الفصل الثاني

3.2K 83 26
                                    

"تحت حكم الطاغية"
الثقة لن تُميت الإنسان، لكن الغرور الذي يخرج عن طور الثقة هو ما يقتله
********
بملامح جامدة وأعين متربصة يقبض على عصاه الأبنوسية براحته اليمنى والأخرى يُمسك بها سبحة فضية كان أتيًا بها من حجته الأخيرة، من الوهلة الأولى التي تراه فيها تظن أنه رجلاً كبيرًا تجاوز السبعين بمراحل اُختير من قِبل أبناء القبيلة وأسيادها ليتولى أمورها كشيخها، يستند على عصاه
لكـــن الحقيقة هو أن العصا هي من تستند عليه، والشيخ الكبير ما هو إلا معجمًا من الخبرة والحكمة.. والطغيان
ما يراه مناسبًا من وجهه نظره التي ستعود بالنفع على القبيلة أولاً هو ما يحدث، لا مجالَ للعواطف والأهواء في حكمه، كلمته لا تتجزأ وتسير كالسيف على أعناق الرجال الموجودين.. بعضهم يراه ظالمًا، والأخر المماثل لتفكيره يراه يخاف على قبيلته ويفعل ما هو صحيح حتى لا تهتز سمعتها بين قبائل البدو المعروفة... والأمر متباين حتى في أهله
فسلطان يراه حكيمًا كفاية ليصدر قراراته الصارمة، وعارفًا إلى أين ستؤول
وفراس ناقم على بعض العادات الذي يؤيدها جده
وسالم يراه مثلاً أعلى
وأولاده محمد والد رابحة يمتثل لأوامره دون نقاش ورأيه من رأي سلطان
عادل والد سلطان يرى أن بعض الأمور لا تؤخذ بتلك الطريقة التي يتبعها والده ويعارضه في بعض قراراته.. لكن في النهاية يتم الأمر كما أراد كامل الهاشمي
أما ابنته ابتهال فقد طالها مرارة حُكم والدها.. ومن حينها لا تأتي للمنزل إلا لماما
أما الفتيات بعضهن يحبه والأخر يكرهه ولا يطيقه وأكبر مثالاً هو رابحة التي لا تجتمع معه في شيء إلا وينتج عنه ضررًا لها، خاصة وهي لا تصمت ولسانها يسبق تفكيرها دائمًا

تفرسَ في جمع الرجال الكبار والشباب الجالس أمامه على جانبيه بصمتٍ وثير لا يستطيع أحدٌ أن يقطعه دون سببٍ وجيه، ثم تنحنحَ بعدها قاطعًا هذا الصمت المطبق ومتوجهًا بسؤالٍ نحو شابٍ يبدو على ملامحه التحفز الشديد ويجلس بثقة غير مباليًا بالمجلس الذي عُقد من أجله!!
-إذًا يا ذياب أنت تريد الزواج من ابنة السالمي دون أخذك بالاعتبار لتقاليد قبيلتنا..
تركَ جُملته معلقة ولم يُفصح بما تبقى في فمه وانتظر إجابة ذيـّاب التي أتت واثقة
-مع احترامي لك يا شيخ لكن السؤال لا يكون هكذا.. من المفترض أن تسألني هل تريد الزواج من الفتاة التي تحبها ووجدت فيها زوجًا لك وسأجيبك بكل تأكــيد بـ"نعم"
لم يضع عينه في الأرض ولم تتوتر كلماته بل كان رافعًا رأسه بشموخ لم يهتز لكــنه جلبَ همهمات وصيحات الاستنكار خاصةً من والده الذي هتفَ فور أن انهى ذياب جملته
-تأدب في حضرة الشيخ يا ولد يبدو أنك لم تتعلم الحديث في مجالس الكبار
-لا يا أبي لقد تعلمت بما فيه الكفاية ليجعلني جالسًا بين كبار القبيلة ولا أخشى شيئًا بل سأدافع عن حبي الذي تريدون طمسه بين عادات القبيلة التي من المفترض أنها اندثرت وها أنتم تعيدون إحيائها وبالطريقة الأكثر إيلامـًا للشباب
