"غير مفهوم"
أشفق على من لا يدركون حلاوة العناق، وأثره البالغ في شفاء النفوس...
لم لا نُعمم قاعدة واحدة هي
-عانقني إذا كنت حزينًا، وإذا كنت سعيدًا... عانقني في أحلك الأوقات وكلها لأشعر بدفئ روحك
*********
تجلس برفقة جدتها بوجهةٍ مكفهر ودموع تلتمع بعينيها مُهددة بالنزول إن لم تغافلها إحداهن وتسقط سهوًا رغمًا عنها، كانت خائفة من فكرة أن يكون المولود القادم "بنتًا"، شكوكها تجاه تلك النقطة أصبحت محفوفة بالذعر؛ خاصةً بعد الحوار الذي دارَ بينها وبين زوجها وانتهى بخنوعها لكلماته المعسولة ونظراته التي تضعها في موضع الاستسلام
شكت همها لوالدتها فلم تنل سوى كلماتٍ قليلة احتسبتها مواسية "لستِ أول من يتزوج عليها زوجها "
تعلم أنها ليست قادرة على منحها دعمًا ثابتًا، وهي الأخرى لا تستطيع اسناد نفسها... فقط واحدةً هي من كان ستقف بجانبها لكن ستكون وقحة إذا طلبت مشورتها وهي لم تسأل عليها كل تلك الأيام، وتركتها مُلتهية بحالها!
أفاقت على كف جدتها الذي احتوى كفها، والأخر الذي مسحَ دمعتها الشاردة بينما تقول بلومٍ حانٍ
-لا تتضايقي مني أنا جدتك وأريد مصلحتك لكن الأمر برمته من البداية كان بسبب دلالك ومعاملتك المُقدسة له، تسمعين كل ما يُخبرك إياه دون مناقشة أو تفكير ثانية واحدة إن كان هذا الشعور يؤذيكِ أم لا... ألقيت بكل مشاعرك على عاتقه فاستنزفها جميعها ولم يبقَ لكِ سوى فتات تقتاتين عليه.. يا حبيبتي يجب على الزوجة طاعة زوجها لكـــن زوج بشخصية سالم الطاعة بالنسبة له تعني الخضوع وإن خضعتِ مرة لن تسلمي بعدها سيظل عُنقك محني طوال العمر
قطعت حديثها تأخذ أنفاسها التي بدأت تتهدج من وصل الكلام إثر كِبر سنها ثم تابعت بنفس النبرة لكن تلك المرة غلب عليها تساؤل مُستنكر
-هل يفعل معكِ ربع ما تفعلينه معه؟.. هل تأخذين منه بقدر ما تُعطيه له؟!... هل تنامين على وسادتك كل ليلة وأنتِ مُطمئنة للرجل الذي تنامين بجانبه بأنه لن يخلف وعده معك مهما حدث؟!...
فور ما أنهت حديثها حتى وجدت بُكاء بدور يتعالى وشهقاتها تملأ المكان حولهما، وحتى جسدها لم يسلم من وصلة الحُزن الذي أصاب قلبها!!
وكيف لا؟!
وكل الإجابات على أسئلة جدتها هي "لا"، مُجرد حرفان نُقشا بجدار عقلها وصارا أمرًا مُسلمًا به من قِبل قلبها وعلى جميع جسدها الآن الاستجابة نحوه
هذا الحديث الذي جمعها بجدتها جعلَ آفاق قلبها تتفتح وحواس كرامتها الخاملة تتحول لمخالب شرسة لن تصفح، شعرت بيد جدتها تُربت على ظهرها وتمسح دموعها بينما هي تتأزر بهم في قهرها، لكن شهقاتها لم تخفت بعد أن جفت دموعها بل أصبحت كسوط مُميت كل شهقة بألف ضربة لاسعة!
