يُعدّ اتصال إيثار هو الحبل الذى رُمى لعبدالرحمن ليخرجه من البحر الذى يغرق فيه .. كان فى حاجة إليه ليرشده لبداية طريق خير من طريقه الضائعة والذى ضاعت نفسه فيها وتشتت فى تعاريجِها ..
تحدّث إليها بالبدايات المعتادة : كيف حالكِ الذى أعرفه وحال أمكِ أعانها الله وإياكِ فى مصابكم ؟؟, أمّا عنّى فإنّ بخير بحسب قول لسانى !!, ولكن لا تحاولِ سبر أغوار قلبى كى لا تكشفِ كذبى , فأنا من داخلى لست بخير ..
أنهى السلام والسؤال عن الأحوال معها والتفتَ إلى ذاك الرفيق المتسلل معه من البيت الآمن. كان يستأذنه بالانصراف, عَرِف من تلعثمات كماته أنه بحاجة للانفراد بالكلام, لم يكن بحاجة إلى من يقف بجواره ويكتشف كذبه فى تغيير أحواله, كان هذا آخر ما يتمناه بعد تعدّل الحال الذى هو عليه ورفاقه وبالطبع حال إيثار .. أومأ للرفيق برأسه أنه موافق لرحيله ولم يخلُ الوداع من ابتسامة باهتة خائفة ولكنها صادقة على الشفاه مع وعد بالاشارات على معاودة الرؤية واللقاء ..
_أكمل معها الكلام عن حالها ولم يدرِ كيف أفلتت منه دفة لسانه ليخبرها دون قصدٍ عن حاله وحال البقية .. أخبرها عن تشرده وحرمانه حتى من رؤية أمه .. كان عليه أن يخبرها بأنه لن يستطع المسير معها فى طريقها , هو الآخر يحتاج إلى من يسانده وبلايا الأيام الذى أصابته أنهكته , فكيف سيساعدها من موقعه هذا, موقعه الذى أضحى على الرصيف بعد أن اكتشف حال المنزل الذى كان يطمع أن يأويه مع البقية ؟؟ ..
الموقف ليس هينًا عليه, فهو لم يردّ أحدًا خائبًا فكيف إذا كان هذا الأحد إيثار والتى مصيبتها عظيمة قد استأمنته عليها ووضعت جلّ ثقتها فيه ..
_لم يتحير كثيرًا إذ جاءه صوت إيثار الشجىّ الندىّ الحزين الذى بدا عليه نبرات التأثر بحال الفتى الشجاع صاحب الأخلاق والمبادئ : عبدالرحمن, أعانك الله على ما أنتَ فيه, لا أعرف كيف أواسيكَ , ليس بيدى شيئ أفعله لأجلِكَ .. توقفت الاشارات التى يبعثها هاتفها ليستقبلها هاتف عبدالرحمن برهة ثم عاودت بنبرة مفاجأة , نبرة كمن وجد حلّ أو سرّ لنظرية عتيدة تأبى الانفكاك والوضوح : وجدتها وجدتها ..
لو رأت إيثار وجه عبدالرحمن لحظة النطق بالكلمة لضحكت حدّ السقوط أرضًا من تلك التعابير التى انجلت عليه .. صمتها المفاجئ ثم المواصلة المفاجئة للكلام بتلك النبرة أفزعها تلك الفزعة المرعبة ..
أبعدَ الهاتف عن أذنه ليتبين صحة المكالمة وان كانت إيثار صاحبة الصوت والكلمة, ولمَّ تأكد من أن المكالمة لاتزال مستمرة أعاد الهاتف مرة أخرى وأجاب بصوتٍ لايزال باديًا عليه آثار الصرخة التى جاءته من الجانب الآخر : وماذا وجدتِ ؟؟ ..وجدتُ مكانًا تلتجأ إليه حتى تهدأ الأوضاع وتستطيع العودة إلى منزلك بسلام ..
_لا ينكر عبدالرحمن أن ذلك التفسير أفرج عن أساريره المقيدة بثقل التشرد الذى أضحى فيه, وأنه الملاذ الذى هون عليه حاله .. ولا ينكر أنه بعد أن فرح لثوانٍ معدودة استطاع حسبها من على شاشة الهاتف الذى يسجل المكالمة عاد ليندهش : أين سيكون المكان؟؟, وكيف عرفته تلك الفتاة؟؟ , أنا أعرف عنها كلّ شيئ , ليس لديها سوى منزلها وأمها !! .. سوى منزلها وأمها !! , أعاد قول الكلمة بين طيات فكره مرة آخرى ليبدأ الأمر يتضح معه ثم مالبث أن انتبه لمحدّثته فى الجانب الآخر وسألها : أين المكان ؟؟ ..
