_لم يكن سيف فى حيرة من أمره ومشوشًا كتلك الفترة, فكان يرى نور ودموعها التى اصبحت لا تنتهى, ويتذكّر وعده لها بألّا تبكى أبدًا وأنه سيكون سبب سعادتها ولن يسمح لتلك الدمعات بالهروب من عينها, فيول بأنه سينسى البراء وسيتركها لعبدالرحمن وإيثار ويعود لحياته كما عهده بها,
ثُمّ يعود فيأخذه حنينه لابنته التى يتمنى منها ولو نظرة حبّ وامتنان كتلك التى أعطتها لعبدالرحمن حين رأته بعد الافاقة.. لا يدرِ كيف يوفّق بين نصفى قلبه المتناحرين للفوز بقرار من عقله..
كان أمله الوحيد هو عطف نور على البراء وحبّها لها وله هو الآخر.. يعلمها طيبة تلين بكلمة حبّ ولمسة حنان منه ولكنها تأبى حتى النظر فى عينه لئلا تؤثر نظراته عليها وعلى قرارها..
_بدأت حياته العائلية تسوء حتى عمله أهمله مع أنه يقضى وقتًا طويلًا هناك ولكنه لا ينشغل إلا بما جاءه من مصائب فى الفترة الأخيرة أو أفراح, فلا أحد يعلم نفسية سيف المتقلّبة ولا كيف يفكر؟؟
أوّل خطواته الصعبة, والتى كان يعدّها مستحيلة, هى نور وكيف يخبرها بالأمر كلّه؟؟ وتلك الخطوة رتبتها له الأقدار ونفّذتها عن طريق الصدفة التى جمعته بإيثار.. كان عليه الآن أن ينتقل للخطوة التالية وأن يخبر الجميع, خاصةً أهله, بأمر الصغيرة التى تحمل دمهم والتى يأمل بأن يلحقها باسمهم فى أقرب وقت, وهنا لن يكون عليه ضغط من أحد إذا طالب إيثار رسميًّا بأن تلحق ابنته به.._دخل بيت عائلته ذلك اليوم يقدم قدمًا ويؤخر الأخرى, تردد كثيرًا قبل أن يدقّ الباب ولكن يده سبقته وضغطت زر الباب, ودخل ليجد أبّويه فى مكانهم الذى لا يتغير وعلى عادتهم التى لم تتغيّر منذ وعي أهمية الأسرة واجتماعها, كم تمنى لو يجلس مع نور _فى يومٍ ما_ ذات الجلسة, ونظر حوله ليجد شقيقه بالجوار منهمك فى قراءة كتاب بيده, وتمنى لو تكتمل جلسته مع نور بانضمام البراء إليهم!!
يا له من أنانى!! يريد نور والبراء ويعلم أن نور أبدًا لن تجتمع مع البراء وعليه الاختيار..
ظلَّ واقفًا بعض الوقت ينظر إليهم, حتى بدون أن يلقِ عليهم التحية!! استدّعت وقفته ونظراته سخرية أخيه الذى وصفه بالتائه والفاقد عقله, وطلب إليه أن ينتقِ ما يشاء من المقاعد ليجلس, فلا يوجد أكثر منها هنا وإن كان لا بدّ فمقعده جاهز له..
انتبه لحديث أخيه والتفت إلى والديه وألقى إليهم التحية, وبعد أن أعطَى إجابات عن الحال والأحوال وعن سبب غياب نور هذا اليوم, جلس إلى مقعد وسط يستطيع من خلاله رؤية كلّ الموجودين..
جلس يتابع والديه فى صفوهما وتفاهمهما حتى من خلال النظرات, بدون كلام, واعتياد كلّ منهما الآخر بشكل لا يسمح لأحد بأن يعكر صفو تلك الألفة والجلسة.. لم يقوَ على قول أىّ شيء مما كان ينوى قوله, لم يقوَ على تعكر صفو تلك الجلسة بكلام يعرف أنه لن يكون له طائل أو فائدة ان قاله..
صمتَ وأدارَ بصره وانتباهه إلى شقيقه, كان يقرأ كتابًا كعادته ففكر سيف لو يبُح له بما يشغله, يعرفه يحبّ الحقّ وله حكمة وبصيرة وصبر لم يتوفروا لسيف وهو الأكبر منه, ودائمًا ما يكون رأيه صحيح ونصائحه أصوب..
رأى شقيقه كم سي مهتم به وبمتابعته فعرف أن هناك أمر يشغله ويريده فيه, لا ضير فهو يحسّ به من طريقته التى يعرفها, أولم يوصفه سيف بأنه ذو بصيرة؟؟ قام إليه وحاول أن يستدركه فى الكلام ليعرف ما شأنه ولكن من طريقة سيف وحرصه فى الحديث عرف أنه يخاف أن يسمعه أحد وأن الأمر صعب أن يعرفه والداهما.. أمسكه بحذر وأشار إليه بأن يتبعه لمكان آخر ليتحدثا بأريحية أكثر فتبعه سيف كمن يحمل ثقلًا وأحدهم سينزله عنه..