انتهزت فاطمة فرصة وجودها وفتحت الموضوع الذي تتوق للتحدث فيه من فترة-لا تبكي يا حبيبتي النهاية لن تقف على سالم، لديكِ ابنتك، أمك وأبيكِ وأختك وأنتِ تعرفين الأخوة لا يعوضون.. الزوج يعوض خاصةً وإن كان بعقلية دابة
ظهرَ شبح ابتسامة من بين دموعها ، مُدركة مغزى جدتها جيدًا من الحديث، فهمهمت بنبرة نادمة
-معكِ حق يا جدتي لقد قصرّت في حق رابحة كثيرًا ومع ذلك أينما تضيق الدنيا بي أجدها في انتظاري بينما أنا لا تجد مني سوى الخذلان
ابتلعت ريقها ونكسّت رأسها بحزن ثم استطردت بشرود والندم يُغلف حروفها
-ليت رابحة تسامحني.. وليتني أتخلص من حب سالم الذي يكبلني كلي، رغم ما يفعله بي لكنّي لا أستطيع العيش دونه
-إذًا تستحقين كل ما يحدث لكِ يا بلهاء
لم يكن هذا صوت الجدة وبالتأكيد ليس بدور، كان صوتًا اخترقَ الأحاديث المُظلمة التي تدور في الغرفة وجاء قويًا كعادته غير مبالٍ بالنتائج
-على رسلك يا رابحة أختك لا تحتمل كلمة
قلّبت رابحة عينيها بسخرية على حديث جدتها ثم تقدمت وسحبت كرسيًا وجلست أمام الفراشين القابعين عليه، مما جعلَ فاطمة تُغمغم بأعين اتسعت من فرط الدهشة وهي تبحث عن نعلها
-انظروا إلى قليلة الأدب التي تُقلّب عينيها أمامي... ألم أخبرك أنني أكره هذه الحركة يا عديمة التربية يا وقحة
لاعبت رابحة حاجبيها وأخبرتها بكل هدوء يحمل في طياته الغرور بينما تنتزع شال رأسها
-كل هذا يا فاطمة لي أنا وحدي؟ أشكرك على حُسن معاملتك معي... ثم أنتِ لا تسبيني فهذه تربية ابنك ونتاج أفعاله معي وأنا صغيرة
انتشلت بدور رأسها من على قدم جدتها واعتدلت في جلستها وأردفت بابتسامة متوترة وهي تستنشق ما بأنفها
-اتركيها يا جدتي معها حق
أشارت رابحة بإصبعها على أختها ورفعت حاجبها الأيمن قائلة
-أرأيت؟
-والله يا رابحة شتائم العالم كلها لا تكفيكِ فأنتِ مُصيبة ألقيت عليّ ولا أعرف كيفية التخلص منها
أظهرت فاطمة معالم التجهم على ملامحها وأزاحت وجهها بعيدًا، لكنها فوجئت برابحة تندفع بين ذراعيه وهي تُهمهم ببراءة وأهدابها تتحرك في حركة سريعة وتبتسم
-ولكن ألست أحلى وأجمل وأفضل مصيبة يا فطومة؟
-نرجسية لعينة
أردفت فاطمة من بين أسنانها فابتسمت رابحة باتساع وأزاحت خصلات شعرها المموج بغرور ثم أمسكت كف جدتها الأيمن هاتفة بسعادة
-نرجسية ووقحة لكني أحبك يا جدتي وأنتِ الوحيدة الذي لا أكرهها في هذا المنزل
ألقت نظرها على أختها الجالسة بجانب جدتها ثم لوت شدقها وقالت بامتعاض
-وهذه الحمقاء أحبها أيضًا وأعشق ابنتها... وأحب أمي... يكفي لهذا الحد.. اااه فراس أيضًا أحبه رغم أنه حقير
أصدرت تأوه عالي حينما جذبتها فاطمة من خصلاتها بقوة بعض الشيء
-أخبرتك ألا تسبي أحدًا.. وأخفضي صوتك هذا
عدلت رابحة من جلستها وشعرها ثم عادت على كرسيها القابع أمام الفراش لا يفصل بينهما سوى قدميها، أردفت بينما تضع قدمًا على قدم وتقول في زهوٍ
-حسنًا اتركينا مني الآن يا فطومة تستطيعين شتمي لاحقًا .. نحن الآن نريد حل مشكلة هذه المحاق
لم يفهم البقية شيئًا فوضعت يدها على جبهتها وهزتها يمينًا ويسارًا بينما تستطرد
-يا إلهي هل يجب علي أن أشرح كل شيءٍ أقوله لأن الجميع يجهله عاداي
-اتركيني
صاحت بها فاطمة أنذاك ما كانت ستتحرك لتُلحق الضرر برابحة المُستفزة لكن بدور كبلتها و ربتت على صدرها في حركة استعطاف، أما الأخرى استجمعت شجاعتها من مظهر جدتها واستفاضت شارحة
-المحاق يا جدتي هو النُسخة المُظلمة كليًا من البدر... فتتابع القمر من قوس "الهلال" إلى "كمال" البدر طيلة الشهر يمر بعدة مراحل.. لكن هل تسألت ما هي المرحلة التي بين الهلال والبدر؟ بالتأكيد لا .. لذا فمن حسن حظك أن لديكِ حفيدة مثلي مُلمة بكل شيء
زمجرت فاطمة
-اتركيني يا بدور
فشددت بدور على يدها
-هذه المرة يا جدتي أعدك...
