بعد أول يوم جامعىّ , دخلت ايثار منزلها وقد أنهكها التعب وملأ عينيّها بريق منطفئ , قابلتها أمها على الباب وهى تبتسم ابتسامة فضول وشوق مالبثت ان انزاحت واحتلّ مكانها علامة بلاهة وخوف , فما الذى أدّى بصغيرتها من حماس بداية اليوم إلى صدمة آخره ؟؟ .. كانت متخيلة من حبيبتها أن تأتى وانتهاء يومها الأول وقد ملأتها حماسته واصراره وفرحته , فوجدت منها خيبة أمل تحاول أن تعرف سببها من تلك الجلسة التى أجلستها ابنتها فى محاولة للاطمئنان ..
ما أمرك , تخيلت عودتكِ بطلعةٍ آخرى , ما سبب التعاسة والبريق المنطفئ الذى يملأ عينيكِ ؟؟ , وجدتِ ما لم تتوقعِ أم حدث شيئ أزعجكِ ؟؟ ..
كلٌ يا أمى , تخيلتُ أولَ يومٍ كالأفلام , الجامعة وواقعها المختلف عن المدرسة , التآلف والصحبة فما وجدتُ غير مجتمعٍ منفّرٍ ينفر كلٌ عن الآخر , كل اثنين يجلسانِ بحالٍ _ هذا مألوف من الأفلام , ولكن الاثنين يرفضا دخول جديد بينهم _ , فى الجامعة , إن لم يكن لكَ رفيق مسبقاً فأنت وحيد , غريب , وتائه وسطها ... بعدما تركتنى آيات لتذهب لكليتها , وجدت نفسى وحيدة , أتلمسّ خطايّا بصعوبة فى الطريق إلى كليتى , تهتُ يا أمى فى الطريق وضَحِكَ منى الطلاب وأنا اسألهم عن المكان , اتهمونى بالطفولة وأنّى مازلت بالروضة أحتاجُ إليكِ كى أقضى حاجتى , لم يرحموا جهلى بالطريق وغربتى وسط مجتمعهم , أحسستُ بالخجل وترقرقت عيناىّ بالدمعات فحبستها رغماً عنها وعنى , سرتُ بعد وصف الطريق كأنّى بالفعل تائهة ..
وفى كليتى وداخل مدرجى , كنتُ وحيدة , فقد علمتُ أنه كان هناك حفلٍ للتعارف أقامه اتحاد طلاب الكلية لايجاد الألفة بين الطلاب الجدد وهناك عرف كل واحد صديقٍ له ذهب إليه أول يومٍ , أنا فقط من كنت وحيدة , أراقب ضحكات الصحاب وأسمع نكاتهم السخيفة , لم يهتم أحد لوجودى , لم يأتِ إلىّ أحدٌ ويسألنى من أكون ؟؟ , كأنّى كنت طيف جالس , كان يوم سيئ يا أمى , لن أذهب للجامعة مرة آخرى , صُدمت بها ولم أتخيلها بهذا السوء , ليتنى مازلت بالمدرسة حيث الصديقات والرفقة الطيبة لا بين هؤلاء الأنانيين الذين لا يهتموا لأحد ..
أنهت ايثار كلماتها بالبكاء والنحيب فضمّتها إليها أمها وهى تربت على كتفها بحنانٍ وتهون عليها الأمر : يا حبيبتى , هذا هو الأمر الطبيعى والمألوف فى بداية كل شيئ , مع الأيام ستجدين رفقة وصحبة تتأنسين بها وستقضين جمّ وقتكِ فى الجامعة معهم , لا تبكِ , أنتِ مثلما قال لكِ الزملاء : طفلة وبكاءك هو الدليل , أنتِ طفلة بريئة وأنا ما أخاف عليكِ إلا من تلك البراءة فحاولِ الاندماج فى العالم الجديد وحتماً ستعتادِ الأمر مع مرور الوقت .. والآن , قلِ لى هل هذا هو حديث أول يومٍ جامعىّ ؟! , يا مسكينة !! , وماذا فعلتِ بعدها ؟؟ ..