_وها قد أصبحنا وحيدين وتستطيع الكلام براحتكَ, قل ما عندك وأخرج ما فى صدركَ: قالها شقيقه بينما هو ينظر فى عالم آخر ويفكر كيف يبتدئ معه الحديث ويخبره بالأمر.. أعاد عليه الكلام بصيغة أخرى فانتبه سيف وهو يفرك يديه ويبتلع ريقه على مضض..
إذا أخبرتك ستتفهّم موقفى ولن تفعل مثلما فعلت نور بل ستساعدنى وتقف إلى جوارى؟؟ قالها سيف وهو يحاول أن يثبّت نظراته ويظهر بعض التماسك والثبات.. هزّ شقيقه رأسه فى حيرة وقلق من القادم وطلب إليه أن يحكِ ما عنده لأنه بدأ يقلق..
_طلب إليه الجلوس إلى جواره وأخبره عن كلّ شيء منذ رأى إيثار فى المرّة الأولى فى قسم الشرطة وحتى حوار المشفى ومعرفة نور, والزيارة وابتسامة البراء, وكذلك الرؤى والمنامات التى كانت تأتيه.. لم يترك شيئًا لم يقله, كان يفرغ ما فى قلبه كإناء مملوء بالماء وقلبه أحدهم ليفرغ كلّ ما فيه, وشقيقه يستمع ولا يعرف ماذا يقول؟؟ كان صامتًا مذهولًا من الأمر, فهو لا يدرِ كيف تحدث مثل تلك الحكايا؟؟ هو لا يراها إلا بالتلفاز ويقرأها فى الروايات التى تمتلئ بها مكتبته.. لم يجد ردًا سوى الصمت وسيف كان كالفرس التى أطلق له العنان فى مرج فقد كانت حموله ثقيلة ووجد من يسمعه ويشاركه بعضها..
_انتهى سيف وشقيقه صامت فهزّه يطلب منه الحديث والتعقيب على كلامه وأن يفعل شيئًا لا أن يصمت بدون كلام حتى ليبكِ كنور وإن كان هذا أخر ما يريده منه, هو بالفعل يريد مساعدة!!
ألن تتكلّم؟؟ قالها سيف وهو نافذ الصبر غير محتمل الصمت من أخيه.. أجابه بأنه لا يجد ما يقوله, فهو حقًّا لا يعرف ماذا يقول؟؟ وكيف تكون الحلول فى أمورٍ كهذه؟؟
سيف, كيف فعلتها؟؟ كيف قويتَ على ظلم إيثار؟؟ نطقها أخوه بعد صمت ولم يكن من سيف إلا صمت ثُمّ تبرير ما دفعه إلى ذلك: لم أكن بوعيّ, أنا شرحت لكَ الأمر, لا تكن مثل نور وتحكم علىّ بدون كامل دراية بالأمر, أرجوك ساعدنى..نظر إليه شقيقه بعين مشفقة وعين معاتبة فلا سبب يبرر تلك العملة ثُمّ قال: وماذا عن البراء؟؟ ابنتكَ, أستتركها؟؟
أطربته كلمة ابنتكَ, لطالما تمناها منذ رآها وتمناها من قبل, من نور, قال له بهمسٍ: وماذا عسانى أفعل بعد ما قلت لكَ؟؟ كيف أحلّ الأمر؟؟ أشر علىّ فأنا كالغارق ولا بر لى ..
لم يقل له شيئًا سوى انها ابنتكَ, أو لم تكن متأكدًا من هذا؟؟ إذا كنت متأكدًا مثلما تقول فمن حقّك وحقّ ابنتكَ أن تُنسب إليكَ وإلينا.. كم أنا سعيد لهذا!! لطالما تمنيت الأمر منذ تزوجت, لعلّ الله أخّر حمل نور لتنظر للبراء ولتكون سببًا فى عودتها إليكَ..
وجد سيف برًا يرسو إليه بعد كلام شقيقه, قال له متلهفًا: أو يكون كلامك على حقّ؟؟ أحقًّا أنتَ سعيد وأن من حقّى أن تعود إلىّ ابنتى؟؟ أشفق عليه شقيقه من لهفته وشوقه على عودة صغيرته إليه, وأحسّ بالصدق فى كلامه وأنه بالفعل يريد ابنته وأنها تمثّل له الكثير فأراد أن يُلطِّف الجو الذى اتشح بالحزن والصمت فسأله إن كانت الفتاة جميلة؟؟
أجابه سيف بنفس لهفته وان اتسعت عيناه وهو يقول بأنها رائعة وفائقة الجمال, وأخذ يعدد له محاسنها ويصف له ابتسامتها التى سحرته أوّل مرّة يراها والتى هى الرابط بينه وبينها فى الرؤى والمنام..
ابتسم شقيقه لحديثه ثُمّ سأله إن كان باستطاعته أن يراها ويزورها فى المشفى؟؟
أجابه مسرعًا: طبعًا تستطيع, بأىّ وقت نذهب..
ضحك شقيقه: حسنًا بأىّ وقت سأراها, سأرى ابنة أخى..
سعد سيف للكلمة الأخيرة وامتنَّ لمساعدة أخيه وتفهّمه موقفه, خاصة وأنه وعده بأن يحدّث نور ان استطاع..