_استنفر الجميع داخل قسم الشرطة ذاك اليوم حيث سيف قادم ومعه رياح الخماسين الشديدة التى تأتى على أعين الجميع فتغشيها بالتراب .حين دخل سيف بدا على كثيرٍ من وجوه العاملين تأفف وضيق من عودة ذلك الشخص المقيت المغرور الذى انتهوا منه ومن وجوده بينهم لمدة قصيرة ولكنها ملحوظة ومليئة بالألم والأوامر من جانبه..
_لم يتحدّث مع الكثيرين حين انتقل للعمل معهم, أو للعمل رئيسًا فوقهم, فقد كان مُوصَّى عليه_من فوق_ووضعه كان خاص.. انتقل فجأة وترك المكان فجأة, حتى لم يكلف نفسه عناء المجيئ وتوديع الزملاء ولملمة الأشياء المعدودة التى وضعها على مكتبه..
_تحدّثوا معه بحذر واقتضاب فى الكلام, سأل عن المكان الذى يُوضع فيه الملفات القديمة.. لم يترك مجالًا لأحدهم ليتعجّب من سؤاله واستفساره , تخطّاهم جميعًا حتى وصل إلى المكان الذى يحتله أعلى رتبة وهناك لم يحتاج لشرح الأمر, هو فقط يحتاج إلى أحد الملفات وعلى الموجودين أن يدلّوه على المكان الذى يحتاجه, وهذا مراعاة للزمالة ولفرق المقامات داخل الوزارة نفسها بين أصحاب الرتب الواحدة..
لا بأس بذلك, دلّوه على المكان ودخل معه أحدهم للمساعدة, وبدأ يبحث عن ملفات الفترة التى بقى فيها فى القسم_من حظّه أن الملفات لم يتمّ نقلها أو التخلّص منها_ومع ذلك لم يجد ما يريد.. نسى أنهم حينها لم يسجّلوا أىّ ملف لتلك القضية, أخذوهم افتراءًا وتركوهم والآن سيف يحصد نتيجة الافتراء..
_خرج من المكان الذى جمّعوا فيه الملفات وهو يلعن اللحظة الذى دخل فها القسم بأكمله.. كان يحتاج لدليل ليتأكد وليثبت نسب البراء إليه ولكنه تاه عنه أوّل دليل, والآن سينتقل إلى المكان التالى ليكون على يقين تام.. خرج من القسم كما دخل وكما خرج منه أول مرّة بدون وداع أو استئذان حتى بدون نيّة للرجعة..
__
_كان من قبل يعرف أن البراء قادمة من الاسماعيلية وأنها وُلدت هناك, كانت وجهته التالية إلى الاسماعيلية ولكنه حتمًا سيضيع; فالاسماعيلية ليست بلدة صغيرة لها شارع أو اثنان سيسأل فى أحدهم وإن لم يجد سيسأل فى التالى وسيجد ما يبحث عنه, إنها محافظة كبيرة يتوه فيها الغريب..
فكّر لو ذهب للمدرسة وبحث فى ملفها هناك, وهذا أفضل مكان بإمكانه أن يجد فيه دليل, فهو معروف وحتمًا سيجد من يساعده.. كانت عقبته هى نور, فهى طلبت إليه أن يكفّ الحديث عن البراء وأمّها وأبّوها, فهى ملّت ولو عرفت أنه مايزال يبحث فى شأنها حتى أنه ذهب للمدرسة فستكون العاقبة وخيمة عليه وستنقلّب الأمور معها وهو لا يريد مشاكل أخرى إلى جانب مشكلة البراء..._فترت همّته وخبت حماسه بعدما لم يجد مفرًا أو ملجأ يهرب منه إلى البراء.. تاقت روحه إلى ابنته ودقّ قلبه اشتياقًا للصغيرة وإلى رؤيتها حتى وإن كان من خلف حاجز زجاجى.. عزم على الذهاب ورؤيتها ولو لدقيقة من غير أن يراه أحد, خاصةً إيثار.. ذهب وكان له ما أراد, لم يرى إيثار, هى أصلًا لم تكن بحالة تسمح لها القيام من سريرها ورؤية أحد, بل رأى عبدالرحمن أو رآه عبدالرحمن..
