دعكم من ترهات حياتي الشبابية الرومانسية في زمن المراهقة ..اتذكرون ذلك الاستاذ الحقير الذي منعني من ارتياد حصة العلوم التقنية طيلة العام؟
نسيت ان اخبركم ان هذه المادة بالذات هي اساس اختصاصي الان ، و كانت اكثر مادة مهمة في شعبة العلوم التقنية ، اتدرون لماذا ؟ لأن علامتها تكون ضارب ستة في علامة الاختبار الوطني ، اربعة ضارب الاختبار النظري و اثنان ضارب الاختبار التطبيقي ..
بالحديث عن الاختبار التطبيقي ، سأحدثكم عن افضل ذكرى لي في ذلك العام عندما قابلت احد افضل الشخصيات لحد هذه اللحظة ...
الاختبار التطبيقي عزيزي القارئ هو عبارة عن اشغال تطبيقية في اختصاصات مختلفة من مادة العلوم التقنية ، اما ان يكون اختبار في اختصاص الميكانيك او اختصاص الكهرباء ..و بالحديث عن هذان الاختصاصان كنت اجهل اي تفصيلة او معلومة حول الميكانيك بسبب ذلك الحقير الذي طردني من حصصه ، كانت الاشغال التطبيقية تدرس فقط داخل المعهد و ليس في اي مكان اخر حتى بالمال ..لهذا كنت اجهل اي معلومة عن ذاك الاختصاص و كانت حياتي عبارة عن مقامرة في ذلك الوقت ، اما ان ابدأ الاختبار الوطني بنجاح عن طريق الاشغال التطبيقية و اما ان افشل و احطم نفسيا قبل ان تبدأ الاختبارات النهائية حتى ..الكهرباء تعني لي النجاح و الميكانيك تعني لي الفشل .
و كان الامر مقامرة بالنسبة لي ، لأنه مقامرة بالمعنى الحرفي ، حيث يتم كتابة اختصاصات الاختبارات التطبيقية في قصاصات صغيرة تطوى و توضع في صندوق و يختار كل طالب قصاصة عشوائيا و من ثم يذهب لاجتياز الاختبار الذي اختاره ..
كنت في ذلك اليوم ادعو من كل قلبي ان اختار قصاصة الكهرباء بشتى اختباراتها لأنني املك خبرة عملية نتاجا لعملي كفني كهرباء احيانا في العطل الصيفية ..و كنت اتمنى ان لا تلمس يداي القصاصة التي ستؤدي الى هلاكي ..
و لأنني شخص تعيس الحظ في كل تفاصيل حياتي ، فلن يحالفني هو هذه المرة ، التقطت احدى القصاصات و انقبض قلبي معها ، كنت مؤمنا و بشدة ان الحياة لن تبتسم لي في ذلك الوقت ، و لهذا عندما فتحتها كنت قد ادركت ان الفشل يلوح فالافق ..نعم لقد كانت قصاصة اختبار ميكانيك كما توقعت ..
لأصدقكم القول ،كنت سأغادر دون اجتياز الاختبار اصلا، لأن وجودي هناك لم يكن له داع ، فأنا ذاهب لاقوم بتجارب ان لا اعلم عنها اي شيئ ، لا نظريا و لا تطبيقيا ..عدا انني اردت ان اذهب فقط لإكتشاف ماذا يخبئ لي القدر داخل تلك القاعة ..
عندما وصلت ، وجدت قاعة مليئة بالحواسيب و خالية من اي مستلزمات اخرى، ايقنت حينها ان الاختبار سيكون على احدى هذه الحواسيب ، ممتاز ، صحيح انني لن احل شيئا و لكنني سأدمر و انا في وضعية الجلوس ، لن اموت واقفا ..عدا ان القدر كان قد اخبرني ان لحظة موتي لم تحن بعد ..
دخل ذلك الرجل العظيم القاعة ..انه المراقب ، رجل نحيل و طويل يغطي الشيب رأسه و حاجباه و حتى لحيته الخفيفة ..قمحي البشرة و يرتدي نظارة شمس ..كنت اتذكره بجميع تفاصيله و سأتذكره مهما حييت .
