الفصل الثامن عشر

1.2K 112 25
                                    

"صلّى عليكَ إله الكون ما نظرَت
إلى بديع صنيع الله أحداقُ"💙!

•ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}💙


**************************************
#غيبوبة.
#ليصبح_كل_ما_تعيشه_غيبوبة_في_الحياة.
#زينب_إسماعيل.
#الفصل_الثامن_عشر.

"ورغم كل الظلام الكامن بداخلي، إلا أنه لا يكف عن محاولة إضاءتي، وأنا تضيئني تلك المحاولة!"
                                                     ياسمين رزق.

بدأ أحمد الحديث بلسان تثاقل رغمًا عنه وقد بذل مجهودًا كبيرًا لينوي إخبارها حقًّا بماضيه، ذلك الماضي الذي نال من قلبه مبلغًا لا يُستهان به، وليتها تدري أنه الآن كمن يحاول ترديد الشهادة بصعوبة لشدة سكرات الموت عليه وهو يحتضر!
_الحكاية دي من أيام ما كنت عيل مراهق في المدرسة، سلمى كانت جارتنا وكانت أقرب حد ليّا، بس مستوانا الاجتماعي كان مختلف؛ باباها كان بواب العمارة اللي قصاد بيتنا.
تنهد شاعرًا بألم يضرب صدره بقوة، والحقيقة أنه كان يحطم فؤاده إلى فتات، أغمض عينيه وكل هذا يزداد لكنه تجاهله ليتابع:
_دخلت هندسة، وبشرى كانت فتحت العيادة بتاعتها، وكنت بدأت أنشر مقاطع ليا وأنا بغني عالسوشيال ميديا وحققت نجاح، فقررت أفاتح أمي في موضوع سلمى، حتى لو هنتخطب وأتجوزها بعد الكلية، رفضت رفض قاطع، وبنت البواب إيه دي اللي أتجوزها، ودي بتلف على فلوسي و و و..، وقفت ضدها ووعدت سلمى إني أول ما أتخرج هنتجوز مهما كان، أمي طبعًا كانت ملاحظة إني متأثرتش بكلامها، وإني لسة تحت تأثير سحر سلمى - على حد قولها -، فعرفت إني هنفذ اللي في دماغي حتى لو موافقتش.
ابتلع ريقه وقد شعر بنبضات هادرة تكاد توقف قلبه المسكين من كثرة ما يعاني وهو يستعيد كل شيء، وكأنه نسيه!
_وفي يوم، أمي قالتلي إن سلمى بتقابل ابن صاحب العمارة اللي قدامنا، وإنه مواعدها بالجواز، وإنه مش أول واحد تلف عليه كده، مصدقتهاش، قلت إنها بتوقع بيني وبين سلمى وتجاهلت الموضوع، ومكانش عندي شك ولو واحد في الماية إن سلمى ممكن تكون كده، لحد ما حكتلي بنفسها!
تشنج شاعرًا بأنفاسه تكاد تزهق، واستعاد ما سلبه منها على كف نور الذي أحاط ظهره، وكم كان بحاجة لضمتها؛ خصوصا الآن!
_كفاية يا أحمد، كفاية يا حبيبي طالما الموضوع هيتعبك كده.
قالتها وهي تحتضن وجهه بكفيها، لينفي وهو يبعد يديها متابعًا:
_لأ هكمل!
بدأ يقص عليها مقابلته لسلمى، وكأنه يراها الآن!
_يعني إيه يا سلمى!
أولته ظهرها لتضم كلتي يديها قائلة:
_يعني أنت كارت محروق يا أحمد، أكيد مش هتخسر أهلك عشاني، وأنا مضمنش مامتك تسحب منك الورث قبل ما تتم الـواحد وعشرين وتقف قصادها.
_سلمى أنا بحبك!
ألقاها بصدمة، وكأنه حقا يذكرها بطبيعة العلاقة بينهما لترمش قائلة:
_وأنا كمان، بس الحب مش كل حاجة.
لم يستوعب قسوة حديثها، فراجعها علها تمزح!
_سلمى قولي إنك بتهزري، قوليلي إن ده كدب وأنا هصدقك!
وازدادت قسوتها حين علا صوتها بنبرة حادة:
_الكدب هو الحياة الوردية اللي أنت عايشها، فوق بقى!
فتح عينيه بصدمة، وكأنها كانت هنا الآن، وقد استفاق حقًّا بعد صرختها به!
