_كان كافيًا لعبدالرحمن يومًا أو اثنين للراحة المشوبة بالقلق والتفكير, ومن ثمّ البدء فيما عزم عليه.. وجّه المقيمات معه على ضرورة إنهاء مصالحهن فى القاهرة كى لا يحتاجن إلى العودة إليها بأىّ وسيلة..
_قرر أن يأخذ الصغيرة إلى المدرسة هذا اليوم لتوديع رفقاءها وسحب الأوراق الخاصة بها أو ليرى ان كانت المدرسة تستطيع أن تحولها مباشرة إلى المدرسة التى اختارها بالاسماعيلية..
الكلّ كان على موعدٍ مع عمل عدا إيثار التى شردت فى الكلام, إن كنَّا لن نعود إلى القاهرة مرّة أخرى فماذا عنّى؟؟ انتبهت أمّها على الشرود وأنها لتلك اللحظة لم تجهز ابنتها لتذهب مع أبّيها فطلبت منها السرعة كى لا يتأخر الرجل على ما بقى له من أعمال.. همهمت وهى تعطيهم ظهرها بهمسٍ شابته أمارات الحزن, مشى وراءها عبدالرحمن يسألها. تظاهرت بعدم اللامبالاة بالكلام فكان يصرّ عليها الحديث. بهدوءٍ وثبات لم يعهد من إيثار الباكية قالت: انكَ فكرت بالجميع وبأحوالهم, وقلت إننا لن نعود إلى القاهرة مرّة أخرى, فماذا عنّى؟؟
عدّل عبدالرحمن من هيئة فمه وضمّ شفتيه إلى بعضهما حتى تكورتا فى شكل يثير الضحك وسألها: ماذا عنكِ؟؟ أو طلبتِ شيئًا لم ألبه لكِ؟؟ ألم نتفق على الأمور كلّها!! ظهرت بوادر الانفعال على وجهها وحركات عينها وهى تقول: بلى, اتفقنا على كلّ شيء وأنتَ الآن تخلف الاتفاق.. اتخذ عبدالرحمن وضع الجديّة وقد بدأ يغضب هو الآخر: منذ متى وأنا أخلف معكِ؟؟ أو كان هذا عهدكِ بى, الخلف بالعهود؟؟
_أحسّت إيثار بأنها قالت ما يحزن, وأنّ عبدالرحمن بالفعل حزن من كلمتها التى قالتها بدون قصد ونية, فبدأت تلحق بالخيوط حتى لا تنفلت جميعها من بين يديها: لم أقصد هذا, أقسم لك, فقط كنت أتحدث عن دراستى, قد وعدتنى للعودة والمداومة, وأنتَ قلت أننا لن نعود للقاهرة فكيف سأداوم؟؟ هذا ما قصدته..
ناظرًا إلى الأرض ومحاولًا التفكير بما قالت والتبرير له قال لها: لو انتظرتِ لعرفتِ الأمر, ألم أقل أن لدىّ بعض الأمور سأقوم بها بعد مدرسة براء؟؟ هذا الأمر سيكون الذهاب لجامعتكِ لمعرفة إمكانية الانتقال من هنا إلى الجامعة فى الاسماعيلية, كنت سأخبرك ولكن فكرت أن يكون الأمر بعد معرفة إن كان الانتقال مناسبًا أم لا حتى لا تحزنِ إن لم ينفع ولم يقبلوا..
_ها هى إيثار تعود لطبيعتها وتترك دموعها تهرب من عينيها وتخنق صوتها وهى ترجوه العفو عنها, إذ الكلمة بدون نية سيئة.. رفع عبدالرحمن رأسه إليها ونظر بتلك النظرات التى لا تحمل شيئًا بين طيتها, لا تستطيع أن تعرف إن كانت نظرات غضب أم سماح, نظرات لا تحمل شيئًا وخرج ...
_ظلّت إيثار بغرفتها تبكى بينما جهزت والدتها الصغيرة وخرجت مع أبّيها.._تحدّث سيف مع نور بأنه سيمرّ عليها بعد المدرسة ليذهبا معًا إلى الغداء عند أهله.. أنهت نور المحادثة وأسرعت تحضر حاجياتها وتنتظر سيف أمام المدرسة كى لا تجعله ينتظر ومن ثمّ يغضب ويضيع الحنان والاسترخاء الذى وجدتهما فى صوته وهو يحدّثها ويبدأ كلامه بحبيبتى, أوحشتنى..
_كانت تودّ لو تنتظر حتى لو استمر الأمر يومًا كاملًا ولكن رؤية البراء كانت غير... فتحت عينيها عن أخرهما وانفرجت شفتاها كلٌّ فى طريق لتبرز من خلفهما أسنانها البيضاء فى لمعتهما وبريقهما, ومدّت ذراعيها فى إشارة لعبدالرحمن أن يعطيها إياها.. حضنتها وقبّلتها كما لو كانت غائبة دهرًا لا يومين..
بعد وقتٍ من الأحضان والقبلات انتبهت إلى عبدالرحمن الذى وقف ساندًا جسمه إلى سور المدرسة وهى يضحك وسعيد من هذا الحنان والحبّ المخصوصة بهم البراء من مدّرستها, ألقت عليه السلام وهنأته بسلامة العودة إلى المنزل بعد غياب.. ردّ عليها السلام والتهنئة, وانتهز الفرصة لتساعده نور فى إجراءات النقل إن أمكن.. حدّثها عن الأمر, فظهر الهمّ جليًا على وجهها وأماراته التى تحوّلت من الفرح إلى الحزن, وسألته لماذا؟؟ هل ضايقها أحدهم أو أسرتها فى شيء؟؟ هى بالفعل لا ترغب فى رحيلها وهذا مالاحظه عبدالرحمن..
_شعر بالحزن تجاه تلك المدّرسة الحنونة على ابنته, وشعر بالشفقة على ابنته التى لا تستطيع أن تعيش حياة طبيعية مثل الصغّار الذين يراهم الآن, مكتوب عليها الرحيل والترحال إن احتاج الأمر فى الأيام المقبلة!!
_لم يفسر لنور الأمر فقط قال أنهم بحاجة إلى الرحيل بسبب الظروف من حولهم وطلب إليها أن تساعده.. دخلت معه وقبّلت الصغيرة وتركتها فى حديقة الأطفال تستمتع بالوقت معهم لأخر مرّة, ونسيت سيف ..
_____________
_جاء سيف وبدأ يبحث عنها فى المكان الذى قالت بأنها ستنتظر فيه ولم يجدها... فكر بأنها ملّت وكلّت من الانتظار لأنه تأخر بسبب زحمة الطريق ودخلت تنتظره بالداخل فى حديقة الأطفال كعادتها.. رأه حارس المدرسة فأشار إليه بالتحية ثمّ أشار إليه أنها دخلت.. دخل هو الآخر حيث يعرف أنه سيجدها..
_وجد بعضًا من الأطفال لم يأتِ إليهم ذووهم بعد ليصحبوهم للبيت يلعبوا... بحث بنظره عن نور ولم يجدها ولكنه وجد شيئًا آخر, شيئًا فى نفسه عدّه أهمّ من نور. وجد طفلة مختلفة الملبس عن الآخرين تجرى مع صغيرة أخرى وتضحك ببراءة.. وقف ينظر إليها وهو لا يدرِ أيذهب إليها أم لا يفوت على نفسه تلك اللحظات المرحة من متابعتها وهى تلعب فى عالم آخر...
_جاءت أمّ الطفلة الأخرى وصحبتها معها وظلّت الصغيرة واقفة مكانها, لم تعد تلعب... اتجه نحوها سيف بخطوات متباطأة ولكنها ثابتة وحين قد اقترب منها تحركت الصغيرة نحو الباب.. يبدو أنها خرجت تبحث عن الطفلة الأخرى التى أخذتها أمّها.. خرج خلفها سيف ليمنعها من الخروج إذ الصغيرة الأخرى بالفعل ذهبت ولكنه لم يفلح فى ظّل تلك الخطوات التى يجرّها على الأرض بصعوبة..
خرجت الصغيرة وهو خلفها, فى خطواتٍ أكثر بطأً منها, وهنا سمع صوت أزيز إطارات سيارة.. نادى عليها انتظرِ لا تخرجِ , هناك سيارة مسرعة ولكن الصغيرة لم تجبه, حتى لم تنتبه علي كلامه, ظنّته يريدها البقاء فقط فأكملت وهو خلفها..
خرج ليجدها مكّومة على الأرض والحارس ومن بقى يجرى نحوها.. هنا تدارك أمره وهرول ينظر إلى الدماء التى ملأت الطريق الأسفلت.. جلس على ركبتيه وعيناه تبكى ولا تبكى, وأنفاسه تصعد وتهبط فى غير انتظام, وروحه تئن.. صوته خرج من فمه ثقيل مخنوق ومبحوح, يملؤه الرغبة بالبكاء وهو يرجوها: أأنتِ بخير؟؟ إن كنتِ افعلِ شيئًا يطمأننى .. مسكين وسط الحادثة والصدمة لم يعى كلامه ويدرك أنها صغيرة لا تفهم ما يقول!!
كعصفور جريح يزقزق فى طلب المساعدة لجناحه, وكقطة صغيرة غلبها ألم قدمها وجسدها, حركت براء إصبعها وحركت جفنها الصغير فى بطء كما طائر النورس خارجًا من النيل وبفمه سمكة مسكينة التقطها, ويحرك جناحه بأريحية.. كانت كما لو وعيت ما قال وأرادت أن تجيبه كلامه, ثمّ غادرت فى عالم آخر ومن حولها يصرخون هنا وهناك فى طلب سيارة إسعاف.. وسيف كما هو جالس على ركبتيه يفكر فى حركة الجفن والإصبع ....
لم بفق إلا وأحدهم يلكزه فى كتفه: تماسك حالك واركب بجوار ابنتك, فهى بحاجة إليكَ