الفصل الثاني والعشرون

5.4K 210 4
                                    

الفصل الثاني والعشرون
—————
ااانا !!...أنا ح..حححامل ......
هذه الكلمة البسيطة كانت كفيلة لان يخفض نظره على بطنها ليكتشف تدفق الدماء الغزيرة من بطنها اسفل كفها ...بسبب اصابتها بطلق ناري غادر
وضع كف يده فوق يدها محاولًا إيقاف النزيف بانهيار  غير مستوعب اصابتها يهز رأسه بعدم تصديق انها اصيبت من بين يديه يصرخ بوجهها :
-لا ...لااااا....لا ياشيراز ما تسيبينيش لا .....قومي ردي عليا ..أنا اسف والله اسف ....
شاهدها تستسلم  تودعه نظرتها الاخيرة ، وتغلق عينيها مع هبوط دمعه من عينيها المغلقة.
لم يدرك طلقات الرصاص التي  توقفت  حوله كأنه انفصل عن الجميع ولا لصوت من ينهره ليتركها لسرعة انقاذها ونقلها إلى المشفى ..كل ما كان يدور بعقله انه فقدها فقدها للأبد ليغيم عقله بسحابة سوداء احاطت به ليغمض عينه مستسلما لألمه.....
..............
حالة من الهرج والاضطراب والتحفز و اعصاب محترقة ...كل من بين باكٍ ومتألم ..ومن بين غاضب وثائر ..ومن بين متحسر ....ظل يراقب الجميع لعدة ساعات بروح شاردة فيما حدث ..نعم عدة ساعات كأنهما الدهر كله ...عندما وصله اتصال من ذراعه الأيمن وكاتم أسراره "جرحي"..بكشفه لاحد المتربصين لها لم يشعر بنفسه وهو  يهرول باتجاهها في محاولة منه انقاذها ..نعم كان يعلم اكتشاف عمته لوجودها ولكن لم يتوقع  ان تكتشف مكان اختبائها بهذه السرعة قبل ان ينفذ ما خطط له ....حتى ينأى بها عن اي اخطار .....لم يجد نفسه الا وهو يصرخ بهما محاولا تنبيههما للخطر المحيط بهما ولكنهما كأنما اصابهما الصمم المؤقت لينظرا اليه في رعب وصدمة  تفسر عدم فهمهما لما يدور ...ولكن لم  تخفى عليه نظره مالك  الشرسة   المختلطة  بالخوف  ..نعم الخوف ولكن ليس خوفًا منه على شخصه بل رعبًا عليها ..ليدخلها داخل احضانه يتسبث بها كأسد  يحارب من اجل لبؤته ..شعر بشعور غريب  يضرب صدره لذلك المشهد ولكن الموقف اكبر من ان يفكر او يدقق  في تلك التفاصيل .لحظتها  تفاجأ  بصدمته الاول بإصابة "مالك" عن عمد ..نعم يعلم ان اصابته  ليست اعتباطًا او عن صدفة ، وإنما إصابته جاءت حتى يفتح الطريق  لقناصها ويصيب هدفه الأصلي ،..الذي نجح في اقتناصه في اقل من الثانية بعد "مالك"...
اخفض نظره لقدميه العاريتين الملطخة بالأتربة وبعض الطين ينظر لهما بوجه غير مقروء ..كيف خرج بهذا الوضع من بيته كأن ضربه مس شيطاني ؟!...كيف تخلّى عن عنجهيته في لحظة غاب عنها عقله ...
رفع نظره عندما شعر بحركة مهرولة اتجاه ليجد جرحي متجهًا اليه بوجه متعرق :
-حازم باشا !!!...
-"سبع ولا ضبع "قالها حازم بتوعد واضح ..نظر جرحي حوله بحرص ويجيبه بصوت منخفض:
-اللي امرت بيه حصل ...وحطينا رجالتنا حولين البيت وبلغنا رسالتك ياباشا ...
هز رأسه ببطء بدون ان يحيد نظره عنه يحثه ان يكمل :
-طبعًا ست ثريا فضلت تهدد وشتمت الرجالة بس احنا عملنا اللي حضرتك امرت بيه محدش اتعرضلها ....
سأل حازم بحرص يريد ان يتأكد ان كل ما طلبه نفذ :
-والواد اللي هرب أنا عايزه حي.....
-وصلناله يا باشا قبل ما يهرب في الجبل ..طلع اللي كنا بندور عليه والمخفي اللي قتلناه من مطاريد الجبل ونزل ينفذ المهمة ويرجع ....
تحرك بعينه ينظر لتلك الباكية التي لم تترك مقعدها منذ عدة ساعات ليطلب منه الانصراف ولكنه شعر  بانه يريد قول شئ فيسأله بصرامة :
-حاجة تاني يا جرحي ؟!