أكملت رابحة كأن شيئًا لم يكن
-هذه المرحلة هي المُحاق يكون القمر أسود كليًا... وتُصبح السماء بلا قمر.. فقط نجوم مُبعثرة تسبح في الفضاء الشاسع الذي يحكم كوكبنا، لكن وبالرغم من كل هذه النجوم نحن نشتاق للقمر لأنه شيء مميز ونادر فقط هو قمر أما النجوم فالملايين منها يُحيط بنا
كانت تتحدث بحالمية شديدة، تفرد ذراعيها في الهواء ثم تعود تحتضنها لصدرها تحت نظرات جدتها وبدور المُستفهمة والغير مُعتادة على رؤية رابحة في الحالة المزاجية الجيدة التي تلبستها
ولم تكتفِ بذلك بل غمزت لجدتها في الخفاء بيدها بينما بدور تبحلق بها غير منتبهه عما يدور حولها
-لهذا نحن نحب القمر.. الجميع اتفقَ على حُبه.. وحتى لو لم يحبونه لا يستطيعون أن ينكروا فضله في إنارة السماء.. ألم تسمعي عن قصة الأميرة قمراء؟
هزت بدور رأسها نفيًا فاستكملت رابحة وهي تضع يدها أمام وجهها توقفها قبل أن تتفوه بأي شيء وتُكمل
-هذه كانت أميرة تعيش في زمنٍ بعيد جدًا ليس له وجود في الحقيقة لأن الملوك والأمراء حينئذٍ كانوا متصلين بالظواهر الكونية .. كانت قمراء ملعونة من أحدى الساحرات باتصالها بالقمر؛ وهو أمير يكون على هيئة القمر حتى سنٍ معين تستطيع فيه امداده بضوءٍ لازم حتى يتحول لبشري، كانت تمنحه القوة من قلبها وهو صارَ رفيقها الوحيد كانا على علاقة قوية متصلة دائمًا وإذا مات أحدهما انقطعت... لكن ليسَ كل ما حولنا خير.. فالنجوم التي كانت تفترش السماء حينها لم تكن طيبة على العكس تمامًا...
صمتت وهلة تمنح عُنصر التشويق لقصتها وقد زادها الاعتزاز بالنفس حينما رأت اللهفة في عيني بدور والترّقب في عيني جدتها فأكملت هذه المرة بحماسٍ شديد
-النجوم كانت تُضعف من قوة القمر وهذا يؤخر نموه ويخفت من نوره، وكل يوم كانت الأميرة تضطر لمحاربة هذه النجوم الوعرة، الساذجة، السافلة، الـ...
-رااااابحة!!
قاطعتها الجدة بصيحة من اسمها جعلتها تبتسم بتوتر وتُكمل
-ظلت على هذا الحال قرابة العشرين عامًا، كان جسدها يمتلأ بالجروح ليلاً والحسرة تملأ قلبها وكانت تدعي كل ليلة أن تتخلص من النجوم ولا تراها أبدًا لأنها مؤذية رغم ذلك كان لا بد من التعايش معها... فمن يعرف حقيقة النجوم سيُدرك أنها كاذبة فهي لا تُنير القلب بقدر ما تهلكه، كان قد حان الوقت لتمد القمر" الأمير" بالقوة اللازمة ليكتمل تحوله لبشري وقد حدث... وعاش الأمير والأميرة لمدة ثلاث سنوات رزقا حينها بأمير قمري صغير جميل لديه وجنتان رائعتان و...
لكزتها فاطمة في ذراعها قائلة بغيظ
-أكملي يا ثرثارة
-وبعد ثلاث سنوات من الحب العظيم غارت النجوم على الأمير أثناء ما كان نائمًا وقتلته.. وتركت الأميرة قمراء في حسرة!
