدتي خبيرة في النصح و الارشاد ، كانت تقول كلمات تسمعها في برامج التلفاز على لسان اولئك المنكوبين الذين يتلون قصص حياتهم مع عالم الجريمة و العصابات ..هي فقط كانت تريد التكلم كثيرا حول الامر و لكن لم تملك الادوات المناسبة لترتيب افكارها ، و لأنها امي فأنا حتما ادرك افكارها و ما تصبو اليه ..لانها امي .
و لكن ما لا ادركه الان ، يوم الجمعة على الساعة الثالثة زوالا هو وجودي في هذه المكتبة العمومية التي لم تكن لتمثل و لو لوهلة واحدة موقفي الحقيقي تجاه الدراسة .و لكن ها انا ذا برفقتها !.
كان من المفترض ان ادرس معها الكيمياء ذلك اليوم ، و لكنني ظللت احدق في ما تفعله ، طقوس اعدادها لمراجع المادة ، تركيزها الكلي على مراجعة التدوينات على المسودات ، الاقلام المتداولة بين اصابع يديها ، تسطير المسألة و تلوين المصطلحات المفتاحية ، ثم تعيد الكرة مع كل صفحة و كل مسودة منعزلة كليا على العالم الخارجي بما فيه انا ، انا الفتى الغريب الذي يشاهد ما تصنعه هي في هدوء دون احداث شوشرة او تعكير صفو طقوس هؤلاء النجباء .ثم تستدير هي : هل حللت المسألة؟
= عذرا ؟
- المسألة
= فهمت (صوبت عيناي نحو صفحة الكتاب المفتوح امامي ) ، انها صعبة بحق .(لم اركز حتى في قرائتها)
- لا عليك ، ساهاتف "هيام" .
= هيام ؟
- صديقتي و زميلتنا في الفصل .
= حقا ؟
كانت تتبتسم و هي تقوم بإدخال رقم صديقتها الخلوي مكررة تمتمتها حول درجة تركيزي المتدنية ..و ما لم تعرفه هي حقا انها في تلك اللحظة التي ضغطت فيها على زر الاتصال كانت قد ارتفعت بمستوى ادراكي بالمحيط الحسي و المادي بي لدرجة انني سأفقد العنان لنفسي عندما ارى تلك الفتاة القادمة .."هيام" تلك الفتاة التي قابلتها لاول مرة في المكتبة العمومية يوم الجمعة ،التاسع عشر من سبتمبر في سنة الفين و اربع عشر ، على الساعة الثالثة و نصف زوالا ..لقد كانت أول حب في حياتي .

مذكرات العقد الاخير .حيث تعيش القصص. اكتشف الآن