الفصل الثامن و العشرون

156 5 0
                                    

_خرج من بيتها يلامس السماء ويبتسم للسحب المتفرقة التى ابتسمت له بالمثل بعدما حقق ما يصبو إليه, وسوف يجتمع بمن يحبّ عن قريب . خرج بعد الاتفاق على كلّ شيء . خرج وقد زاد ارتباطًا بإيثار وأمّه خاصةً بعدما عرِف أنهما وحيدتين فى تلك الحياة الدنيا بلا سند إلا هو , وأمان إلا منه ..
_كان يأمل أن يجدّ رجلًا يتمم معه اتفاقه فوجد أمّها أنثى تعادل ألف رجل . وكان هذا دافعًا قويًا للاستعجال بالزواج من جهته وضغطًا على أمّها لتوافق على الوقت الذى حدده وإيثار . إذًا , الزواج قريبًا , لا ينقص إتمامه سوى ذهاب عبدالرحمن للإسماعيلية للإطمئنان على حال المنزل الذى سيسكنه مع إيثار .
______
_ودّت أمّها لو علِمت سبب رفضها فى البدء ثم تغيّر الحال والموافقة . رأت أن الحديث معها فى هذا الأمر سيعكر صفو الفرحة والنشوة التى تطير بهما ابنتها فصمتت تشاركها فرحتها بنظرات العين ودموعها . ضمّتها إليها متعللة بأنها ستشتاق لتلك الضمّة عندما تذهب ولو كان الأمر بيدها ما تركتها تبعد عنهاأبدًا, وأنها ستكون على تواصل معها ليس عبر الهاتف فقط ولكن بالزيارات أيضًا .
لو ظنّت أن الكلام عن الرفض والموافقة سيكون سببًا وحيدًا لتعكير الصفو الذى ملأ فرحة إيثار لكانت مخطئة بل أنّ الحديث عن البعد عن أمّها التى لم تتركها أبدًا منذ نعومة أظافرها وترغدها فى براءة الطفولة حتى مواجهة الحياة كان سببًا أساسيًا يلزم البكاء والشعور بالخوف والحنين كلما جاءوا على ذكر الأمر . ما كان يمنعها من شوقها إلى أمّها حتى وجود عبدالرحمن بجوارها .
_مسحت أمها دموعها والتفتت إلى جدولين ملحوظين على خدىّها تمسحهما ثم أجلستها أمامها تطلب منها الانصات بحرصٍ لما ستقوله . كانت منها النصيحة الواجبة من كل أمّ لابنتها فى مستهل حياةٍ جديدة مع قرين جديد لا تألفه, وكان من إيثار الإنصات ومحاولة الاستيعاب تارة وإخفاض الرأس مدارةٍ لحمرة الخد من الخجل تارة , والابتسام وانزواء الحاجبين . كلٌّ كان حاضرًا من إيثار تعبيرًا عما تسمع من أمّها التى ما إن انتهت حتى احتضنتها وهى تبكى .
_حاولت إيثار التى تبكى هى الآخرى تلطيف الجو فطلبت منها عدم تضييع الوقت وسرعة القيام لتريا ما عليهما من تجهيزات تحتاجها العروس, وكان هذا دافعًا آخر للبكاء .
أسرعت معها إيثار تستخرجا بعض الصناديق المخبئة كمومياوات الفراعنة إما تحت الأسرة أو فوق خزانات الملابس أو بجانب من تلك الغرفة أو غيرها _ عادات أصيلة لدى كل أسرة مصرية لديها فتاة_ وكانت إيثار تضحك كلّما وجدت هذا الصندوق أو هذا وتذكر أمها بأن تلك الحاجة الملفوفة كبردية للتاريخ كانت من عام كذا وكذا وقت كانت إيثار فى فترة الرضاعة أو الحضانة فكانت أمّها تردّ بنفس الضحك ثم إقطاب الحاجبين دليلًا عن عدم رضاها عن جزء من سخرية ابنتها , وتبهها بأنه لولا حرصها على اقتناء تلك الحاجيات منذ وقتٍ لكان عليها الانتظار ما يقارب عام ويمكن أكثر على الزواج .
_كانت إيثار تقف على كرسى قريب وترفع يدها لتأتى بهذا الصندوق أو ذاك , وتميل بجسدها النحيل المموج بالثنايات الغضّة لتجلب صندوق آخر من تحت هذا السرير . بانتهاء التنقيب واستخراج المومياوات كانت التعب قد أدى مراده بها, فجلست على طرف سريرها تتأوه من ألمٍ ببطنها وظهرها . ودّت أمها لو ذهبت بها لطبيب لكن إيثار العالمة ببواطن الألم رفضت وتحججت بأن الأمر عادى . وحرصًا على روح المرح السائدة هذا اليوم بين الأمّ وابنتها, سخرت الأمّ من ابنتها بأن بتلك الحال لن يملك عبدالرحمن إلا أن يحجز غرفة بالمشفى بدلًا من شقة ليقيما بها , ولن يتحمل كثيرًا هذه الملاطفة , ويومًا بعد الآخر ستفتح الباب لتجدها أمامها بسبب كثرة التعب تلك الأيام ..
ضحكت إيثار أكثر ما ضحكت هذا اليوم , وطمأنت أمّها بأنها لن تسمح له بفعل هذا بل هى من ستفعل إذا احتاج الأمر . فضحكت أمّها بالمثل واستأذنتها تعدّ لها شيئًا دافئًا يهدىء ألمها . فاستغلت إيثار تلك الفرصة من الوحدة لتسأل الله أن يتمم لها أمرها على خير حتى لا ينفضح سترها .بعدما وصل عبدالرحمن بيته مع أمّه , وكان على عجلة , أجرى بعض الاتصالات ليكون جاهزًا للقادم . ثم جهز شنطة صغيرة بها بعض اللوازم والأوراق لسفر يوم أو اثنين والعودة السريعة . دخلت عليه أمّه قبل أن يذهب لتهنئه بالزواج وتدعو له أن يتمّ الله فرحته وسفره على خير ثم استطردت تسأله : لم أكن أعرف أنّك تحبّ إلى تلك الدرجة, حتى أنا لم أجد ومضة الحبّ تلك فى عينيّك تجاهى , مرحى بالسعادة !!, وأتممت , منذ متى ؟؟
خجل عبدالرحمن كفتاة تصمت بوجود الخاطب الذى يرغب بالردّ , وخجل أكثر حينما ذكّرته أمّه بما كان عليه عند إيثار , فهو الهادىء الوقور الذى لم تعهده أمّه بتلك الحالة . ولم يجد ما يقول سوى أن أمّه هى أغلى من يملك وأن حبّه لها ليس له مثيل ولا يعادله شيء حتى حبّ إيثار ..
_كان يردّ باقتضاب ولكلكة بالكلام لأنه لا يجد ما يقوله وإن كان أفضلهم فى الكلام والمجاملات . لاحظت أمّه هذا وتعرف أن ما قاله عنها صدق فاكتفت بهمزات العين والدعاء ثم الابتسام وخرجت وهى ترجو الله أن يفرح قلب وحيدها ..
حينها أكمل عبدالرحمن ما يفعل وأخذ شنطته الصغيرة وخرج مودعًا أمّه إلى المكان الذى سيبقى فيه تلك الليلة لأن عليه السفر فى اليوم التالى ولن يستطيع البقاء بمنزله ولا حتى بمنزل إيثار بعد الآن بسبب الظروف الأمنية

انكسار الروححيث تعيش القصص. اكتشف الآن