_ظنّه لا يعرف شيئًا وإن شكّ, غروره منعه من تصدّيق أن إيثار ستتجرأ وتبوح بسرّها لأحدهم بل ستزداد جرأة لتقول من يكون شريك السرّ..لم يتمالك عبدالرحمن ذاته حين رآه ينظر إلى الفتاة بوهن الأبّ المكلوم فى ولده, لم يتمالك أن يرى للبراء أبًّا غيره وأن يكون هذا الأبّ هو سيف الذى سبّب ومازال يؤلم إيثار..
جرى إليه وأمسك بذراعه_كتلك المرّة حين كان يريد الدم للصغيرة_ وأخذ يجرى به للخارج وسيف مستسلم غير واعٍ لشيء سوى انقياده وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة.. هتف عبدالرحمن بوجهه غاضبًا: لا تأتِ هنا مرّة أخرى, ليس لوجودك معنى, لمصلحة الصغيرة لا تأتِ..
_إن كان سيف بحاجة لدليل يثبت له ويؤكد أن البراء ابنته, ولو ظلّ عمرًا يبحث ما وجد كمثل كلام عبدالرحمن, قد أكد له كلّ شكوكه حول البراء بهذا الكلام, فالفتاة ابنته..
بالرغم من أن إمساك عبدالرحمن بذراعه وهرولته نحوه كما المرّة الأولى أوحت له بأهمية خروجه من حياتهم والبعد عن البراء إلّا أنه لم يستطع, عاد مرّة أخرى وعزم على تكرار الأمر مادامت ابنته هناك..
_شاهده عبدالرحمن وهو يتسلل لرؤية الصغيرة وكان فى قمة غضبه فهرول نحوه وأوشك أن يضربه ولكنّ سيف الخبير بتلك الضربات عرف كيف يتفاداها؟؟ لم يتحدّث كثيرًا أو لم يتحدّث أبدًا ويردّ على كلام عبدالرحمن الجارح, كان يؤنبه ضميره وآسف على فعلته بشدة حتى أنه لم يرفع حتى عينيه إليه.. حين انتهى عبدالرحمن وهمّ بالذهاب على أن يعود ولا يجده أبدًا, قال سيف كلمته الوحيدة التى قلبت كيان عبدالرحمن: لن أتركها, فهى ابنتى, ان ذهبت اليوم سأعود غدًا وبعد غد, أبدًا لن أتركهها..
_كان لهجته محذرة وصارمة أشعلت الخوف داخل عبدالرحمن, فكلام إيثار سيكون حقيقيًا وسيأخذها, سيأخذ البراء ولن يستطيع أن يمنعه فهى بالفعل ابنته.. بكى عبدالرحمن وما أكثر ما بكى تلك الأيام!! حياته على وشك الانهيار, كلّ ما بناه سيزول, فهو بناه على باطل وبدون أصل أو أساس وحتمًا ما بُنى على باطل فهو باطل, والباطل أن البراء ابنته..
_دخل لإيثار فوجدها على حالها كما تركها تفرغ ما بداخل رأسها من وساوس وأباطيل_مثلما قال لها_ ولو عرفت أن وساوسها وأباطيلها حقيقة لذهبت منه ومن الدنيا حزنًا على ابنتها التى ستضيع منها.. حين لاحظته من على وسادتها المبللة بدموعها قامت وهى تعيد نفس الكلام وتلك المرّة لم يجد كلامًا يهدّئها به ولم يستطع أن ينفى كلامها فهو لتوه عرف بصدقه, تركها وخرج يبكى بالجوار..
______
_أما سيف فلم يكن بأسعد حالًا من عبدالرحمن, لتوه عرف بأن له ابنة وهذه الابنة إمّا تعود للحياة أو تخرج منها نهائيًا, وكذا حياته التى ستنقلب رأسًا على عقب إذا عرفوا أن له ابنة, فماذا سيقول لهم؟؟ بماذا سيفسر الأمر لنور؟؟ وأسرته والمجتمع هل سيتقبّلوا وجود ابنة له أم ماذا؟؟ لا يعرف كيف ستكون حيانه, ما يعرفه الآن وتأكد منه أن له ابنة وعليه استرجاعها وأن تحمل اسمه بأىّ طريقة, فلن يتركها..
_كان يجسّ نبض نور حين سألها فجأة: ماذا ستفعل ان كان له ابن؟؟ لم تجاوب نور إذ لم تأخذ السؤال بمحمل جدٍ, كلّ ما استنبطه من هذيان كلامها أن الأمر مستحيل وكلّ ما هو متأكد منه أيضًا أن تركه للفتاة مستحيل, لن يتركها أبدًا..
والآن عليه البدء بالمعركة ليسترجع ابنته حتى ولو على حساب حياته..