كان اول لقاء بيننا عندما اقترب مني و انا واقف في حيرة من امري مالذي يتوجب علي فعله ، فقال :" صباح الخير بني "
- صباح الخير ، اجبته .
اجلسني على الكرسي امام الحاسوب الذي سأستعمله للإختبار . و من ثم ربت على كتفي قائلا :
= لا تخف و لا تقلق ..
و من ثم ابتسم لي و ذهب لجلب ورقة معطيات الاختبار و وضعها امامي مباشرة ..و عاد ليجلس على الكرسي المخصص له و هو يراقبنا .
قرأت ورقة الاختبار و لم افهم منها شيئا ، كانت مليئة بالمصطلحات التقنية التي لم اتعرض اليها في السابق ..جل ما فهمته من تلك المعطيات انني مطالب بتصميم مجسم ثلاثي الابعاد على برنامج الSolid Works بقياسات و ابعاد معينة .
و كان كل ما فعلته انني فتحت الحاسوب و ولجت الى البرنامج و ظللت اتأمل في الشاشة لدقائق و انا في حالة من التوهان و الحزن الشديد ..
لاحظ ذلك الرجل الوقور انني الطالب الوحيد الذي لم يبدأ في معالجة مسألة الاختبار ، فإقترب مني و منحني قطعة حلوى ..عندما التفت له كان يبتسم لي بالفعل و همس لي : "هل انت متوتر يا بني؟"
- سيدي هل يمكنني الخروج الان ؟ قلت له بلهجة انسان محطم نفسيا .
= لما؟ هل الاختبار الصعب ؟
- سيدي ، اسمي وسام ،انا الطالب الذي رفته الاستاذ شكري من حصة العلوم التقنية ..انا لا اعرف اي شيئا بخصوص هذا الاختبار ..فهلا خرجت رجاءا؟
صمت ذلك الرجل لبرهة قليلة و من ثم همس لي : امكث مكانك ،لا تقلق سنجد حلا .
لم اتوقع الكثير عندما سردت لذلك الاستاذ حقيقة جهلي بالاختبار بسبب ذلك الرجل الوضيع ..و لكن سبحان الله ..ذاك استاذ علوم تقنية و هذا استاذ علوم تقنية ، يتشاركان ذات المهنة و لكنهما متابينان في طباعهما ...ها هو القدر يجيبني و لكن هذه المرة بشاكلة مميزة لن انساها ..
لن انسى ابدا عندما غاب ذلك المراقب لدقائق ثم عاد ليمنحني ورقة كتبها هو بخط يديه فيها جميع التعليمات التي سأقوم من اجل تحقيق التصميم و اجتياز الاختبارات ..صدقوني كنت اقرأ و اطبق على لوحة المفاتيح و فمي مفتوح على اخره من السعادة و عيناي على وشك ذرف دموع الفرح ..حتى توصلت اخيرا الى المجسم و قمت بحفظه و استدرت نحو ذلك الانسان الطيب و اخبرته :" سيدي لقد انهيت الاختبار "
اقترب مني ذلك الرجل و ابتسم لي قائلا :" احسنت صنعا, يمكنك المغادرة الان" .
اتذكر في ذلك الوقت انني غادرت القاعة حينها و لكن ظللت واقفا امامها انظر الى ذلك الانسان الطيب و النقي الذي لم تغب عليه انسانيته و سمح لمشاعره ان تصلني بذاك التعامل الراقي و اللطيف ، ابتسامته ..قطعة الحلوى ..اصابعه على كتفي حتى يبعث في الطمئنينة ..ورقة المعطيات ..خاطر بمهنته من اجلي ..انقذني من الدمار ..كان اول شخص يعاملني بلطف دون مقابل ..سيدي العزيز ،لأنك سيدي ..سيدي "عثمان" انا الان في ذروة مسيرتي بسببك ، انا الان في المدينة الباردة اشعر بالدفئ بسببك ..سيدي عثمان لن انساك مهما حييت .
أنت تقرأ
مذكرات العقد الاخير .
Romanceانه انا من يحدثكم بمذكراته حول السنة الاصعب التي قضيتها في حياتي ، السنة الدراسية التي عهدت فيها الحب لأول مرة .