الفصل الثلاثون

940 67 4
                                    

"‏صلى عَلَيْك اللَّهُ يَا مَنْ حُبّه
‏قد بصّر الْأَلْبَاب بَعْد عَماها"💙!

•ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}💙


**************************************
#غيبوبة.
#ليصبح_كل_ما_تعيشه_غيبوبة_في_الحياة.
#زينب_إسماعيل.
#الفصل_الثلاثون.

"إذا ضمن أحدهم قلبك سيضمن مغفرتك، وإذا ضمن مغفرتك فسيؤذيك بلا رحمة!"
                                                               دوستويفسكي.

صدمة وخوف احتلا أوجه الجميع رغمًا عنهم ليقترب فارس متسائلًا بعدم تصديق:
_أنتي قلتي إيه!
صمتت ولم ترد ليمسك بذراعيها صارخًا:
_ردي عليا أنتي قلتي إيه، وإزاي لسانك طاوعك أصلًا!
ابتسمت بسخرية وتود لو توجه نفس الحديث إليه، كيف طاوعه لسانه أن يجرحها بهذا العمق وقد أعطته كل الحب، كيف!
لاحظ لمعة عينيها التي حاولت جيدًا أن تطفئها حتى لا يتبين حاجتها للبكاء، لكنه انتبه وانتهى الأمر!
أبعد فارس يديه عنها ليقول بتوسل:
_ريم أنا آسف، أنا عارف إني غلطان، ومستعد أكفر عن ذنبي باللي تطلبيه، بس كله إلا الجنان اللي بتقوليه ده، أنتي متقدريش تبعدي عني، وأنا كمان يا ريم، أنا بحبك.
قال آخر كلمة بألم شديد، وحقًّا لا يتخيل أن تتركه بعد كل ما مرا به، ليجد دمعاتها تحررت وهي تقول:
_بالظبط! أنت ضمنت حبي ليك وعرفت إني مش هقدر أعيش من غيرك فخلفت وعدك معايا، قلتلك زمان بلاش جرح يا فارس عشان مش هستحمل، وأنت الحاجة الوحيدة اللي طلبتها منك معملتهاش!
ثم تابعت باختناق:
_أنت دبحتني.
هز رأسه يمينًا ويسارًا وبداخله يلعن نفسه ونور وتعلقه المرضي بها، فيما تحركت ريم نحو أحمد لتقف أمامه قائلة بضعف:
_أنا مليش حد، وأنت قلتلي إنك بتعتبرني أختك، لو بتعتبرني أختك بجد يبقي هتقف في صفي وتردلي كرامتي، وأنا من حقي الحرية، هتساعدني يا أحمد؟
نظر أحمد لفارس المصدوم بحزن ثم لريم التي تتوسله بتيه، ولا يعرف حقًّا كيف يتصرف!
_ريم أنا عارف إنك مجروحة، لكن عارف كمان إن روحك في فارس.
_مبقاش فيا روح يا أحمد، أنا بقيت جسم من غير روح!
قالتها بانهزامية شديدة، وصدقًا تشعر بخواءٍ داخلها، وجرح ترى أنه لن يلتئم!
_أنا مش هقولك سامحيه ولا اديله فرصة، أنتي تقعدي معانا هنا كام يوم تغيري جو، وتحطي في بالك كل حاجة، وأهم حاجة تنتبهي ليها إن خراب البيوت مش بالساهل، روح أنت يا فارس دلوقتي.
تحرك فارس نحوها ليقول قبل مغادرته:
_خدي وقتك واهدي على مهلك، بس برضه مش هطلقك.
أمسكت نور بيدها قائلة بلهفة:
_صح، خليكي معانا وخدي وقتك في التفكير.
نظرت لها ريم بطريقة لم تستطع نور فهمها، لتراها تبعد يديها وهي تردد:
_مش عايزة أقعد مع حد، وبالذات معاكي!
شعرت نور ببرودة شديدة تغطي قلبها، ثم تساءلت بعدم فهم:
_بالذات معايا ليه يا ريم!
صرخت ريم وقد فاض بها الكيل:
_أنتي إيه يا شيخة! طول السنين دي وأنا بقنع نفسي إن ملكيش ذنب في كونه بيحبك، وإنك مريتي بحاجات صعبة ومش ناقصة، وعايشة بحاول أكمل ومخسركيش، لكن أنتي عملتي إيه؟ جيتي بعد أكتر من عشر سنين تفتحي جرح الماضي، إيه اللي خلاكي تيجي فجأة عندي وتتكلمي معاه، أنا كنت عارفة إنه بيبعد عشان ميحنلكيش وكنت بصدقه لما يقولي إنه نسيكي عشان أنا عايزة أصدقه حتى لو واثقة إنه كداب، إيه اللي خلاكي تعملي كده، أنا مبقتش عارفة ألاقيلك عذر، أنتي اتأذيتي كتير آه بس اتعوضتي أكتر، لكن أنا متعوضتش غير بيه، وحتى هو كان مسكن، وآدي تأثيره راح!
