ما زالت أصداء الماضي تتردّد في مسامعي،
وكأنه لم يمرّ على فراقها سوى الأمس!
تلوّت بقوة تُنازع ذلك الكابوس المقيت الذي سيطر على منامها وهي تهذي بكلماتٍ متفرقة لا يُفهم منها سوى القليل.
صوتُ تلك الضحكات التي لطالما أرعبتها في صغرها بات قريبًا جدًا منها حتى اختلط واقعها بحُلمها وظنّت أنها عادت إلى ذلك الزمن البعيد؛ إلى حيث لاقت من الأحزان ما كان كافيًا لجعلها تزهد الدنيا.
شهقت بقوة تُحاول السيطرة على تلك الأصوات التي تتردّد داخل عقلها بقوة، وجسدها ينتفض بقوة على أثر ذلك الكابوس الذي ينهش منها ما بقي من ثباتها الواهي.
"فيه حد محترم يعلي صوتُه على حد أكبر منه؟"
ذلك السؤال الذي لطالما واجهتها به ابنة العم بعد كل مُواجهة تُفقدها فيها أعصابها، لتنقلب الأمور في غمضة عينٍ من بعده، وتصبح هي الجانية لا الضحية.
هزّت رأسها بقوة تُحاول إخراج نفسها قسرًا من تلك الخيالات التي سيطرت على راحتها وكادت تُزهق روحها، لتشهق من جديد وجبينها يتفصّد بعرقٍ غزير، وجملةٌ أخرى من ماضٍ ليس بقريب يتردّد صداها هي الأخرى؛ لتعيث بداخلها فسادًا ليس بالقليل..
"باباكي ومامتك ماتوا بسببك، انتي السبب في كل حاجة وحشة بتحصل، كلهم بيكرهوكي وعارفين إنك السبب بس بيمثلوا عليكي عشان انتي عيوطة وجبانة.. يا جبانة".
انتفضت من جديد وهذه المرة باغتها صوتٌ مُختلف يهمس لها بفحيحٍ غريب:
"وإيه يعني اتجوزت عليكي؟ دا شرع ربنا، ثم إن بنت عمك المصونة بذات نفسها كانت معايا وأنا بتجوز، بل وهي اللي طلبتلي إيد العروسة كمان وحضرت كتب كتابنا".
ومن ثم هاجمتها ذكرى أخرى.. لصوتٍ مُمزق يصرخ بقوة رغم انهيار صاحبه:
"مش مسامحاكي.. حرام عليكي.. منك لله على اللي عملتيه فيا.. مش مسامحاكي يا حفصة.. انتي السبب.. انتي السبب.. أنا بكرهك".
تأوّهت وهي تشعر بألمٍ حارق يضرب فروة رأسها، لتأن بقوة ورأسها يعود بها لذكرى فقدت بها جزءًا ليس بالقليل من شعرها على يد "تالا" لسببٍ من "تفاهته" لا تتذكّره حتى، هي فقط تتذكّر جملتها التي صاحبت جذبها لرأسها بقوة وقد التمع المقص بيدها ببريقٍ مُخيف كاد يُفقدها دقات قلبها في ذلك الحين، وما زال يفعل..
"محدّش في البيت دلوقتي يا حفصة، وعشان كدا هعاقبك دلوقتي، عارفة ليه؟ عشان انتي naughty girl مش لاقية اللي يربّيها، وأنا بقى هربّيكي".
شهقاتٌ عنيفة صدرت منها تُحاول بها التقاط أنفاسها التي تكاد يزهقها الألم، لكنها لم تُفلح في ذلك وذكرياتها لا تزال تتردد بقوة في جنبات عقلها.
والذكرى الأسوأ من بينهم لاحت في الأفق رغم أنها جاهدت كثيرًا لدفعها بعيدًا لكن دون جدوى..
"- انتي كنتي عارفة إن بدر اتجوز عليها يا تالا زي ما بيقول؟
كان سؤال الجد واضحًا، لكنها تجاهلته ببساطة وهي تهتف بثبات وعينيها مُثبّتة فوق "حفصة":
- تصدقي إن بدر أثبتلي إنك لسة عيلة عبيطة يا حفصة! سنة كاملة متجوز عليكي وملاحظتيش ولا شكيتي فيه حتى؟ so stupid بجد.
