عبثَ النسيم الرقيق بخصيلات شعرها الأملس , وداعبت النسمات وجنتيّها , وقبّل الندى الفتىّ شفتيّها , وصبّحتها خيوط رفيعة من قرص الشمس البرتقالىّ الذى لتوه ملأ المكان من حولها بالنور والسرور ففتّحت عينيّها ,وأبعدت جفنيها عن تشابكهما , وحررت النوم من خلفيهما معلنة توديع الوسن على أمل لقاء قريب جداً ..
_التفتت للخلف لترى صاحب الصوت الشجىّ الذى لا يكلّ ولا يملّ عن مراقبة وترتيب والوقوف خلف كل حدثٍ مميز بالبيت ; كانت أمها كعادتها , جاءت لتوقظها فوجدتها على حالها قد أتعبها انتظار الشروق بعد صلاة الفجر فاتخذت من النافذة سريراً مناسباً تُسند إليه رأسها لحين الشروق ... عاتبتها أمها , لطالما نبّهتها عن تلك النومة التى ستؤدى بفقرات رقبتها إلى الطبيب , وحذّرتها من نسيان الحجاب الذى يسترها ويمنع عنها أعين من لا يخافون الله ولا يتقونه فى بنات الناس _ فالوقت وان كان متأخراً والعيون كلٌ فى ملكوتٍ آخر فهذا لا يعنى أن نترك سِترنا عنّا _ , والآن ادخلِ سينال البرد من عضدكِ فى اليوم الذى تنتظرينه , ادخلِ واشربِ شيئاً دافئاً للوقاية : قالت أمها .
حدّثتها بحنانٍ تعتاده معها وأحسّت من نبرات الصوت بالحزن الذى خلّفته وقفتها فى نفس أمها فأدركت حالها بقبلة تُرضيها وكلمة تُليّن قلبها وابتسامة تسعدها : يا أمى , أنا أفعل ما عوّدتنى عليه , ألم تقُلِ لى قبلاً أن أمنية الشروق ودعاءها مستجاب , أنا أقف هنا فى انتظار الشروق للدعاء , عسى الله يستجيب دعائى وتتحقق أمانىّ ..
تقبّلت منها أمها الاعتذار وتذكّرت أن هذا قولها بل وكانت فعلتها أرشدتها إليها أمها هى الآخرى , طلبت من ابنتها المسارعة لتحضير الافطار , ووقفت هى تعيد ذكرى جميلة من أمها :
" اللهم انى استودعتك ابنتى وحبيبتى ايثار , اللهم كن عوناً لها فى تلك الحياة الجديدة ولا تُرينى فيها ما أكره . "
انتهت وخرجت لابنتها لتقديم الوصايا لها , ايثار : من سيكون معكِ فى أول يوم جامعىّ ؟؟
سترافقنى آيات يا أمى , ليس لى غيرها صديقة ولن يكون هناك أفضل منها رفيق للطريق , هى معى فى نفس الجامعة وسنحاول أن نكون معاً بقدر ما استطعنا , ان شاء الله .
بارك الله لكما يا حبيبتى , أوصيكِ أن يكون الله أمامكِ فى كل فعل , لا تؤذنى ولا ترِنى ما أكره , الجامعة عالم آخر لست معتادة عليه , فاعتادِ الجميل منه واتركِ قبيحه , اختارِ خير الصحبة وابتعدِ عن سوء الرفقة فان بها الهلاك , تزينِ بالحياء والعفّة , واعلمِ أن ما سترينه فى العالم الجديد ليس سوى فصل زائف من الحياة , فصل سيأخذ وقته ويمضى , فاجعلِ بصمتكِ فيه بيضاء ناصعة فأنتِ تستحقين تلك البصمة الناصعة وأنا على ثقّة بكِ وببصماتكِ ..
ما كل هذا يا أمى , أذاهبة إلى الجامعة أم إلى الهلاك , لا تقلقِ , سيمضى الأمر على خير بإذن الله , ألم تقولِها : أنا أضع الله نصب كل فعلٍ وأمرٍ , عليكِ فقط الاطمئنان والدعاء ... علىّ الانتهاء من ارتداء ثيابى , ستصل آيات فى أى وقت , ادعِ لى .___________________________________________________
فى مكانٍ لتجمع السيارات " موقف سيارات " وقفت سيارة شرطية يلتف حولها عددٌ من مرتدى الثياب السوداء يتهامزون ويتغامزون وفى مقدمتها جلس أحدهم على وجهه غضب وكأنه جالس فى عزاء والده يراقب البنات التى تأتى وتمضى , تتمايل وتتغامز للفت الانتباه إليها , تخرج من تحت " حجابها " خصيلات شعر لم ينعم الله عليها بالهداية بعد , تمسك بطرف البلوزة التى ترتديها لتنزلها بعيداً عن خصرها بقليل , تتلمسّ البنطال الذى التصق برجليّها خوفاً من أن تهرب منه وتتركه أو خوفاً من سيارة الشرطة أو فرحاً بمن يجلس بداخلها , ويسمع صوت طرقات حذاءها العالى الذى يقف فى آخر التجمع بعيداً عنها قبل القريب منها ....
ومن بين حفلة الثياب والموضة المزرية التى يحفل بها هذا المكان طوال أيام الدراسة وخاصةً الأيام الأول وقفت فتاتان ترتديان من الثياب ما شاء الله لهما من الستر , لم تنظرا إلى السيارة الشرطية , لم تتمايلا وتتغامزا بل وكأن المكان خالى إلا منهما , فمثل تلك السيارات وهؤلاء الأشخاص ممن تزدرى أعينهم , رؤيتهم تبعث عليهم بنارٍ تصلى قلوبهم وتذكّرهم بما لا يرغبا ويشمئزا ..
_ ركبت الجميلاتان السيارة التى اصطفت أمامهما ووفق حسبة ووصف الأهل , تلك السيارة هى المقصودة للذهاب إلى الجامعة .._________________________________________
_حول مائدة الطعام اصطفَ " سيف " وأهله , يتندّر سيف كعادته على الطعام الذى لا يروقه فيرى من حوله العجب , أباه بكلمة تتهمه بالافتراء , وأخاه بكلمة مؤيدة له وأخيراً أمه بالكلمة المعتادة : تزوج واجعل زوجتك تطبخ لك ما تشتهى , أما أنا فقد سئمت منكم وسأظلّ على هذا الطبخ وهذا الطعام حتى تتزوجا ..
يضحك كل المصطفون ويجيب سيف : على أى حال , الطعام الجاهز ملأ أرجاء بنت المعز وحتى الطعام البيتىّ , هناك مطاعم خاصة لاعداده , سأستعين باحداها على أن أقع فى ورطة لا أخرج منها أبداً أو أأتى على حالى ومعدتى وأكل طعامكِ يا أمى ..
هنا انفجرت الأم بكلام الأمهات : أريد أن أرى أحفاداً , أرجوكم , فلتتزوجا , سيف , أنتَ الأكبر أريد أن أفرح ..
أنهى سيف الحوار : حاضر يا أمى , ريثما أنتهى من الطعام سأقوم وسأتزوج ... أثارت الكلمة حفيظة الأم فأنهت طعامها وقامت هى