أنهى كلامه وبعينيه نظرة ثقة لا يشوبها شائبة، رجلاً يدافع باستماته عن حُبه الذي يريدون قتله وليتهم فعلوا وهو في مهده، بل هو توغل داخله حتى أصبحَ لا يقدر على الفراق.. سيموت لو تركَ "مليكة" لأحدٍ آخر.. هو لم يخذل حبها قبلاً عندما تقابلا في السر ولن يخذلها الآن وها هو يجلس كالأسد بين الرجال زائرًا بما يكنـه صدره دون خجل أو خوف.. كأي رجل يحمل نخوة، بينما تلون وجه أبيه الجالس بجانبه بالغضب وعادَ ليرد عليه ليسبقه أحد الكبار الذي له شأن في القبيلة
-عادات القبيلة التي تتحدث عنها بهذا الشكل المخزي يا ذيّاب هي من أعلت وأبقت اسم قبيلتك على مر السنين، جميعنا نسير عليها ولو على رقابنا لم تظن نفسك مُستثنى؟.. أم أنك تريد قيادة انقلابًا الشباب التي أصبحت تكره تقاليد العائلة الآن إن لم يكـــن الأمر على أهوائهم... أليس كذلك يا شيخنا؟
حوّل الرجل وجهه وحديثه نحو الشيخ كامل الهاشمي ليعطيه نظرة راضية قبل أن يستمع لذياب الذي صاحَ مستنكرًا فجأة
-انقلاب!! هل المطالبة بالحقوق الآن صارت انقلابًا من وجهة نظرك يا عمي؟؟.. يا عمي خاصةً أنت جميعنا نعرف بحبك الكبير لزوجتك قبل أن تتزوجا ومناداتك بهذا حتى اعتقدت أنك ستنادي بها في الجوامع ولو أنها كانت من قبيلة أخرى أما كنت لتحارب؟
اهتزت حدقتي الرجل فقد هاله الأمر من مجرد التفكير ثم أجابَ بجمود
-لا ما كنت سأفعل لأن أوامر القبيلة تمنعني والقبيلة فوق رأسي وقبل كل شيء
تراجع ذيـّاب ليستند بظهره على الوسائد البدوية قبل أن يظهر في عينيه نظرة شرسة قائلاً من بين أسنانه
-إذّا اعذرني يا عمي فأنا لست مثلك ولن أكون ... أنا رجلٌ يعرف كيف يدافع عن حُبه جيدًا وليس هناك شيءٌ أهم من عائلتي ونفسي مع احترامي للقبيلة ككيان دون قرارتها المجحفة
ارتفعت يد والده حتى تحط على وجنته لكن صيحة الشيخ التي صدحت جعلته يتراجع ووجهه محتقن بالدماء من شدة غيظه وأفعال ابنه التي صغرّته أمام كبار وصغار القبيلة وأما الشيخ الكبير، التفتَ إلى الجمع قائلاً بينما كتفيه تهدلا بلا حولٍ ولا قوة
-اعذروني فلم أربي ابني جيدًا حتى صار يتبجح أمام الكبار
-أنا لم أعد صغيرًا يا أبي لقد قاربت على الثلاثين من عمري.. لقد ربيت بما يكفي حقًا وأحسنت تربيتي لكنك علمتني ألا يأخذ عني أحدٌ قراري ولا يُجبرني على فعل شيء.. لقد علمتني كيف أكون رجلاً لم تُصر على عكس ما ربيتني عليه لتُرضي غرباء
قالَ الرجل مبهوتًا ومدافعًا عن نفسه
-علّمتك احترام القبيلة أولاً ثم هم ليسوا بغرباء هم عائلتك وأجدادك ويهمهم مصلحتك
أردفَ ذيّاب بصبر فقد عاهدَ نفسه ألا يخرج من هذا المجلس إلا وهو منتصرٌ بها
-وأنا أحترمها وأقدرها لكـني رجل لا تقيدني عادات ولا تجبرني قرارات "ثم صاحَ مستنكرً" لستُ فتاة لتزوجوني غصبًا عني!!!... من يهتم لمصلحتي يتركني أختار الفتاة التي سأتزوجها لا أن يزج بي أنا وفتاة أخرى لا ذنبَ لها في بيت يملئه الكراهية لأنني لن أحبها أبدًا
كان فراس يجلس بين سلطان وسالم على يمين الجد بعد أعمامه وأبيه، يستمع لما يحدث بقلبٍ مضطرب وجهٍ حانق، يعتقد الجميع أنه غير راضيًا عن قرارات ذيـاب لكنه كان مؤيدًا وبشدة... فهو قد وقعَ في خطيئة الحب المُحرّم من وجهة نظر القبيلة المُبجلة
عادَ بظهره للوراء حتى يصل الصوت لسالم وسلطان ثم همسَ بانبهار