هناك مقولة نصّها "لا علاقة لي بطيب نواياك إذا كانت أفعالك تؤذيني!"، ونور بالغت في أذاها دون أن تقصد، لكن في النهاية.. ريم تعرضت لأبشع أنواع الأذى؛ الأذى في القلب!
أحد أقسى المشاعر على الإطلاق هو أن ترى نفسك سيئًا في عيون الأقربين؛ حيث يرون نواياك شديدة السوء، ولا أحد ينتبه إلى أنك صاحب نية حسنة شابها السوء رغمًا عنك!
_أن.. أنا مكانش قصدي!
قالتها نور بصعوبة من بين شهقاتها المختنقة لتندفع ريم للخارج وهي تخفي بقية دموعها، فيما استندت نور إلى أحمد الذي لم يمَل الوقوف بجوارها، لتقول بتيه:
_أنا مقصدتش يا أحمد!
أومئ بحزن:
_أنا عارف.
ثم احتضنها لتفرغ بين ذراعيه كل الطاقة السلبية التي بداخلها على هيئة دموع، فيما انسحب عز وهو يشدد على كف عين حتى وصل بها إلى منزلهما.
حاولت عين الهروب بوجهها المليء بالدموع وهي توليه ظهرها قائلة:
_أنا هطلع أشوف زين جه من المدرسة ولا لأ عشان نتغدى.
_عين!
اضطرت للوقوف بعد مناداته لتحاول جاهدة كفكفة دموعها، وقبل أن تلتفت له وجدته أمامها، يتناول يمناها التي مسحت بها دموعها للتو بين كفيه بحُنُوٍّ بالغ، وهو يقول:
_عين والله العظيم أنا بحبك، أنا قلت لنور إني حبيتها، بس ده في الماضي، لكن الحاضر أنتي، والمستقبل أنتي، بشكلك البسيط وتفاصيلك المدهشة من غير تكلف، بلهجتك الجميلة وبشعرك الطويل وفساتينك اللي تجنن.
ثم أشار لعينيها قائلًا بمرح:
_أول مرة أشوف في الدنيا واحدة عينيها ملونة تلبس لينسز عشان تخليها سودة.
ضحكت رغمًا عنها، ومع ضحكاتها تحررت دموعها المكتومة لتردد من بينها:
_أنا بس كنت عاوزة..
قاطعها حين وضع سبابته فوق شفتيها هامسًا:
_اتكلمي بلهجتك، أنا عاوز عين مراتي.. وحبيبتي!
أعادت خصلة وهمية من شعرها للخلف كعادتها حينما تتوتر، لتقول:
_أنا بس كان بدي كون إلك الشي اللي بتحبه.
احتضن وجهها بين راحتيه قائلًا بعشق خالص:
_صدقيني أنتي أكتر من أي حاجة حبيتها واتمنيتها.
وبعد كلماته تلك؛ لم يسعْها إلا أن تلقي بنفسها في أحضانه قائلةً:
_أنا كتير بحبك، لا تبعّد عني أبدًا.
شدد من احتضانها قائلًا:
_عمري.
وبعد دقائق ابتعدت عين بخجل تجاوزه عز بقوله:
- يلا اطلعي غيري اللي أنتي عاملاه في نفسك ده ورجعيلي عين البريئة بتاعتي.
ابتسمت بسعادة بالغة إثر كلماته التي أعادت لها ثقتها بنفسها، وقبل أن تصعد لغرفتها لاحظت أنه يحرك يده نحوها لتجده يمسك بإحدى خصلاتها قائلًا:
_يا حسرة قلبي عالشوية اللي قصيتيهم دول.
وحينما شعرت به حقًّا يحب شعرها بطوله قالت بحماس:
_لا تضايق، شوي وبيطول، شعري بالأصل كان هاد طوله، بس بالفترة الأخيرة أنا اللي تركته ليطول.
- ماشي يا ستي أما نشوف، اطلعي يلا وأنا هطمن على زين وهشوف الدادة خلصت الغدا ولا لأ.
أومأت بفرحة احتلت كيانها لمجرد كلمات قالها لها، ثم اندفعت نحو غرفتها لتعود لذاتها، فيما وقف هو يؤنب نفسه قائلًا:
_حقك عليا يا عين، قد إيه أنتي خسارة فيا.
ثم صعد هو الآخر ليطمئن على ابنه.
أحيانًا تصبح البراءة ذنبًا والطيبة سذاجة، بل إن هذا هو الشائع الآن في مجتمعنا، ورغم احتواء عز للموقف ببراعة إلا أن برائتها اللامتناهية كانت السبب لحقيقي لتمكنه من ذلك، وليته لا يلوث براءتها تلك أبدًا!

