الفصل الخمسون

150 8 0
                                    

_إن كان سيف عاجزًا ومقيّد اليدين والقدمين ذاك الوقت بسبب مواجهته لما يخاف_وهو الذى لم يحسب للقاء حساب وعُدَته كانت غروره وغطرسته_ فإن إيثار لم تكن بأحسن منه حالًا, وهى التى رأت طيف من تكره وعرفت من يكون, ويا لصدمتها إذ كان زوج عزيزة عليها!!
_لم تفارق الحاجز الذى يفصلها عن ابنتها ودموعها لم تفارقها.. الوساوس لم تتركها والفكر الذى امتلكها فى بداية أمرها مع سيف عاد إليها ولكن تلك المرّة بسؤالٍ جديد: كيف سيكون الحال؟؟ وكيف ستمرّ الأيام؟؟ وماذا عن ابنتها؟؟
كانت حائرة باكية يحسّ من يراها على حالها, وخاصةً أنها تقف أمام ابنتها الغائبة عن الدنيا بأنها ستفقدها فى أىّ وقت أو قلْ فقدتها.. أرجعوا أمرها إلى ابنتها, وبالله لم يكذبوا, بالفعل كانت ابنتها هى شاغلها برقادها وظهور أبيها الحقيقى..
___
_عاد سيف إلى بيته كالضال الذى وجد مأواه, لم يبرح غرفته ومخدعه, يتقلّب على سريره كالعاشق الذى لا يجد وصلًا من معشوقه, وكالمديون يهمّه ويغمّه دينه فلا يرتاح فى ليله..
_استرجع حياته منذ اللحظة الأوْلى التى رآها تبكى وتريد أمّها, تلك اللحظة التى بذل فى سبيل نسيانها ما يكفى من جهدٍ ومشقة ولكنها أبدًا لم تغب عنه ولم تتركه, وها هى عائدة بقوة لتتخذ مكانها وسط عقله وتفكيره وجلّ حياته.. لم يقف كثيرًا عند الحوادث التى جمعته بإيثار إذ لم تكن سوى حادثة أو اثنتين ولم يكن يعرف من تكون!! لبرهة توقّف أمام المشهد الذى حضره وهو مستمع حين كانت تعاتب عبدالرحمن وتخبره بأنها: لو كانت ابنتكَ, ما فعلت!!
شوّش هذا المشهد وتلك الكلمات الجزء الباقى من عقله, إن كان لا يزال بحاله!! هو بالذات لا غيره مَلَكَ عليه عقله ووجدانه, لمَ قالت تلك الكلمة؟؟ بماذا قصدتها؟؟
جرّت الكلمات خلفها ما حضر من حوادث وما سمع عن الصغيرة, فصيلة دمها لا توافق فصيلة عبدالرحمن, الأمر مريب!! والفتاة نفسها مسّت قلبه بما يكفى, لم يعتد هذا مع أىّ طفل مهما كان, والرؤيا التى تأتيه, كلّ شيء هذا اليوم يدفع سيف لهاوية الجنون إن لم يجد تفسير.. كان ليظلّ على شروده وجنونه فى التفكير_مثلما وصف حاله_إن لم تأته نور, ولكنها أتت تنتشله ولو بجسده من على حافة تلك الهاوية..
_سألته عن سبب اختفائه وأين كان؟؟ كانت هى الأخرى مشتته بين البحث عنه وبين الانتظار مع المسكينة التى تتألم لحال ابنتها.. لم يجاوبها, كان يفكر بحاله وانتقل منه إلى التفكير برد يناسب نور.. أخبرها بأنه خرج كى ترتاح المسكينة, فكيف له أن يبقَ وهى على تلك الحالة؟؟ كان لزامًا أن يخرج لتكون مرتاحة فى مكانها.. شكرت له صنيعه وان عاتبته على خروجه من المشفى كلّها بدون إخبارها وأنه كان سببًا لقلقها, وحتى لم يتحمّل عناء الرد على اتصالاتها..
_لم يُبدِ أىّ ملاحظة أو تعبير على كلامها الأخير بل سألها مباشرة: كيف حال الفتاة وأمّها؟؟ لم يسألها عن سبب الإغماءة إذ كان الوحيد من بينهم الذى يعرف السبب.. اكتئب وجهها واختنق صوتها بالحزن وهى تخبره كم هى مسكينة!! انتابتها نوبات صرع وخوف مفاجئ على ابنتها, وباتت تجرى باتجاه غرفة الفتاة وهى تصرخ: ابنتى ابنتى, هى ابنتى.. كان حالها مؤلم للجميع واستدّعى دموع الحاضرين فلم نكفّ وكنّا خلفها نحاول أن نطمأنها, حتى الطبيب جاءها وطمأنها بأن الفتاة فى تحسّن وتستجيب من وقتٍ لآخر, ولكنها ظلّت تصرخ باسمها وكأنها موشكّة أن تفقدها!!
شيء غريب ما حدث, فأمّها تقول بأنها كانت مطمئنة عليها وأن الطبيب أخبرها صباحًا بأنها بخير, وقد دخلت إليها وجلست معها بعض الوقت, وحتى خرجت مستبشرة من رؤيتها, لا أحد يعرف شيئًا!!