-يعجبني حديثه.. فهذا ما يفعله الرجال
رمقه سالم بسخرية بينما أعطاه سلطان نظرة جانبيه من عينه وهمسَ بنبــرة شامتة
-لو لم تصمت سأخبر الجميع بما لديك أنت الأخر ولنرى كيف تتحدث يا "فتوة"
تجهمَ وجه فراس ثم عادَ يتحدث بنفس الهمس
-أنت لا تعرف لعنة الحب التي تصيبك دون إنذار أو طرقٍ على الأبواب.. ستجد نفسك غارقًا في تفاصيلها وحينها لن يكون مبدأك سوى شيئًا واحدًا " الجنون لا ينتهي في الحب.. والغاية تُبرر جميع الوُسائل"
-وطلع البدر علينا أليس كذلك؟ ... والله لو لم تصمت يا فراس سأخبر جدك
كان يتحدث بسعادة واجمة يتخيلها الآن بعينيها الفضية كقمر توسطَ سماءً خالية من النجوم فكان هو زينتها، ليفيق من حلمه على صوت سالم الساخر ليمط شفتيه بحنق محدقًا فيما يحدث أمامه واجمًا بقلبٍ مضطرب... كيف سيكون مصيره إذا اكتشفَ جده أمر حبه لبنون؟!!.. وما سيكون حاله في هذا المجلس الذي عاجلاً ام آجلاً سيُعقد من أجله!!
الموقف المشابه لموقفه وضعه بين شقي الرحي، يشــعر أن الأمر تخطى مشاعره ومشاعرها.. إرادته المسلوبة تحت سطوة عينيها... الأمر متفاقم لا يضمهما فقط بل يشمل العائلة بل والقبيلة بأكملها..
فاقَ من تفكيره السلبي على صوت الصفعة التي حطت على وجه ذيـّاب الذي بدا انه استنفذَ صبر والده هذه المرة فلم يحتمل وصفعه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل صدحَ صوت الشيخ كامل ليحط بقشته التي ستقسم ظهر الجالس أمامه متجهم الوجه ورافعًا رأسه بتحدٍ يسفر عن شجاعته
-لقد تركتك تقول ما عندك يا ذيـّاب وقد استفضت بلا خجل تسرد حبك لابنة السالمي.. ولكن اسمعني جيدًا لأني عندي ما سأقوله أيضًا
صمتَ متعمدًا ليبث الترقب والحذر في العاشق الماثل أمامه وغرضه قتل كل أملٍ قد يلوح داخله بالخطأ، ثم أكملَ ناظرًا بتحدٍ أكبر لمقابله
-لقد تحدثت مع كبير السالمية ووعدني أن نحل الأمر دون إثارة المشاكل أو الدم بين القبيلتين.. وقد أخذنا القرار في هذا الأمر الذي لن يجلب إلا العار للقبيلتين
عادَ يصمت للمرة الثانية، وهذه المرة كان القلق يدب في صدر ذيـــاب مضيقًا أنفاسه ومستعمرًا نبضات قلبه حتى مع كل حرف كان يخرج من فم الشيخ كان ينتفض قلب ذيـــّاب ألمًا عليه
-الفتاة ستتزوج بابن عمها كما هي العادات.. أما أنت فأرض الشمال التابعة لوالدك ستكون في ضيافتي قليلاً حتى تتزوج وتُنجب وريثًا لك، وثانيًا ستعمل في الأراضي التابعة للعائلة وستأخذك أجرك كأي عامل، ثالثًا الشهر القادم ستتزوج من الفتاة التي اخترناها لك أنا ووالدك .. وأخيرًا وهذا للجميع وليس لابننا ذيّاب فقط؛ لا أريد سماع أي حديثٍ في هذا الأمر ثانية ولو بمحض الصدفة ومن يُفكر لوهلة أن يقتدي بهذا الفعل سيكون عقابه النفي من القبيلة ولن يحصل على ميراثه وأراضيه .. أنا لم أرد أن أكون قاسيًا على ذيـــّاب وأنفذ هذا العقاب له لأن له هو ووالده مكانة عندي وأنا أعرف طيش الشباب وتغنيّهم باسم الحب.. نحن ولدنا ومتنا ولم نعرف سوى حب القبيلة والعائلة والانتماء لهم.. وحب زوجاتنا اللاتي هن من دمائنا ولحمنا نحافظ عليهن ولا ندخل بينهن غريب..