أشار الاخير بكيس بيده لحازم يقول:
-أنا جبتلك لبس غير اللي غرقان دم يا باشا ..وحاجة لرجلك ...
مرر حازم نظره بين الكيس وجرحي بثبات للحظات ويأمره بوضع الكيس على احد المقاعد لينفذ جرحي طلبه بطاعة وينصرف لوجهته ..وقف ينظر لملابس نومه الغارقة بدمائها التي جفت عليه بوجوم وملامح قاسية ...
انتفض عندما وجد باب العمليات يفتح ليخرج منه الطبيب المختص ليتقدم هو وتلك الجالسة التي انتفضت هي الأخرى اليه يسألاه بقلق فيجيبهما على عجالة :
-الحالة قدرنا نطلع الرصاصة من بطنها والحمد لله ما صابتش اي عضو داخلي ...بس للاسف ما قدرناش طبعًا ننقذ الجنين ....
-جنين؟!....
كان ذلك السؤال من نصيبه هو لتتضارب لديه عدة مشاعر مختلفة لايعرف تحديدها ..هو دائما يخطط لكل خطواته بدقة ولكنه لم يضع بحسباته يوما ان تخرج من هذه الزيجة بطفل ....يشعر بنار اشتعلت بصدره ...تهدد بحرق الأخضر واليابس...
سمع صوت امينة الباكي يسأل الآخر:
-هتطلع امتى؟
-حالًا هتطلع بس هتكون تحت الملاحظة لان هي فقدت دم كتير ومحتاجين ننقلها دم ...وفصيلتها (....)مش موجودة حاليا في المستشفى....
يقطع حديث امينة بصرامة :
-أنا نفس الفصيلة  وممكن تأخذ مني ....
-طيب تمام ...اتفضل معايا ......
انصرفا تاركين تلك الواقفة تلتقط انفاسها براحة بعد ان اطمأنت عليها ..فاخرجت من جيب بنطالها هاتفها مسرعة راغبة في اخبارهم بأهم التطورات كما اوصياها بذلك ....
...............
في غرفة اخرى
......
جلس الحاج حافظ بركن بعيد عن فراش ولده الذي يقبع فوقه غائبًا عن الوعي...مغمض العينين  المحيطة بخطوط التجاعيد الذي زادت  في الفترة الاخيرة شعر  بثقل بجواره فوق الأريكة ..مع سماعه لصوت فزاع المهتز يواسيه  :
-ان شاء الله هتعدي علي خير ..الدكتور قال اصابته مش كبيره ..وشوية ويفوق من البنج .....
فتح عينه لتظهر خلف جفونه احمرارا يهدد بالخطر شاردا في ولده الوحيد المصاب لا يعلم ما هو الحل الأصلح ..فهو متيقن ان إصابته تلك عن عمد فهي رسالة تحوي الكثير من العقاب والتهديد على ما اقترفه.وتحديه لهم بإخفائها عنهم ...رغم بحثهم المضني عنها تلك هذه السنين .....فيجيبه بصوت يظهر عليه الألم :
-عارف يا فزاع مالك ده مش ابني وبس ..لا...ده بحس انه هو اخويا وابويا ..ده اللي طلعت بيه من الدنيا ..بعد وفاة امه أقسمت ان ما اجيب له مرات اب  واكسر بخاطره ..شوفته بيكبر قدامي زي النبته اللي برعاها ...كنت دايما بدعيله بصلاح الحال وان يعيش مبسوط في حياته ....بس للاسف أنا اللي كسرت ابني بايدي وانا اللي عرضته للهلاك ......تأثر فزاع من حديث الحاج حافظ فهو دائما يعتبره العوض عن ابيه وأسرته كلها التي كادت تغتاله هو الآخر بسبب ميراثه من ابيه ليحميه في بيته وهو بعمر الخمس سنوات ويتولى رعايته ورعاية أملاكه حتى اصبح رجلا يعتمد عليه ..اقترب منه يربت فوق ظهر حافظ بتأثر يبلغه بمشاعره :
-انت طول عمرك حنين يا حاج حتى معايا مع فزاع اليتيم ..فاكر لما طردت تاجر القصب اللي كان جاي يأخذ منك المحصول لما ابنه ضربني  بالقلم وعايرني اني يتيم ...وأصريت ان اضرب ابنه نفس القلم ردًا لكرامتي ....
ابتسم حافظ على تلك الذكرى البسيطة التي لم ينساها ابدا رغم عمره الصغير ذلك الوقت  فيشاكسه ويقوم بقرص أذنه بلوم زائف:
-وفاكر بردوا لما حذرت الكل ان ما حدش يناديك بفزاع اليتيم ..ها يا فزاع فاكر  ولا أفكرك .....