_سابتني وأنا مش دريان بالدنيا حواليا، أنا فاكر وقتها رحت لأمي وعيطت جامد في حضنها، جامد أوي، كانت أول مرة أتجرح بالشكل ده، وكانت أول مرة أعيط بعد وفاة بابا الله يرحمه.
تنهد مبتلعًا ريقه ليكمل:
_قفلت باب الحب والجواز ده من حياتي تمامًا، وبعد امتحانات الترم الأول في سنة أولى؛ اكتشفت إن أمي عندها سرطان في الدم، وللأسف كانت في مرحلة متأخرة، وفي يوم، كنت عندها أنا وبشرى وطلبت مني أقعد قصادها عشان تتكلم معايا.
شعر بضغطة نور على كفه وكأنها تعلم أن القادم أسوأ، فأغمض عينيه يستعيد ما حدث منذ سنوات..
_أحمد أنا عايزاك تسامحني يا ابني.
قالتها بوهن شديد لينحني أحمد ملتقطًا كفها مربتًا عليه بحب وهو يقول:
_أسامحك على إيه بس يا أمي، مين اللي يسامح مين!
سعلت بشدة، وتابعت بصعوبة بالغة:
_عاللي عملته فيك يا ابني؛ سلمى كانت بنت كويسة، وأنا اللي هددتها عشان تبعد عنك وخليتها تقول الكلام اللي قالته، وقولتلها إنها لو بتحبك بجد مش هتتجوزك وتخلي أمك تغضب عليك، كنت عارفة إن حبك ليها أقوى من إنك تصدقني، فخليتها تقولك الكلام ده بنفسها، كنت عامية وشايفة الفرق الاجتماعي اللي بيننا بس، مشفتش حبكم لبعض واللي كان قادر يتجاوز أي فروق، أنا آسفة يا ابني، سامحني.
_أسامحك!
همس بها بعدم تصديق ليتابع:
_ليه؟ ليه عملتي فيّا كده؟ هنت عليكي؟ هان عليكي تشوفيني مكسور قدامك ودموعي مبتجفّش؟ ليه تظلمي بنت بريئة لمجرد إنك مبتحبيهاش عشان مستواها الاجتماعي قليل؟ هي كانت اختارته! مفكرتيش إن عندك بنت وممكن ظلمك ده يترد فيها!
_أحمد!
نظر لبشرى التي صرخت باسمه لتجاوزه الحد في الحديث مع أمه، وإن أخطأت؛ تظل أمه!
_راعي كلامك، ومتنساش اللي بتحاسبها دي أمك.
_أمي!
وكأنه لم يعد يمتلك تعبيرات سوى الدهشة والصدمة!
_أمي اللي سابتني أتعذب قدام عينيها!
حرك رأسه يمينًا ويسارًا، يرفض تصديق ما يحدث له، وقد كان تجاوز سلمى وانتهى الأمر، أو ظن نفسه تجاوزها لينهيه عنوة!
أفاق على صرخات بشرى باسم والدته التي تعتذر له بتقطع لبدء غياب نبضاتها، ليصرخ هو الآخر:
_ماما، ماما متعمليش فيا كده، ماما انا آسف والله، متزعليش مني، أنا مش قصدي أضايقك، عشان خاطري قومي.
وليتها تقوم، وليت توسله يجدي نفعًا، وليت دموعه تنعش قلبها الذي توقف عن العمل لتصعد روحها إلى بارئها، وليت كل ما تلا ليت يجاب!
_أسبوع، عدى عليا أسبوع وأنا تايه، أمي وبشرى وسلمى كانوا كل حاجة ليا في الدنيا، مكنتش قادر أصدق إن أمي أذتني بالشكل ده وبعدين سابتني وراحت!
ومع بحثي المتواصل عن سلمى؛ عرفت أجيب رقم تليفونها وسكنها، رحتلها البيت ملقيتهاش، فاتصلت بيها.
عاد لدوامة ذكرياته، وهو يستعيد علمه بحادث سلمى؛ حين أجابت على هاتفها إحدى ممرضات المشفى، ولا يعلم حقًّا كيف أسعفته قدماه للوصول إليها!
_جريت عليها زي المجنون، وبشرى أصرت تسوق عني، حالتها كانت حرجة وممنوع حد يدخلها، بس بشرى عرفت تتوسطلي، ودخلتلها!
رمش بنهيج أصابه من ألم قلبه، وكم كان يتمنى لو توقف مع توقف قلب أمه!
_كانت متوصلة بمحاليل وأسلاك وأجهزة ووشها متدمر!
_أحمد!
قالتها سلمى داخل حلمها الذي لم يفارقها يقظة ومنامًا، وكم تشعر بالاستياء من نفسها؛ كونها تتمنى أن لو أخبرته الحقيقة فتصبح أنانية، وهل تعتبر الأنانية في الحب إثمًا!
احتضن أحمد كفها قائلًا بدموع:
_أيوة أحمد يا حبيبتي، وحشتيني، سبتيني ليه يا سلمى؟