ثم حوّل نظره لوالد ذيـّاب قائلاً بنظرة ذات مغزي
-أليس كذلك يا أبا ذيـــّاب
-لا فضَ فوك يا شيخنا قلت من القول أحسنه وقصرّت علينا طرقًا وعرة نحنُ في غنى عنها
و يا ويله من النظرة التي لحقته بعدها... يا ويله من قهرٍ نشبَ في أعين ابنه البكري، ظهره، وسنده في حياته... لمَ يشعر الأن أن الحروف التي خرجت من فمه لم ترفع مكانته عند الشيخ فقط بل قتلت ابنه وأشعرته بخيبة الأمل في والده؛ خيبة آملٍ كبيرة لن يتخطاها مهما بلغَ الأسفُ زمنًا..
وقفَ الرجال استعدادًا للرحيل ليقف ذيــّاب بدوره ولكن مقابلاً لوجه أبيه الذي أصابه بعض الاضطراب ليقول بنبرة جافة خرجت من شعورٍ أجوف داخله ليتردد صداها داخل والده بالألم والخزي
-خير ما فعلت يا أبي أتمنى أنك قلت من القول ما يُمليه عليه ضميرك وليس الشيخ.. وبالنسبة للصفعة فلن أردها لك لأنك أبي لكنّي أعرف كيف سأردها لمن سببها
ثم خرجَ مندفعًا من المجلس بعد خروج الشيخ بالطبع، هائمًا على وجهه لا يعرف السبيل إلى مالكة قلبه سوى التنصل من عادات القبيلة المتخلفة
***********
وقفَ محمد وغانم أبناء الشيخ الرجال مع رجالهم سلطان، وفراس وسالم أبناء ابتهال أختهم وبدا الأخوين منشغلين بما حدثَ للداخل حتى أنهما تركا الشباب ووقفا يتحدثان بصوتٍ منخفض ويرمقون أبا ذيــّاب بنظرات خرجت من أحدهم مُشفقة ومتفهمة والأخر خرجت منه جامدة لو رآها لشعر أنه يستحق ما حدثَ للتو له على يد ابنه
وفي جهة الشباب وقفوا جميعًا ينتظرون قدوم الشيخ للرحيل
-يا إلهي لقد رأيت كيف اندفعَ ذيــّاب ولم يرنا حتى!!.. هذا الأحمق حقًا غارقٌ في العشق
قالها سالم وهو يقف مع سلطان وفراس خارج المجلس القبلي في انتظار الجد، كان يرمق أثره بعدما اندفعَ دون سلامٍ أو كلام فهو بالتأكيد لم يسمع سوى صوت قلبه الذي يئن ألمًا
-اتركه يا سالم أنت لا تعرف كيف أن يكون المرء بين شقي الرحي، طريقك مسدود فالعودة مؤلمة والتقدم مُهلك
ضيّقَ سالم عينيه وهو يعرف جيدًا ما يمر به أخيه ليقول متفهمًا بقصد
-اختر الأقل ضررًا... فالألم أقل ضررًا من الهلاك كليًا على يد جدك أليس كذلك يا سلطان؟
أيده سلطان قائلاً
-بالتأكيـــد
امتقعَ وجه فراس واختلجت عضلات فكه بعدما أدرك أن الحديث الآن يمسه وهما يشيران بضرورة انسحابه مستخدمين ما حدثَ بالداخل للتو كسلاح، أردفَ بنبرة عالية بعض الشيء يبث ما بداخله
-إن لم تكن بدور من القبيلة هل كنت لتتركها يا سالم؟ أجبني
ردَ سالم بشراسة وهو يرى الحوار يتخذ منحنًا آخر
-لا دخلَ لك بظروف زواجي وأنت تعلم كيف كان شعوري وقتما حدث هذا وكيف كنت راضيًا لو لم يحدث
اقتربَ فراس منه وأشهرَ سبابته في وجهه وهتفَ بغضبٍ عارم
-هذا لأنك لم تُحارب من أجلها.. لو لم يقل عدي لا لما تزوجتها.. عليك أن تشكره لا أن تقاطعه كما أخبرك جدك
-أخفض صوتك يا فراس فجدك سيخرج في أي وقت ونحنُ لسنا مسؤولين عما سيحدث
قالها سلطان وقد اشتدت نبرته عليه ليتجاهله سالم بينما يهمس بنبرة ذات مغزى
-أنت ما زلت صغيرًا يا ابن أبي ستعرف كيف يكون الأمر وفقًا لما تقتضيه القبيلة
