__فُتح رتاج باب ذلك القبو المظلم الصغير الذى يضمّ بين جنبات جدرانه الأربع ما يقرب من عشرة أشخاص أو أكثر, لم يعد العدد يفيد فهو ينقص يومًا شخص ليزداد اثنان أو ثلاث فى التالى. فى تلك الليلة ازداد القبو فردًا وكان هذا الفرد عبدالرحمن.
_كان يتخيل أنه سيكون وحيدًا فى المكان, سبق له نفس الموقف وكان وحيدًا بين الجدران الأربع, ولكن تلك المّرة كانت الأماكن المشابهة ممتلئة عن أخرها فلا مفر من حشر كلّ هؤلاء فى قبر واحد.
حين ولج المكان كان البعض ممددًا على الأرض والآخرون ما بين جالس وواقف ينتظر دورًا للراحة. رحبوا بالوافد الجديد كلٌّ على طريقته, و تطوع منهم من شرح لعبدالرحمن النظام الذى وضعوه لأنفسهم حتى تستقيم لهم الحياة فى ذلك القبو أو يأذن الله لهم بالخروج منه ... تقبّل عبدالرحمن الوضع بعد بعض الاندهاش من النظام العجيب الذى يجعل الفرد يقف لمدة طويلة حتى يستريح اخوانه. ضحك عبدالرحمن منهم حين أخبروه بأنه معفىّ من النظام هذا اليوم لأنه جديد بينهم وتلك وسيلتهم المستطاعة فى الترحيب بالجديد.
_انتهت المناوبة ولم يكن عبدالرحمن قد حدد المكان الذى سيبقى فيه وقت الراحة. قام الموجودون بدون تنبيه من أحد, وكأنهم نائمين مستيقظين ومنبيهين أن هناك من يتألم وهم نائمون فقاموا. حدث هرج هزّ السكون بسبب قيام الكلّ من مكانه واستعدادهم لتيبادلوا الأدوار. من بين النائمين كان وجه مألوف لدى عبدالرحمن, لم يكن قد رآه بسبب نوبة النوم ولكن حين جاء موعد التبادل رآه. نادى عليه وسط الجمع بلهفة التائه الذى وجد دليل للطريق: علىّ .
_انتبه المُنادَى عليه للصوت الذى انتظر برهة ليستوعب لمن يكون ثم هتف هو الآخر بحرارة: عبدالرحمن. ضمّه عبدالرحمن بشوق ولهفة وبالمثل فعل علىّ. كاد عبدالرحمن يبكى لأنه وجد من يهون عليه وحشة القبو إلا أن علىّ قال ما جعل الجميع يضحك: يا للزيارة الغالية, قد شرفتنا بزيارتك.
_ضحك الجميع من تلك الكلمة التى بدت وكأن عبدالرحمن يزوره بمنزله وليس بقبو سيبقى فيه إلى مدى لا يعلمه إلا الله, حتى علىّ نفسه قابع بهذا القبو منذ أكثر من عام ولا يعلم متى يخرج منه إلى الحياة.
_جلس عبدالرحمن, أو بالأحرى وقف, بجوار علىّ يهمسان عن ذكرياتهما معًا وكيف جاء كلّ منهم إلى هذا القبو. يخبره عبدالرحمن كيف أنه حزن لمعرفته بقدومه إلى هنا ليجيبه علىّ كيف أنه حاول كان يبعث مع من يزورونه برسائل إلى الموجودين بالخارج كى يأخذوا حذرهم ويتركوا أماكنهم خوفًا من الاعتراف بشيء تحت وطأة التعذيب و الضغط . يتعجب عبدالرحمن كيف يهتم من يمكث بمكان كهذا بآخرين يتمتعوا بالحرية فيجيبه علىّ بأن الأخوة ورفض الظلم تقتضى أكثر من هذا!!
_اختلى عبدالرحمن بنفسه بعض الوقت ليفكر بالحال وليتذكر حاله قبل أن يذهب للاسماعيلية خوفًا مما هو فيه الآن, وليتذكّر أن علىّ هو من شجعه على الزواج بإيثار حين حكى له عن المنام . ثم عاد ليتذكّر إيثار وحالها الآن, وحال أمّه وحال طفلته. كيف هم بعد الفزع الذى حدث تلك الليلة؟؟ كان يتمنى أن يبتعد عن إيثار حتى لا يفكر فى حاله وتكبر بداخله الغصة التى سببها النفور منها ولكنه الآن يتمنى حتى لو يلمح طرفها فقط..._لم تجد إيثار بُدًّا من الاستسلام للواقع وما حدث. البكاء لم يعد يفيد بعدما رحّلوا عبدالرحمن لمكان آخر وبانتظار المحاكمة. كنت تتابع مع المحامى الذى وكّلته أمّه وفى نفس الوقت تتابع مع العاملين بتجارة عبدالرحمن العمل كى لا يتوقف.