_كلّ كلمة قالتها نور جذبت انتباه سيف, فكان كمن يحلّ طلسم أو لغز ومعه كلّ طرقه وخرائطه ويكفيه فقط إشارة البدء ليتمّه, وكلام نور ساعده كثيرًا على ربط الأحداث ببعضها, وبدأ يستنتج بعض الأمور من الحديث: ما سبب الخوف على ابنتها بعد أن رأته؟؟ هو لم ينوِ شيئًا تجاه الفتاة سوى الاطمئنان, ما الذى جعلها تخاف عليها إلى هذا الحدّ خاصةً بعد رؤيته؟؟ إن كانت الصغيرة بخير والطبيب يطمأنهم, ما الدّاعى سوى خوفها منّى ؟؟
كان كلّ هذا يدور برأسه مع حديث نور ويؤجج بداخله استفسارات وأسئلة وشيء يدفعه إلى الاستمرار وراء هذا الأمر, فهو يخصّه.. ولم ينسَ وسط الحديث أن يبتهج لاستقرار حال الصغيرة وتحسّن صحتها.. أعطى ظّهره لنور وتظاهر بالنوم وهو يفكر حتى جاءه بالفعل ..
_تلك الليلة كانت كالسابقة والسابقة وليالٍ كثيرة مضّتْ الفترة الماضية, جاءته فيها الصغيرة فى منامه, كانت كالرؤيا والمنامات السابقة, الصغيرة تشير إليه وتبتسم ثمّ تتركه وتذهب لشخص آخر_عَرِف فيما بعد أنه عبدالرحمن_ وزادت الصغيرة فى هذا المنام بأن استتمرت فترة تنظر إليه وتحاول أن تقول بطريقتها الطفولية: أين أنت؟؟
فى منامه ترجم بعض من همهمات فمها بأنها تسأله أن يأتى فهى بالانتظار ثمّ تركته وذهبت حيث اعتاد منها فى المنامان, إلى عبدالرحمن الذى نظر إليه لأوّل مرّة غاضبًا وتكاد نظراته تفتك به..
_قام وهذه المرة قامت معه نور, كان يتنفس بصعوبة كمن خارجًا من وادٍ فى باطن الأرض لا هواء فيه.. سألته نور عن السبب فردّ عليها بسؤال: أيكون عبدالرحمن والد البراء؟؟ عادت نور تستفسر عن السبب وهى جاوبت عن هذا السؤال من قبل, فما لزوم إعادته؟؟ لم يقلّ شيئًا ولّى ظّهره لها وتركها فى حيرة من أمرها بسبب أمره, وهو حين لم يجد مفرًا من الفكر قام وتركها..
________ظلّ عبدالرحمن إلى جوار إيثار هذا اليوم بالرغم من إصرار أمّها وأمّه على بقاء إحداهما.. لم يستطع تركها على حالها وهى الفاقدة للوعى بسبب حقنة مهدئة أعطوها لها بالمشفى لترتاح.. ظلّ مستيقظًا لا ينام, يتأملها ويتعجّب من حالها اليوم ويدعو لها الله أن تكون بأحسن حال وابنتها..
كانت تنطق باسم ابنتها حتى فى المنام وتقول بأنه سيأخذها, ليته ما جاء, سيأخذ ابنتى.. لم يعرف عبدالرحمن من الذى سيأخذ ابنتها وإلى أين؟؟ وما سرّ تلك الخزعبلات التى تطلقها؟؟ فسّرها بأنها تخاف الموت الذى سيخطف ابنتها ولكنه عاد وأنكر استفساره فإيثار أقوى من أن تقول هذا وهى مؤمنة بالقضاء والقدر, ومستبشرة بالله وبكلام الأطباء لها, إذًّا لا داعٍ لهذا التفسير, هناك شيء آخر!!
_حين أفاقت بعض الشيء من نومها, اقترب منها يسألها عن حالها ويطمأنها عن حال الصغيرة ثمّ سألها: من سيأخذ الفتاة؟؟ ولماذا يأخذها؟؟ ولماذل صُرعت كلّ هذا الحدّ هذا اليوم؟؟
أجابته وهى تتلعثم وتبتلع ريقها بصعوبة وتكاد تبكى إن لم تكن بالفعل تبكى: هو سيأخذها, لم يأتِ سوى لهذا, لا يعرف سوى الألم, لماذا جئتَ به إلى هنا؟؟..
لم يفهم شيئًا مما قالت, سألها أن توضح الأمر ليستطيع مساعدتها وليمنع هذا, فهو لن يترك أحد يمسّها أو يمسّ البراء مهما كان..
قالت باختناق: أبوها, رأيته اليوم, جاء ليأخذها, أنتَ أتيت به, أنتَ تريده أن يأخذها, لا سامحك الله!!!
لوى عبدالرحمن رأسه وانزوى ما بين حاجبيه وهو يتعجب من قولها مستفسرًا وكأنه لم يسمع المرّة الأوْلى: من؟؟
ردّت بعتاب وألم: أبوها..

انكسار الروححيث تعيش القصص. اكتشف الآن