هدرَ فراس بينما ينظر نحوهما بصدمة وأقرب أصدقاءه لا يؤيدون موقفه، ليشعر أنه وحده في صحراء اليأس
-أنتما لأنكما لم تمرا بالأمر فلا تعرفان ماهية شعوره؛ أن تكون في مكانٍ وحبيبتك في آخر وليس كذلك فقط بل أن تعرف أنك من المستحيل أن تجتمعا سويًا، تراها في الأسبوع مرة أو مرتين فقط وبقية الأيام تنتظر أن تمر وأنت تنظر لسقف حجرتك متخيلاً أنها جوارك ... وأكبر كارثة هي أن تجدها ذات يوم تُزف لغيرك وهذا لماذا؟؟... لأن ما يقيّدك هو كلام العادات على الورق وشهادة ميلاد أنك تُنسب إلى قبيلة ما... سحقًا للقبيلة وسحقًا للعادات... لقد كرهت هذا المجلس
كممَ سلطان فمه بيده حتى لا يسمعه جده الذي إن جاء سيسمعه موشحًا أو بالتأكيد سيعرف الأمر بذكائه وهذا ما حدث ففور أن أزاحَ سلطان يده وجدوا صوت جدهم يخبرهم بوجوده
-ما الذي كرهته في هذا المجلس يا ابن سعيد؟
تقدمَ كامل منهم حتى يتسنى له السماع بشكل أوضح ثم ألقى سؤالاً آخر بنفس النبرة المتشككة
-ألم يعجبك قراري وتظنه جاحدًا؟؟
سارعَ سالم بالنفي متمتمًا
-استغفر الله يا شيخ لم يقل فراس هذا
تحدثَ فراس على مضض بعدما نكزه سلطان في ظهره دون أن يراه كامل
-ليس هذا ما قصدته يا شيخ فقط لم يعجبني ما فعله عمي أبو ذيــّاب من ضرب ابنه في مجلس الرجال في النهاية هو رجل راشد لقد أحرجه بيننا
كان يلتزم بما قاله جده سابقًا، أثناء المجالس وأمام الناس يُقال له "شيخ" أما في البيت يستبدلونها بـ "جدي"، لكنه لم يقولها التزامًا بل قالها مشددًا عليها لأنه لم يشعر أنه ينتمي لهذا الرجل... ليس من دمائه الطاغية وقراراته المجحفة ... يشير إلى رفضه لما حدث بالداخل حتى لو لنفسه فقط
سارَ كامل بجانب فراس الذي كان تحفزَ جسده من مجرد القرب ليقول بعد كلام حفيده
-أنا أيضًا لم يعجبني ما فعله والد ذيــّاب رغم رغبتي في فعلها لكن ذيــّاب له هيبة وكبيرًا كفاية لا يستطيع أحد أن يُصغّر منه.. لكن في النهاية كان حديثه مستفزًا عن الحب وهذا الكلام التافه
لم يُجيبه فراس وزادَ تجهم وجهه فاستطرد كامل يحكي سخطه من المجلس
-من هذا الذي يجعل قلبه ملكًا لفتاة من قبيلة أخرى وعادات أخرى ليس بيننا وبينهم دمًا ليتزوج منها ويُنجب أطفالاً يختلط دمائهم مختلطة... هذا تخلف واستهتار
"تخلُف؟؟!!... والله لم أرَ متخلفًا أكثر من تلك العادات الرجعية التي تتشدقون بها... يا رب ارحمني"
تحدثَ فراس داخله بحنق شديد أوشكَ على إخراج الحروف الحانقة من فمه لكنه تراجع في اخر لحظة وغمغمَ بسؤال لم يتبين فيه نبرة أو مغزى وراءه
-وهل الحب خطئًا يا جدي؟ أقصد ليس لدينا سطوة على قلوبنا فهي تحب من تشاء بدون سبب وتكره آخر دون سببٍ أيضًا فكيف سأمسك قلبي عن الحب
أجاب الجد بتلقائية وبرزانة معهودة
-إن لم تكن تلك الفتاة مقدرة لك فابتعد عن حبها، سأعطيك مثلاً لو أحببت امرأة وعرفت أنها متزوجة هل ستبقى تحبها؟ أم كأي رجل لديه نخوة ستبتعد وتُجبر نفسك على التوقف سريعًا حتى لا يتطور الأمر؟!!... هذا هو الأمر بالنسبة للقبيلة أيضًا إن لم يكن من قبيلتك فابتعد.. فالرجال فقط من لديهم حُكمًا على قلوبهم يا فراس