_عادت البراء للمداومة فى الحضانة بعد انقطاع ما يقرب من شهر وبعد اتصال مدرّستها للاطمئنان وطلبها منهم أن تعود الطفلة. وجدت إيثار مشقة فى التنسيق بين كلّ الأعمال التى وُضعت على كاهلها من متابعة للمحامى , ومتابعة التجارة والمتابعة مع البراء فى الحضانة, ثمّ زاد عليها الزيارة التى تحصل عليها بعد عذاب وفى الغالب لا تتعدَّ الدقائق ولكنها تنعش الروح بعد رؤية الحبيب..
_حصلت إيثار على تصريح للزيارة بعد عذاب حيث أغلقوا الزيارة ولم يفتحوها إلّا لزيارة وفد حقوقى من الخارج اضطرهم لإجراء اجراءات تمثيلية تحفظ ماء وجههم أمام الرأى العام العالمى..
ذهبت الأسرة بأكملها للزيارة.
___________
_كان على سيف أن يستوفى بعض الأوراق لشخص كى يخرج من محبسه وكان عليه الذهاب للسجن المتواجد به السجين كى يتمم أوراقه, وهناك قرر زيارة رفيق له قت دراسته كان يخدم فى هذا السجن عند بوابة الزيارات.
وقفت إيثار فى طابور يصعب حصر طوله للزيارة, كانت منتشية تتحمل المشاق التى تسببها الشمس والزحام لأجل الدقائق المعدودة ولكن تلك المّرة تحمّلت لأجل لاشيء حيث رفضوا زيارتها, فهم لا يسمحوا إلّا لاثنين فقط وهن ثلاثة: إيثار ووالدتها وحماتها. ودّت إيثار لو تدخل ولكن كان عليها التنازل عن النشوة والسعادة لأجل واحدة من الاثنتين; فأمّها لم تزره منذ أخذوه ولم تراه ولم تقوَ إيثار على إبعادها والدخول بدلًا عنها وهى المنتظرة تلك الزيارة منذ وقت, وأيضًا لم تقوَ على إبعاد أمّه, فهى أمّه.
_دخلت الوالدة والحماة وانتظرت إيثار بالخارج تبكى وهى تحمل الصغيرة بين يديها. وكأن الصغيرة اعتادت تلك الزحمة وعرفت أن من خلفها فرحة لها, من خلف تلك الزحمة ترى والدها فبكت هى الأخرى بعدما لم تمضِ مع الداخلين . أحسّت إيثار بحزن الصغيرة التى كانت تضحك على استحياء منذ وقت ولكن حالها تغيّر بعدما خرجت عن الصف, وأحسّت أن عبدالرحمن هو الآخر سيحزن إن لم يراها فهو ينتظر الزيارة ليرى ضحكتها وليستريح من عناء السجن برؤية عيونها. جرت للداخل تحاول أن توصل الطفلة لأحد يدخلها لوالدها فمنعوها.
صرخت بصوتها الآمل أن " أريد أمّى" كى تأخذ ابنتى لأبيها..
لفتت الكلمة ونبرة الصوت ذلك الواقف خلف الزجاج فى حجرة التفتيش, لم تكن جديدة عليه تلك الكلمة أو تلك النبرة, سمعها من قبل وبحث عنها كثيرًا فلم يجد إلا اليأس. التفت ليرى إن كانت هى, كان يودّ لو التفتت ليرى إن كانت نفس النظرة, إحساسه يحكى له أنها نفسها, ليتها تدير رأسها ليرى العيون..
_طلب من الحارس الواقف على البوابة أن يسمح لها بالدخول وانتظرها لتخرج وليرى من كانت تزور؟؟ ولكنها خرجت دون أن ينتبه, فوفقًا للقانون الزيارة تستغرق وقتًا محترمًا ينص عليه قانون السجون للدول المحترمة لذلك جلس مستريحًا غير آبه بالوقت فهو درس هذا وقتما كان طالبًا, ولكن الزيارة استغرقت دقائق معدودة فلم يراها. سأل بعد وقت عن الزيارة فقالوا انها انتهت, لم يحاول الاستفسار أكثر عن الأمر حيث عاد لأصله وغلبته النزعة الشرطية . أخفى غضبه وحاول الاستفسار خفية عمّن كانت تزور المرأة التى كانت تهتف وتحمل طفلة؟؟ لم يجد ردًا حيث أنهم كُثر والأغلبية من النساء والأطفال.
عاد حيث جاء وقد قرر أن يعود مّرة أخرى ليرى تلك السيدة الهاتفة بنبرات يملؤها الشجن. لم ينسَ الموقف الذى فتح له بابًا للأمل ليجدها , وأكثر ما شغله أيضًا تلك الصغيرة التى نظرت له من خلف ظهر أمّها وكأنها تعرفه, وبدا هو الآخر وكأنه يعرفها, الطفلة بها شيء مختلف, شيء يدفعه إليها, أن يحملها ويضمّها..