*********************
دخل فارس إلى منزله ليلقي بنفسه على الأريكة بانهزامية، في الوقت الذي ظهرت فيه رقية وهي تضع هاتفها - الذي لم يكف عن محاولة الوصول لأي من هاتف ريم أو فارس دون جدوى - على الطاولة، ثم اقتربت منه بقلق بدا جليا على محياها لتتساءل:
_فيه إيه يا فارس، أنت كنت فين؟ وفين ريم!
_ريم مش طايقاني، مبقتش عايزاني يا رقية.
جلست رقية ولازال القلق يحتل ملامحها، منتظرة أي تفسير لحديث فارس، والذي تابع:
_هحكيلك!
دقائق قضاها في سرد ما حدث، لتنتفض رقية صارخة به:
_تاني نور يا فارس! أنت مبتحرمش! مش كفاية اللي حصل لرنا، كمان ريم! ولا نسيت إنك دبحت رنا بالبطيء لحد ما ماتت مقهورة وهي بتجيبلك طفل يفكرك بيها؟ كمان ريم اللي فضلت طول عمرها بتعشق التراب اللي بتمشي عليه وبتتمنالك الرضا ترضى! أنت إزاي تعمل كده!
بعض الملح فوق الجرح كان كفيلًا بقتله مرات ومرات وهو لايزال حي يرزق، كلماتها كانت أشبه بسهام تخترق صدره بلا رحمة، وعتابها كان كحبل مشدود يلتف حول عنقه دون تؤدة، وهو بين هذا وذاك مضطر للمقاومة.. حتى يعيش!
ابتلع فارس ريقه وكأنه يبتلع شوكًا، ثم تنهد ببكاء هادئ ليقول بتيه:
_أن.. أنا غصب عني!
_كفاية بقى، كل مرة غصب عنك، أنت مش عيل صغير يا فارس عشان تفقد السيطرة على نفسك بالشكل ده، هتفوق امتى!
أمسك فارس بكفيها متوسلًا ببكاء بدأ يزداد:
_بالله عليكي يا رقية ساعديني، أنا تايه ومحتاجلك تقفي جنبي بدل ما تقطميني.
تناولت يده بين قبضتيها، ثم رفعت يمناها لتحتضن وجهه وهي تمسح دموعه قائلة بدموع غلبتها:
_حقك عليا يا حبيبي، مش قصدي أقسى عليك.
وهنا ارتمى فارس بين أحضانها باحثًا عن رقية التي مهما أخطأ تعفو عنه، رقية التي كلما جُرح ضمدت جراحه، رقية الحنونة، رقية الأخت، رقية الأم!

غيبوبة "ليصبح كل ما تعيشه غيبوبة في الحياة" {مكتملة}💙! حيث تعيش القصص. اكتشف الآن