تألم فزاع بزيف يقول :
-اااه ...ياحاج ..خلاص فاكر فاكر ..مش هقولها تاني ....
تركه حافظ ينظر له بتأثر ودموع مهددة بالانطلاق :
-ربنا ما يحرمني منك انت ومالك ...اوعى تفتكر ان غلاوتك اقل منه ابدا انت ابني اللي ما خلفتوش  يا فزاع .....
سمعا همهمات صادرة من ذلك المصاب لينتفضا مقتربين منه يحثاه على الإفاقة
.......
يشعر باصوات وحركة من حوله كصوت والده وفزاع ولكنه لا يقدر على فتح اعينه يشعر كأن أكياسا من الرمل مثقلين بهما ...أراد النطق باسمها ...أين هي ؟...كان يصرخ باسمها كانت باحضانها لينتشلها احد من بين يده بقوة لم يستطع مقاومتها لتظهر بعدها غشاوة سوداء تحيط بعقله قبل عينه ...
أراد الصراخ باسمها ليعلم مصيرها ..لقد اصيبت مثله رآها بعينه تسقط ولكن !!!...بماذا نطقت ....لقد أخبرته بحملها ...حملها بابنه !!!!..لا يمكن ان يفقدها ويفقده مستحيل ...
-شيراااااز.
نداء صدر من حنجرته اشبه بالصرخة الملحة حتى يفيق من غيبوبته عنوة
يفتح عينيه على وسعها ينظر للوجوه التى تعلوه ممتنة لافاقته ..ممر عينه عليهما بريبة وتسآول ..ظل ينظر حوله يبحث عن شي يجيبه عن اسألته فيكتشف وجوده بحجرة خاصة بالمشفى فيسمع صوت والده المحبب :
-حمد الله على السلامة يابني ...حمد الله علي السلامة ...اخوك فاق. يافزاع ..فاق ...
ابتسم فزاع على كلمته ليقول :
-الحمد لله  يا حاج انه بخير ....
نظر لهما مالك بإرهاق ويسألهما بتوتر جلي:
-شيراز فين ؟...شيراز أضربت بالنار ...هي فين ؟!
حاول التحرك من فراشه فيشتد به الألم مكان إصابته فتخرج منه صرخة مكتومة ويحاول فزاع منعه وتهدئته يقول :
-اهدى يا مالك ..خديجة كويسة ...ارتاح انت بس ...
قاومه بضعف أراد التحرك للبحث عنها والاطمئنان :
-أنا مش هرتاح الا أما  اعرف جرالها ايه ..ابعد عني ...لازم اطمن عليها ...
تدخل حافظ في تهدئة ابنه :
—ما تتحركش يا ابني جرحك لسه مفتوح ..جرحك كده هيتفتح...
نظر مالك لمكان إصابته للحظات ...ليصرخ بعدها بوجههما :
-جرحي ؟....خايف على جرح في ذراعي ...شيراز ضربوها  ...!!!!إنتوا مخبيين  عليا ايه ؟
-مافيش حاجة مخبيينها ...خديجة لسه في العمليات واحنا كنا من شوية هناك ورجعنا نطمن عليك وسايبين امينة تطمنا ..اهدى انت بس....
أنهى  فزاع جملته بلهاث شديد وعروق  نافرة بعنقه
مرر مالك نظره بينهما بلوم واضح يسألهما بحذر متمنيًا ان تكون الاجابة بلا:
-انتو كنتوا عارفين انها حامل. ؟؟؟؟
اغمض فزاع عينيه بحسرة على حال صديق طفولته ليقول حافظ باستنكار :
حامل !!!!...حامل ازاي ؟؟؟؟!!!...
ظل مالك ينظر لفزاع نظرة جعلته يتمني ان تنشق ارضية الحجرة وتبلعه فيسأله حافظ بصرامة :
-انت كنت عارف حاجة زي كده ومخبي ياواد يافزاع؟...
ظل مطأطئ الرأس يلوم حاله على عدم أخبارهما ..يحاول تبرير ذلك ليقطع ارتباكه مالك بغضب :
-خلاص يا حاج الجواب  باين من عنوانه ...وضحت ...
قطع حديثهما الثائر رنين هاتف فزاع فيحمد ربه انه نجده من تحقيقهما فيفتح المكالمة يستمع بصمت للطرف الآخر ليظهر على وجهه الوجوم فيحاول الهروب من أنظار مالك المراقبة لكل حركة صادرة منه ..كيف سيخبره بموت ابنه الذي لم يكتب له الحياة ..كيف سيبلغه بان الرابط الوحيد بينهما قطع للأبد .....
..................

باليرينا الشرق( مكتملة)محولة للورقي الآن مع تعديل السرد وتحويلها للفصحى كلياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن