_جنّ الليل على إيثار ببطء قاتل , كم كانت الساعة بطيئة وهى تمرّ !!, وكم كانت عقاربها مميتة وهى تدقّ !! ... من خلف زجاج النافذة علمت بقبوله ولم تقوَ على القيام كعادتها لتودع الشمس بابتسامة وأمنية , ولّت تلك الأيام , ولّت الأمنيات والأحلام , وأحلّت مكانها كابوس سيبقى معلقًا فى الذهن إلى أن تنتهى الأعمار ..
دخلت عليها أمها, قلقت عليها كثيرًا فالمعتاد أن لا تنام إلا وقت النوم الليلى وأن تنهرها عندما تقف فى النافذة وتبتسم كالبلعهاء ولا تعرف سر الابتسامة .. أرجعت النوم إلى الليلة المرهقة التى قضيتها ابنتها فى الزنزانة ولكن حان وقت الاستيقاظ والطعام ..
ما ان أحسّت إيثار بالباب الذى والته ظهرها وهو يفُتح حتى أغمست رأسها فى وسادتها وتظاهرت بالنوم وعدم القدرة على القيام ولكن لا مفر من أمها التى تعرف طبيعة ابنتها :
إيثار , كفى نوم , عليكِ الاستيقاظ وأكل بعض الطعام , أنا أعرف أنكِ لم تأكلِ من الأمس , جهزت لكِ بعض الطعام الشهى الذى تحبينه , قمِ ولا تخذلينّى ..
_كانت كلماتها تدقّ برأس إيثار كدقات عقارب الساعة , مميتة .. ظلّت تدور برأسها الكلمة الأخيرة : لا تخذلينّى .. كانت قاسية عليها وقد فعلتها لتوها من يوم , وكان أقسى ما بها هو عدم وفيِها بوعدها لأمها أول يوم للدراسة .. كانت تود أن تبكى فى أحضانها وتخبرها بأن الأمر لم يكن بيدها , كان رغمًا عنها , ويا ليتها بالقوة التى تجعلها تقرّ بمكنونها وتطلب السماح عليه : اعذرينّى يا أمى ..
_أحسّت بيد أمها تتخلل شعرها وتمسّ على ظهرها فارتعبت بطريقة أخافت الأم .. مازالت آثار الليلة الماضية عليها .. هدأت مع أول كلمة من أمها : لا تخافِ , أنا معكِ , لن أترككِ ..
لم تشعر بحالها إلا وهى ترتمى بين أحضانها وتبكى , ولا تعرف لماذا بكت الأم هى الآخرى , لا شك أنه احساس الأمومة الفطرى المكنون بداخل كل أمّ والذى حان موعد ظهوره فى لحظة كتلك ..
_هدأت وطلبت منها أمها القيام والاستحمام بماءٍ دافىء بالتأكيد سيعيد إليها بعض من حيويتها ويساعدها على القيام واستكمال اليوم الذى انتهى ..
قامت وهى تتلمس الخطى نحو الحمام .. لوهلة وقفت أمام الباب لتشاهد تلك الملابس الموضوعة بالداخل , ولتلك الوهلة وقفت حائرة ماذا ستفعل بالداخل , هل تغتسل لتفق من غيبتها أم لتتطهر ؟! ..
لم تحتاج إلى وقتٍ طويل لتفكر بالأمر , كلمة أمها بالاسراع كانت كفيلة لتأخذ موقف ستتطهر مما حدث , لا حيلة إلا تلك ويا ليت الماء يطهر النفس والفكر وينتهى الحال معها بتلك الطهارة ..
_لمَّ انتهت لم يكن عليها سوى الكلام والبوح لأمها ولكن ماذا تقول وأىّ كلام يُقال فى تلك اللحظات والأوقات !! , لم ترضخ لتصميم أمها وإلحاحها بالكلام , التزمت الصمت ..
يئست منها أمها فتركتها وهى تراها لم تأكل ولم تتكلم , شيئ ما بداخلها يحذرها من خطر , والقلق لا يتركها والوسواس انتهزتها فرصة لتعلب بعقلها ولكن لا رؤية واضحة بدون كلام ومع صمت إيثار ...
قامت إيثار إلى غرفتها وهى على صمتها بل وأُضيف إلى الصمت الوحدة والعزلة , فى مجتمعٍ آخر ستعيش المسكينة .._فى منزل سيف, كانت الحوارات والنقاشات والضغوط عليه من كل جانب ليقبل بالمصون العروسة التى لا تُرفض .. والده أقنعه بأن مثل تلك الزيجة لا تُرفض , فوالد العروس شخصية مهمة فى الوزارة وسيفيده كثيرًا بمعارفه ومنصبه , وسيف فى أمسّ الحاجة لتلك الواسطة فى الظروف الحالية , والزواج خير واسطة وظهر ..
بدا أن كلام والده مقنع جدًا , خاصةً بعد التغييرات الأخيرة التى عصفت به فى مكانٍ ليس له , هو مع الكبار فى المطبخ وليس بين الصغار يذهب فى حملة هنا وهناك ليقولوا عنه " بيتنطط " من مكانٍ إلى آخر ..
_أما والدته فمُنى عينها أن تراه عريس وليس أجمل وأحسن من تلك لتكون عروسة له .. فتاة ذات حسبٍ وأصل وجمال , ستتباهى أيامًا بين رفيقاتها عن تلك المصاهرة , فزوجها إن كان تقريبًا فى نفس المستوى إلا أنه ليس بنفس منصب والدها , يا ليت سيف يوافق ..
_كان الرأى الأكثر تعقلًا هو رأى أخيه : ان أعجبتك ووجدتها مناسبة تزوجها , لا تسمع لأىّ كلام يُقال حولك , اسمع كلامك فقط لأنك من ستتزوج وحتى لا تلوم أحدًا بعد ذلك , سيكون لومكَ لنفسك , لذا احسن الاختيار وتروَ ...يبدو أن سيف سيفكر فى الأمر كثيرًا خاصةً بعد كلام أخيه , وإن كان كلام والده هو الأكثر إقناعًا له وكان سيقرّ بالموافقة ولكن كلام أخيه هو ما قلل من عزيمته وجاء على جرحه لينتظر بعض الوقت ..
عليه أن يعود للعروس ليقرر , سيقابلها مرة أخرى ..
_____________________
_ما بين الحالين تقف حائرًا , الضحية هى من تتحمل وتلوم نفسها أما الجانى فلا ضمير عنده ليقف بفكره ولو دقيقة ويعود للمسكينة التى تتحمل غلطاته ..
من الأولى باللوم والهم ؟! , لا ضير , فنحن فى أوطانٍ بلا عدل والطبيعى هو ما يجرى