"الأمر ليس سيان يا شيخ... الأمر بعيدٌ تمامًا
لا تسأل مُحبًا لم أحببت
ولا تلومه على مشاعره طالما في نطاق الحلال"
عادَ يُحدث نفسه مرة أخرى شاردًا قليلاً وقد صمتَ الجد أخيرًا وطالَ الصمت حتى لم يعد حديثًا يُقال بعدها، ومن خلفهما كان سلطان وسالم يستمعان للحديث وينظران لبعضهما في قلة حيلة على حالة فراس المستعصية فمن حديثهم جدهم يبدو أن طريقه مليئًا بالصعاب ولن يكون قادرًا على تخطيها
*******
منذ سنوات
-جدتي أخبرتني أنني الحفيدة المفضلة لديها
قالتها بطفولة وهي تنظر بعناد لأختها الكبرى التي تقف أمامها تلوي شفتيها بغضب، بعدما تغنت بحب والديها وأعمامها لها، أردفت الصغيرة بدور وهي تتخلى عن صمتها وتقول بكيــد طفولي
-هذا لأن لا أحد يحبك هنا فهي تقولها حتى لا تشعري أنكِ منبوذة
اشتعلت عينيها بالغيرة والألم لكلام أختها، ورغم أنها طفلة لكن عقلها كان يسبق سنها بكثير، تعرف كيف أن هذا الكلام المؤلم صحيحًا وأن الجميع هنا لا يحبها... لكن جدتها!!
كانت الوحيدة التي تشفق عليها وتحضر لها الألعاب من المولد الذي يُقام في حين لا يفعل أبيها بل يمنعها من الذهاب لأنها تفتعل المشاكل
تجمعت الدموع في عينيها وامتلأ قلبها قهرًا ودون أن تشعر رفعت كفيها الصغيرين لتدفع بدور للخلف وتقع الأخيرة على ظهرها مرتطمة بالأرض، وبرد فعلٍ عفوي طفولي أخذت حجرًا كان بجانبها وألقته على أختها ثم صرخت باكية بصوتٍ عالٍ لتجذب أنظار العائلة التي بداخل المنزل!!
فتحت فمها لتصرخ عاليًا طالبة النجدة التي أتت سريعًا متمثلة في أمها وأبيها
-ما الذي فعلته له لأختك؟؟ يا الله ألن تكفي عن عادتك السيئة في ضرب من حولك؟؟ أخبريني ماذا فعلتِ وإلا ضربتك ضربًا قاسيًا
صرخَ محمد بينما يُمسك يدها وهي بالكاد تأخذ أنفاسها، مذعورة تبكي وتنظر له بأعين يفيض منها الدمع لتوعده لها ولشدة ألمها من الحجر الذي أصابها في صدرها، أما أمها فقد هرعت نحو بدور تتفحصها وترى ما بها غير مبالية بابنتها التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة للتو
-لا لا ... لم أفعل شيئًا ... أبي هي ضربتني أيضًا
ضرّبها محمد على يدها بقوة فازدادت بكاءً وانهيارًا وصوته يصدح عاليًا بوعيدٍ آخر
-أنت لا تحترمين كلامي أو كلام والدتك.. ألم أمنعكِ من ضرب خنساء وبدور؟؟ لم فعلتيها يا*****
سبها بقسوة وهي طفلة صغيرة مذعورة تقف أمامه باكية بقوة وتفتح فمها ليخرج منها الصراخ غصبًا عنها
ضربها محمد ضربة أقوى من السابقة قائلاً
-لا تصرخي يا ***** والله لأضربك وأحرقك لأنكِ فتاة متمردة لن ينفع معها شيء سوى العنف
-أبي أرجوك.. لا أستطيع التنفس
ازرقَ وجهها وهو مازال يضربها على يدها وقد طالت أصابعه وجهها، ولم يبالي بدمعها الذي يغرق وجنتيها او صراخها المتقطع.. أو أنفاسها التي تسحبها بصعوبة ... لم ينظر إلى لوجه ابنته الأحمر من شدة البكاء ولم يرأف لصغر سنها وعقلها بل صارَ يعنفها كأنه يرى نفسه فيها وهو والده!!