دمعت عيناها هي الأخرى، وكم هي سعيدة بأنه ليس حلمًا، وحتى لو كان؛ يكفيها أن تموت وهو آخر من تراه، وإن كان سرابًا!
لم ينتبه أي منهما لأن البُعد كان عقابًا لعلاقتهما غير الشرعية، فتماديا!
_مكنتش عايزة أعملك مشاكل، أنت هنا بجد صح؟ أنا كنت خايفة أوي أموت وأنا في نظرك خاينة، أنا عمري ما حبيت حد غيرك يا أحمد!
هز رأسه يمينًا ويسارًا، يرفض لفظ الموت في حديثها، وهل أفاق من صدمته في موت والدته حتى يفقدها هي الأخرى!
وفقدها!
لم يكن منتبهًا لصفير الجهاز ، على عكس بشرى التي كانت تتابع حديثهما بأعين دامعة لتطلب الطبيب فورًا!
_البقاء لله، شدوا حيلكم.
قالها الطبيب بمواساة وهو يربت على كتف أحمد الذي سقط على الفور، وكأنه لكمه ولم يربت على كتفه!
تساقطت دموعه تباعًا لينظر عبر السرير المتحرك الذي خرجوا به من غرفتها، وهي فوقه مغطاة حتى الرأس، ليصرخ:
_سلمى، سلمى لأ مش هتسيبيني، مكانش قصدي أبعد عنك، سامحيني، سلمى عشان خاطري قومي!
ضمته نور شاعرة بألم قلبه، وما شعرت به إلا من ألم قلبها، فكيف هو!
علت شهقاته وكأن سلمى ماتت الآن وليس منذ سنوات ليقول:
_سابتني بعد أمي بأسبوع، فقدتهم ورا بعض، بعدوا عني سوا، متبقاليش غير بشرى، فقررت أبعد أنا عنها خوفًا من خسارتها، كنت دخلت في حالة نفسية وحشة أوي!
خفت صوته تدريجيًّا بعد أن تنفس سريعًا عند انتهاء ثورة بكائه، ليتابع:
_هاجرت للبنان، سلمى كان نفسها تعيش هناك، بقيت بتكلم باللهجة اللبناني لمجرد إنها كانت بتحبها وبتقلدها، وبتحلم باليوم اللي تكون فيه بتتكلم بيها في البلد دي بجد، قفلت تمامًا باب الحب والجواز من حياتي، وبلا رجعة!
نظر لعينيها لأول مرة منذ بدأ الحديث، وابتسم بحزن وهو يرى دموعها تهطل بلا حساب، وقد عجزت عن مواساته مجددًا، ليحتضن هو كفيها قائلًا بحب:
_لحد ما قابلتك!
رفعت عينيها الباكية إليه ليتابع:
_لحد ما لقيت طعم جديد للفرحة، لحد ما حسيت بالسعادة في وجودك، كان جوايا إحساس قوي إنك موجوعة وإن واجب عليا أداويكي، كنت حاسس إن أنا المسؤول عن طلاقك من عز، كنت شايفك لازم تبقي مراتي أنا، بنتي اللي لازم أحميها، وصاحبتي اللي بحتاجلها، وأمي اللي مبيساعنيش غير حضنها، كنت..
خانته دمعة في السقوط، لتتبعها دمعات كم كان يكتمها، وبكى ليزداد بكاؤها، ولحظات مرت لم يشعرا فيها بشيء وهما يضمان بعضهما البعض!
ظلا هكذا لفترة طويلة، وحينما ابتعدا، مسح دموعها قائلًا بابتسامة حزينة:
_عرفتي بقي مين سلمى؟
نظرت له بحزن، وتعلم كم تألم حتى يبوح بكل هذا لها، فاحتضنت وجهه بين كفيها وهي تقول:
_قدرت تشيل كل ده جواك لوحدك! كنت بتداويني إزاي وأنت أصلا موجوع كده!
سحب كفها الأيمن من فوق وجنته ليضعه فوق شفتيه مقبلًا إياه وهو يجيب بحب:
_ببساطة شديدة؛ حبيتك!
اتسعت ابتسامتها رغم سيل الدموع الذي حفر طريقه عبر وجنتيها، لتمسحه سريعًا وهي تقول بوعد صادق تتمنى لو كانت قادرة على تحقيقه:
_أوعدك يا أحمد إني هعوضك عن كل وجعك، زي ما أنت عوضتني عن كل حاجة وحشة مريت بيها في حياتي.
ابتسم جاذبًا إياها في ضمة هادئة لقلبه، وكم يتمنى حقًّا لو تصبح بخير؛ لتهون كل أوجاعه!

غيبوبة "ليصبح كل ما تعيشه غيبوبة في الحياة" {مكتملة}💙! حيث تعيش القصص. اكتشف الآن