_كان يشعر بالإجابة , خطرت بباله دون تفكير طويل منه ولكنه أراد الاستفسار ليعرف مصيره الذى علّقته إيثار بها وبقولها .. قبل الردّ, لم يدرِ لماذا فكر أيوافق أم يرفض, كان كالمتيقن من الجواب ولكنه فقط يحتاج لكلمة ليأخذ الخطوة الأخيرة فى هذا اليقين ..
أتاه صوتها العذب والذى بدأ يشعر برقته وشجنه فى اليومين الأخيرين وخاصةً تلك المكالمة : لدينا, بمنزلنا , فمنزلنا سيكون خير مأوى لكَ , من سيظنّ أنك فى منزلنا , لن يعرف أحد , أنا متأكدة , أقبل ولا تخف ...
_كان عقله بدنيا ولسانه بأخرى , عقله يدور مع الجواب الذى توقعه ولسانه مع البديهيات التى تخرج من الأفواه فى مواقف كتلك .. أطلق لسانه معها ليردّ : كيف هذا؟؟ , كيف أكون معكم بمنزل واحد, لا يصح ...
بدت إيثار متأثرة بالكلمة هى الآخرى, لم تحسب لشيئ سوى أنه مشردًا وعليها مساعدته مثلما يساعدها , والأهمّ الذى حسبتها هو أنه عبدالرحمن , عبدالرحمن يا إيثار , أنسيتِ .. عاد بها كلام عبدالرحمن للواقع , الأمر حقًّا لا يصح, كيف جرأت على هذا وحتى بدون علم أمها , لو وافق عبدالرحمن كيف ستخبرها بوجوده معهم , يا الله , ما بال المصائب تلاحقنى !! ..
انتظرت الردّ ولكن ليس بذات الشغف الذى طرحت به العرض , طرأ عليها الخوف من كل شيئ , تمنت لو رفض حتى يزيل عنها الحرج .. عاود كلامه : إيثار, هل أخبرتِ أمّكِ بالأمر ؟؟ ... زاد عليها السؤال الحرج والخوف , أخفضت صوتها بطريقة ملحوظة وهى تجيب: لا ..
_كنت أعرف أنكِ لم تخبريها, أنا جدّ مشكورًا لكرمكِ معى, أنا أعرف حالكِ ووضعكِ وأمّكِ , وأعرف أننى إذا احتجت إليكِ فلن تتوانى عن مساعدتى , أشكركِ ..
بدا صوته كالمخنوق .. أحسّت به وبحاجته إلى المأوى الذى طرحته عليه, كان هذا جليًّا فى كلامه وفى نبراته وبالطريقة التى تكلم بها ورتب بها كلماته .. لم تعهد منه هذا التوتر فى الحديث , فهو حتى لم يحسن غلق الموضوع والردّ عليها فى جملته الأخيرة .. كان كمن على شفا حفرة سيسقط حتمًا بداخلها ولا سبيل إلى نجاته فوضع تلك الكلمات المرتبكة الخائفة بدون تفكير وبتسليم للمصير الذى هو فيه ...
حنّ قلبها على حاله المسكين , لم تستطع تمالك حالها وهى تخبره : لا تخف من أمى , أنا سأقنعها , تعالَ ولا تحسب حساب القادم فهو سيمرّ كالماضى ..
عادت إليه بعضٌ من شغفه وهو يردّ : لن أستطع مواجهة أمّكِ ووضعها أمام الأمر الواقع .. ماذا سأقول لها : جئت أمكث ببيتكِ بضعة أيام بدون علمكِ ولا رغبتكِ , لا أستطيع ..
حارت إيثار فى الكلام ولكنها استعادت كلامها وهذّبته : اسمعنى , جهز حالكَ الآن واقبل علينا , ريثما تأتى ستستقبلك أمى وستجهز لك مكانًا بالمنزل , اترك الأمر لى , والآن جهز حالك ..
قالتها ثم أغلقت الهاتف وهى لا تدرِ كيف ستحدّث أمّها .. بعد فترة من التردد , استجمعت بعض من قواها والأساليب التى تعرف أنها تؤثر بأمّها وعزمت على مجيئ عبدالرحمن وذهبت إليها ..
أمّا عبدالرحمن فكان ملاذه هو هاتف إيثار وما تبعه , لم يجد بيده حيلة إلا تنفيذ ما قالته له والبقاء عندها لبضعة أيام حتى يجد ملجأ آخر ...