-يا أمي .. أمي... هي قالت أنكما لا تحباني
استنجدت بوالدتها التي نظرت لها بقلة حيلة وقد هالتها كلمة ابنتها المقهورة، بينما محمد لم يكتفي وأكملَ ضربه لها قائلاً بقسوة
-نعم أنا لا أحبك.. ولا أطيقك منذ الساعة التي وُلدتي بها يا لعنة حياتي الأبدية.. لقد أخبرني الطبيب أنه ولدًا لم جئتِ أنتِ... لم.. لم
-محمد... اترك الفتاة حالاً
صدحَ صوت والدته ليلتفت لها بعنف من بين عنفوانه
-ابتعدي يا أمي ولا تتدخلي أنا أربي ابنتي التي يبدو أنها بحاجة للكثير من التربية
-بالضرب يا محمد؟؟ بالضرب؟!! ألم تكتفي أنت منه منذ أن كنت صغيرًا؟ هل تريد أن تتربي عقدة داخل ابنتك مثلما تربت فيك؟... اترك الفتاة الآن هذا أمر من والدتك يا صاحب العقل الكبير
صرخَ محمد عاليًا وهو يرى والدته تتخذ صف ابنته المخطئة بل وتسحبها لحضنها والأخرى تُلقي نفسها عليه بل وتستكين داخله كأنه الشبح الذي يخيفها
-أمي أرجوكِ كفاكِ كلامًا في هذا الموضوع وقد كبرت وعرفت أن أبي فعلَ هذا لمصلحتي واقتنعت.. فلا فائدة من حديثك هذا
كانت فاطمة تربت على ظهر حفيدتها الباكية بينما ترشق ابنها بنظرات الاتهام الممزوجة بعتاب جده مكلومة وأمر مقهورة لما آلَ إليه وضع ابنها
-مصلحتك؟؟ هل اضطرارك للكذب عليه واخباره بأنك كنت تلعب في مكانٍ غير الذي كنت تلعب فيه لأنه أصر على وجودكما هناك أثناء سيره بالصدفة كان لمصلحتك؟ ... هل خوفك من إخباري أنك جائع أمامه كان لمصلحتك؟؟... ارفع أكمام عباءتك وأريني أثار الضربات على ذراعك وكتفك لأنك ضيّعت قلمًا في مدرستك أو انقطعَ قميصك البالي من كثره لبسه وبعدها كلمني عن مصلحتك يا محمد
رمشَ بعينه وهو يرى الأمر لا يصب في مصلحته وسيخسر هيبته أمام زوجته وبناته، فلقى أن التحدث بصوتٍ عالٍ هو ما سينفع في هذا الموقف
-لم تذكرين هذا الآن؟؟ لقد اندثرَ الماضي بذكرياته يا أمي لا تفتعلي مشكلة بيني وبين والدي وتبثي داخلنا الكراهية نحوه
اقتربت منه فاطمة بينما تضع حفيدتها في حضنها التي تتعالى شهقاتها ظنًا منهم أنها من البكاء ثم نظرت في عين ابنتها بتحدٍ ومرارة علقم مُعاتبة تنطلق من شعاع عينيها إلى شرار عينيه
-لا لم يندثر يا ابن كامل .. عندما أراك تعامل ابنتك بالشكل الذي عوملت به سأقف أمام وجهك.. هل سألتها أولاً عما حدث؟ هل عاتبتها بلطف؟ أم أن يدك سبقتك كالعادة
قطعت حديثها ثم ازدردت ريقها قائلة بحزن
- لقد أصبحت نسخة منه لكن كلما تكبر تكون أفظع... من اليوم لن تمد يدك عليها بعد الآن وأمرها سيكون أمري إن رأيتك تمد يدك عليها مرة أخرى سأتخذ موقفًا منك لن تسعد به يا ابن كامل
لقد أخبرته في المرتين أنه "ابن كامل" وهنا تكون والدته في عز حزنها وقهرها، لقد أصابَ صدره الضيق من حديث والدتها التي أشعرته أنه ظالم يتبع خُطى والده الذي خطت كفوفه على جسده زمنًا طويلاً وحافلاً بالعقاب لأتفه الأسباب إن تواجد سببًا من الأساس
جاء على الصراخ غانم أخيه وأبو سلطان ليجد رابحة تبكي وتشهق وبدور في حضن والدتها تذرف الدموع خوفًا من صراخ أبيها وجدتها فتدخل واتجه ناحية الأكثر بكاءً وانهيارًا ليجدها تتنفس بصعوبة بين يدي جدتها
-يا حبيبة عمك ماذا حدث..