- احترمي نفسك يا تالا ومتتكلّميش بالشكل دا مع بنت عمك وردي على سؤالي وإلا قسمًا عظمًا ليكون حسابك معايا عسير.
رمقته بحدة وهي تتخلّى عن برودها الذي يُغلّف حديثها أغلب الأوقات، لتندفع فجأة صارخةً بعنف:
- هتعمل إيه يعني؟ هتحرمني من الميراث؟ ولا تكونش هتطردني من البيت؟ ولا هتجبرني أسافر وأروح أعيش مع ماما؟ ما هي تالا طول عمرها الغلطانة إنما حفصة هي الملاك بتاع البيت.. بس هرد عليك.. آه كنت عارفة، وكانت صحبتي، وخطبتهاله بنفسي وساعدته يتجوزها بعد ما حطيتها قدامه وخليتهم يتقابلوا لأكتر من مرة لحد ما وقع فيها وهي حبته وكتبوا كتابهم، وعارف هي مين؟ هاجر العياط.. أخت رياض العياط.. أولاد صديق أبوها الأنتيم".
وفي الظلام تُعافر وحدها، لا تدري أهي تُقاتل ذكرياتها، أم نفسها؛ واقعها، أم كوابيسها؛ ماضيها، أم حاضرها! لكن ما تدركه جيدًا أنها تكاد تموت من فرط الألم!
صرخةٌ قوية شقّت بها سكون الليل وربما تكون قد جرحت حلقها، لكنها صاحبت استيقاظها من تلك اللعنة التي كانت تطاردها.
بقيت ثابتةً في مكانها لا تقوى على الحراك وجسدها ينتفض بكل قوة، وعقلها لا يزال حائرًا بين الكثير من الأصوات التي تشغله، أنفاسها ضائعة، ونظارتها زائغة، حلقها جافٌ بشدة، والرعب يشق قلبها ليُراقصه على أوتار الخوف بحِرفية.
لحظاتٌ هي ما مرت واقتُحِمَت من بعدها غرفتها من قِبَل مجهول لم تملك أن تدير رأسها لتراه.
كانت لا تزال تتنفس باضطراب، لتستكين فجأة فور أن اشتعلت الأضواء وشعرت بتلك اليد الدافئة تربّت فوق رأسها بهدوء، وصوتٌ ناعم يحفظه عقلها عن ظهر قلب يتسلّل لأذنيها وهو يُردّد بعض الآيات القرآنية والأدعية والكثير من الاستعاذات، أزاحت اليد العرق الذي أغرق وجهها، وساعدتها لتعتدل قليلًا وهي تضع وسادة من خلفها حتى تستطيع التقاط أنفاسها براحة.
كانت أنظارها لا تزال شاخصة، مُثبّتةٌ فوق نقطةٍ واهية في الفراغ رغم أنها تشعر بما يحدث بجوارها، لكنها اكتفت بالشعور به دون التفاعل مع شيء.
شعرت بشيءٍ يُلامس شفتيها وبقطراتٍ باردة تقف على أعتابهم؛ ففرّقت بينهما قليلًا لتستقبل دفعات قليلة من الماء وأنظارها لا تزال مسلطة على ذات النقطة مع شعورٍ غريب أجبرها على ذلك ولم تستطع هي مقاومته أو إبعاد عينها بعيدًا.
عادت اليد تربّت فوق رأسها من جديد، ومن ثم شعرت بها تجذبها نحو ضمةٍ قوية جعلتها تشهق بقوة وهي تشعر أنها قد أفاقت لتوها من كابوسها.
تمسّكت بلا وعي بملابس الجالسة بجوارها لتتشبث بها برعب، ثم هتفت وهي تُخفي وجهها بصدرِ الأخرى:
- ابعديهم عني.. ابعديهم عني أنا تعبت.. أنا تعبت.. أنا.. أنا عايزة أتطلق.
. . .
أنت تقرأ
اضطراب -قيد الكتابة-
Romansaقلبتُ عيناي بين عمّاتي وأعمامي الذين لاحظتُ وقوفهم معًا بعيدًا وقد انشغلوا في الحديث سويًا، لأنتبه بعد لحظات إلى الباب الذي فُتح، التفتُّ لأرى من الآتي؛ لأرى عمي الأكبر "حسين" يدلف سريعًا، ليدلف من خلفه ذلك الشاب الغريب. شاب!! رمقتُه ببطء من أعلاه ل...