مذكرات العقد الاخير : منعرج

33 4 1
                                    

" قم للمعلم و وفه التبجيل ، كاد المعلم ان يكون رسولا" ..مقولة لا تنطبق على المكان الذي اتيت انا منه، على الاقل في تجربتي الخاصة التي ارويها لكم .
جلي جدا ان جيلنا كان اسوأ من سابقيه ، و ما يلينا سيكون اسوأ منا و هكذا تواليا حتى يفقد المعلم ضميره المهني بصفة كلية و حتى تنعدم اخلاق هؤلاء الصبية الجالسين على مقاعد الدراسة .
تسيطر الرأسمالية على هذا العالم ، و لكن نادرا ما تلاحظها في الدول المتقدمة، اما في الدول النامية فإنها حتما متفشية على العلن ، في الحكومات ،في الادارات في العلاقات الاجتماعية ..
كانت من الاوقات الساخرة و المثيرة للشفقة ان ندرس مواد مثل التاريخ و الجغرافيا يسرد فيها هؤلاء المدرسون مضار الانظمة الرأسمالية و دورهم في تأخر الدول و الشعوب ، و لكنهم في نفس الوقت يبيعون ضميرهم المهني في شاكلة الاختبارات التي يمررونها سرا للطلبة الذين يرتادون حصص تداركهم المدفوعة الاجر .
تصرفات قذرة و جشعة تخلق طبقية و فوارق ما بين الطلاب في معدلاتهم على حسب رتبهم الاجتماعية ، الفتى الغني يحصل على الاختبار قبل ان يجتازه ؤ و يتوجب على الفقير الدراسة بجهد اكثر حتى يحقق التوازن و المنافسة بين جميع الطبقات .
من بين هؤلاء الرأسماليين الجشعين ،كان ذلك الوغد الذي يدرسنا العلوم التقنية  ،المادة الاهم في شعبتنا ،ذلك الاستاذ " شكري" و لا يصح عليه وصف "الاستاذ" لكن  سنسمي الامور بمسمياتها .
كان ذلك الكهل الحقير يدرسنا مناهج خارج برنامج الاختبارات ، يوهمنا بمدى اهميتها ..و من ثم يمرر ما سيحرره في اختباراته لمدلليه الذين يدفعون اليه المال في منزله .
و لأنني لم املك المال صحيح ، كنت املك صفاء بالمقابل ، بالفعل قد اخبرتني و منحتني ما قدمه لها الاستاذ من معطيات حول الاختبار النزيه المزعوم .
لم ازاول دروس التدارك لدى النذل المدعو "شكري" و لكنني تحصلت على علامة ممتازة جدا ، كنت اراها على ملامحه قبل ان يمنحني ورقة الاختبار بعد تصحيحها ، كان يستشيط حقدا لأنني لم ادفع مقابل تلك العلامة ، و لهذا تحول الامر لضغينة شخصية لا استطيع تفسيرها الى حد هذه اللحظة ..بمختصر الامر كان ذلك الحقير يمقتني بشدة و يتمنى تحطيمي بأي وسيلة ممكنة ..
و بالفعل بدأ المدعو شكري بإستفزاي بطريقة غير مباشرة ..كان ينتظر اقل حركة تصدر مني داخل القاعة حتى يطردني انا و كل من تحصل على علامات ممتازة دون الدفع في ذلك الصف ..كان يتجاهل اسمائنا حتى في دفتر الحضور و كأنه يخبرنا بأننا غير مرحب بنا بتاتا .
ذات مرة في حصة العلوم التقنية ، كنت جالسا في صمت و حذر شديد من ذلك الشخص حتى لا يمسك علي علة للاقصاء من الفصل ..و لكنه قد قرر بالفعل انه لن يصبر علينا اكثر من ذلك عندما صاح :" انتم الاربعة(يشير الينا ) غادرو الصف حالا(يصرخ بحقد) "..
- ماذا فعلنا حتى تطردنا (رد عليه احد الزملاء)
= انتم تعيقون سير الحصة .
- لم نفعل اي شيئ انت تتبلى علينا ( كان احد زملائي يتكلم بحدة معه)
حينها وقع الفتى الجالس حذوي في فخ ذلك الحقير الذي بدأ في التمثيل اننا قللنا من احترامه و تهكمنا على مكانته المهنية ، فظل ينظر للطلاب الاخرين و هو يدعي الدهشة و الصدمة :" ارأيتم ، انهم مجموعة من البلطجية !".
بلطجية ؟ قلت ذلك في نفسي و انا في حالة احتقان و غليان من ذلك المعتوه و لكنني تمالكت نفسي حتى لا اقع في شباكه التي يكيدها لنا .
و لكن حزت في نفسي لقطة كريهة و حقيرة من ذلك الرجل الاحمق عندما كان في مشادة كلامية مع احد زملائي الذي خير عدم الرضوخ و التذلل له و ناقشه في كنف الاحترام ..عدا ان ذلك الوغد كان مستعدا للنزول الى مستنقع الخناظير حتى يحقق مبتغاه ، فوصف زميلي بالمنحرف مردفا : " امك لم تربيك جيدا " ..
و المؤسف هنا ان زميلي كان قد فقد والدته منذ اشهر مضت ، امر جعلني اشعر بالخزي و العار من هؤلاء الذين يسمون انفسهم معلمين و اساتذة ..لم اتحمل الامر في نهاية المطاف عندما رأيت ذلك.الفتى على وشك الانهيار و ذرف الدموع من الاهانة التي تلقاها ..حينها التفت لذلك المدعو " الاستاذ" و صحت قائلا : " عليك اللعنة ايها الوضيع" ..و طبعا لا حاجة لي في تذكيركم انني لم اقل تلك الكلمات ، بل اقتبستها في هذه المذكرات عوضا عن الكلمات الحقيقية التي نعته بها ، لقد لعنته باللهجة العامية و بكلمات اقل ما يقال عنها انها تليق بوضاعة ذلك الرجل الحقير..
و لأنني ارتكبت اكبر خطأ في ذلك العام الدراسي ، عرفت بأن منعرج حياتي قد بدأ..ايقنت حينها انني على وشك ان اطرد نهائيا من المعهد .

مذكرات العقد الاخير .حيث تعيش القصص. اكتشف الآن