لم أفعل شيئاً , اتصلت بآيات وعدنا للمنزل , يوم آيات كان ألطف منى , وجدت رفقة جديدة بسهولة وأحبّت الجامعة وكان يومها مميزاً , طبيعتها فى التعارف والاجتماعيات ساعداها ..
لا تقلقِ , وأنتِ أيضاً ستجدين رفقة مثلها , أنا لدىّ حل , صديقتى فى المسجد لديها ابن فى نفس كليتكِ , سأحدّثها عبر الهاتف واطلب منها ان يساعدكِ ابنها فى الأيام الأولى بالجامعة , هو عضو فى اتحاد الطلاب وفق ما أعرف , حتماً سيكون على معرفة ببعض الطالبات اللائى يمكنكِ مصاحبتهن ..
كيف يمكننى الحديث معه أو التعرف إليه ؟! , لا لا , الأمر صعب , أفضّل الجلوس وحيدة ما تبقى من الدراسة على الحديث والتعرف إلى شاب .... قابلت أمها كلمتها بفخرٍ وابتسام : لا تقلقِ , لولا أنّى واثقة منه ما اقترحت ولا فكرت فى الأمر , الاتصال سيكون عن طريقى وأمه لتجتازِ عقبات الجامعة .. والآن , هيا قمِ إلى غرفتكِ , بدلِ ملابسكِ واسترحِ ريثما أجهز لكِ غداءاً يُنسيكِ عذاب اليوم ..
____________________
_سرى فى المكان دبيب سريع وحركات نشطة لم تعتادها تلك الطوابق من هذا المبنى , المعتاد من تلك الأصوات يكون فى طوابق ما تحت الأرض حيث الصراخ والبكاء من فرط الألم , هدوء الطوابق العليا لا يُوحِ بنشاط الطوابق السفلى بل يلغيه ويلغى وجود تلك الطوابق التى لا يعرف عنها سوى من عاش فصول منها ومرّ عبر حجراتها المختلفة وأحنى رأسه للمرور من بابٍ لا يتعدَ ارتفاعه السنتيمترات المعدودة , وعاش بين أربع جدران فى جحرٍٍ القبر أفضل منه ..
دخل وهو ماشياً بخطوات عدو ويعلو وجهه غضبٌ هاتفاً : سيّف سيّف ..
التفتَ الجالس خلف مكتبٍ يتأمل ملف موجود بين يديّه ويضيق ما بين حاجبيّه شيئاً فشيئاً مما وجد بالملف , وتارة يفتح حدقة عينه كلها وتارة يضيّقها مما عرف : ما الأمر , أقامت القيامة أم ماذا , لمّ كل تلك الضجة بالخارج , منذ متى سُمح لتلك الأصوات بالارتفاع وتلك الحركات بالظهور ؟؟ ..
منذ تولى المسئول الجديد , ومن غيره سمح بتلك التجاوزات فى حقنا وحقّ مبنانا , وغير ذلك , انظر ماذا فعل اليوم !! ..
ماذا فعل هذا ال ...... ؟؟
قام بحركة تغيّرات جديدة , حركة تغيّرات عصفت بالكثير ممن يحتوونا , يبدو أن الأيام القادمة لن تمر على خير , الحركة قامت باستبدال واحلال لم تشمل الكبار فقط بل شملت بعضاً من الصغار , لم أعرف بعد إذا كنا من بينهم , لكن عرفت أن الرئيس نفسه سيتغيّر وسيأتى بدلاً عنه شخص نمقت , وإذا كانت الحركة لم تشمل بعض الصغار فالرئيس الجديد سيغيّرهم واحداً تلو الآخر , هو لن يعمل مع الحرس القديم , حرس غيره , سيأتى بحرسه ويبعدنا من هنا بأىّ وسيلة ..
أقلقتنى , سأحاول معرفة من سيكون ومن سيبتعد , سأقوم بجولة هاتفية لمعرفة الأمر وسأردّ لكَ خبراً ..
أنا فى الانتظار ..
استأذن وخرج , وبعد خروجه أغلقَ سيّف الملف الموجود بيديّه بغضبٍ واتجه إلى هاتفه وهو يزمجر من الأخبار الجديدة التى يمكن أن تعصف به فى أى وقت , أخبار لم تكن بالبال , مكانته ستهتز ..