وقعت عينيه على ابنته التي تنظر للسماء وتشهق كأنما تأخذ أنفاسها الأخيرة فاهتزَ قلبه لها وحديث والدته يطرق داخل قلبه بمطارق من اللوم، لينطلق اسمها من بين شفتيه بفزع
عودة
كانت طفلة صغيرة تتعرض للضرب الشديد من والدها ووالدتها لا تهتم بها ..حتى لم تسحب والدها عنها.. وصدرها يؤلمها بينما تتلقى الضربات والسبب في كل هذا يُدلل وتُعاقب من أجله
أغمضت رابحة عينيها تاركة دمعة وئيدة كانت تهددها بالنزول فأفلتتها كما أفلتت مشاعرها تجاه كل شيءٍ وتجاه كل شخص ثم استجمعت نفسها وتجهزت للنزول لأسفل فهي تعرف أن خنساء هنا بدعم من ثريا والدة سلطان وخالتها فلا بأس من بعض التنمر عليهما والذي سيُحسن حالتها المزاجية
*****
-كنت أعرف أن اليوم سيكون ملبدًا بالغيوم والأتربة لكن لم أعرف أنه سيكون منذ الصباح
قالت رابحة جملتها بامتعاض ساخر وهي تهبط من سلالم المنزل إلى البهو الكبير الذي يضم والدتها وزوجة عمها" ثريا" وابنة أختها التي تمقت .."خنساء"
-مرري اليوم على خير يا رابحة نحن لا نطيق صوتك في هذه الساعة
ابتسمت على كلام زوجة عمها الحانق لترفع عباءتها البدوية المزخرفة لتظهر خلخالها الفضي الرنان والذي التفَ حولها قدميها بشكلٍ جذاب، رافعت حاجبها وهي تتقدم منهم وتجلس بجوار والدتها التي كانت تقوم بتقطيع الخضروات وتنذر لها شزرًا لوقاحتها
-لقد آتيت لأؤنسكم ويكون هذا جزاءي يا زوجة عمي؟؟ لم أعهدكِ قاسية إلى هذا الحد
-يبدو أن مزاجك جيد يا رابحة أي مصيبة ستحدث لتكوني رائقة لهذا الحد!!.. فقط لنستعد قبلها لا أقصد الإساءة لكن فرحتك تعني تعاسة الجميع
تصلبَ فك رابحة وخبت الابتسامة من على وجهها كما قست عيناها وهي تلتفت إلى خنساء التي عدّلت من جلستها لتظهر بمظهر مُنتصر وقد أدركت للتو أنها أصابت هدفها
تبًا...
كم تكرهها تلك الخنساء، تراها بلا حياء لتأتي وتعرض نفسها هنا حتى تستميل خالتها لتزوجها من سلطان، وليتها تصمت وتتركها بحالها إلى أن كلماتها لا تنفك عن العبث بعقل رابحة لترد عليها الأخيرة آخذة حقها، وتُفتعل مشاجرة بين الاثنتين ويأتي على إثرها من في المنزل.. وكالعادة يُسمح فقط صوت رابحة وسبابها لكن خنساء تنزوي ككلب قد تعرض للضرب ممن هم الأشرس منه... فتتلقى رابحة العقاب كم تعودت منها قبلاً هي وأختها بدور
كانت تنظر داخل عينيها لترى كم البشاعة التي يحيط بتلك الفتاة، تعذرها في حالاتٍ كثيرة بأن والدتها وخالتها هم من يعدونها بما لا يمكن حدوثه، وفي أحايين أخرى تتمنى لو تمسكها من شعرها الناعم هذا وتضربها في الحائط حتى تتعب يداها
شعرت بالراحة تتسلل لصدرها بعدما مرَّ الحدث الأخير بعقلها جاعلًا إياها تنتشي وهي تُمني نفسها بفعل هذا إن خسرت كل شيء، هتفت رابحة بابتسامة بعدما رفعت حاجبها الأيمن كعادة لديها
-لا تقلقي يا خرقاء هذه المرة الجميع سيفرح لفرحي.. وليس هذا المنزل فقط، بل القرية بأكملها... ليس اليوم لكن قريبًا .. جدًا
لكزتها والدتها في جنبها لتقول هامسة
-ما الذي تخططين له يا أخرة صبري، لا أريد أيًا من المصائب
قالت رابحة وهي تحتضن وجه والدتها بيديها
-لا تقلقي يا دلال حبيبتي سأجعلكِ فخورة بي

ما الهوى إلا لسلطانحيث تعيش القصص. اكتشف الآن