شهقت بدور من الصدمة وغامت عينيها بالحزن قبل أن تهتف بتساؤل
-هل حقًا مات؟
استطاعت رسم ملامح الاستياء على وجهها ببراعة وهزت رأسها بالإيجاب، عادت بدور تقول في حنق
-يا إلهي لقد ظننت أن الخير ينتصر على الشر
عادت ملامح رابحة لشكلها الطبيعي بل وأسوء حيث أنها أصبحت باردة، هادئة تُحملق في أختها وتتساءل في داخلها هل هي غبية أم ماذا؟
-لكن المغزى لم يدر حول تلك الحرب .. المغزى وُجد في مذكراتها التي كتبتها قبل انتحارها أثناء ما كان السم يسري مجرى الدم في جسدها
"لم أعرف أن الألم يأتي من الأخيار أيضًا
فلم تؤلمني جروح النجوم بقدر ما آلمني موت القمر"
أردفت بها ثم ضيقت عينيها سائلة بحذر
-هل تفهمين يا بدور المغزى؟
**************
بقدر ما شعرَ أنه تسرّع بقدر ما أحب الأمر .. بشدة
شعوره وهو يُهيمن على حركتها، حابسًا إياها في مملكته أعطاه نشوة وهيبة لم يدرِ أن النساء تملك سُلطة إفلاتها للرجال!
التماوج بين الارتباك والثقة، القوة والضعف في عينيها جعله هو الأخر مُقيدًا تحت إمرة خاطرها إن أرادت لحارب العالم لأجلها...
لكن أن يأتي لهذا المكان في هذا التوقيت هو خطأ.. خطأ فادح يشعر أنه على وشك ارتكابه رغم أن قلبه وعقله لا ينفكان عن تحذيره، لقد استجاب لنداء عبد العزيز فور أن طلبه، لأنه وللحقيقة يعرف سبب استدعائه، وهذا ما يُرجح اختلاج قلبه وتشتت عقله
رآه يجلس شاردًا في خيمته ؛ يضجع للوراء وحدقتاه مُثبتتان على نُقطة مُعينة يُخيل للرائي أنهما لا تتحركان لكن إن اقتربت ستجد بهما غدرًا شنيعًا، يظهر عليه التوتر بشكلٍ كبير اهتزاز يديه المُلقاة على قدمه أكبر دليل أن يُصارع وحوشًا في رأسه تقدم منه لافتًا انتباهه بحمحمة بسيطة أجلى بها حلقه، ووضعَ عينيه أرضًا حالما لمحها جالسة في أخر الخيمة لكنها تبدو منشغلة بأغنية ما في سماعة الأذن
وعلى غير توقع انتفضَ عبد العزيز من مجلسه وقام لاستقباله الأمر الذي جعلَ البراكين الهيبة تُزلزل في قلب سلطان
-أنرت يا سلطان، لقد انتظرت مجيئك طويلاً
عرفَ سلطان ما يصبو إليه فقالَ بنبرة مُحايدة
-لقد أرسلت للقائي للتو!!.. ولم أتأخر
هزَّ عبد العزيز رأسه في توتر كبير، ودار بعينيه في الخيمة وعندما لمحَ ابنته المنشغلة بهاتفها أخذَ سلطان للخارج حتى يستطيع التحدث بأريحية .. أكثر
*************
كلمات رابحة تضج في أذنها كطنين النحلة الذي لا يهدأ، تشعر بأن تدفق الدماء داخل أوردتها بات غريبًا، ساخنًا يحمل بعض الشحنات التي أودعتها رابحة داخلها عن طيب خاطر..
"المغزى هو أن الأميرة ظلت تعتقد أنها تتأذى من النجوم لكن الأذى الحقيقي هو فراق الطيبين... فالذي تظنين أنه يؤلمك من سالم ما هو إلا فعلٍ نجم خبيثٍ.. أما قمرك يا بدور لم يأتي بعد"
تعلم أن هذا خاطئ وأنها ستندم كثيرًا لكن ليس لديها حل وهي ترى حياتها تنهار على يده بعدما لغى شخصيتها..
ليتها تكون بقوة الأميرة فتستطيع التصدي حتى للنجوم وتُجرح... لكنها هي أداة جرح نفسها بالاستسلام
كانت تجلس على الفراش تضم كفيها إلى ذقنها، ولم تنتبه لطرقات الباب حتى سمعت بكاء طفولي وصوت خافت يأتي من وراءه
-أمي لقد فعلتها على نفسي
انتفضت من مكانها وذهبت حيثُ ابنتها عالية ثم رأت نصفها السفلي مُبتل فأدركت للتو ما قالته الفتاة وحوّلت انتباهها إليه..
أخذتها للحمام وطهرتها جيدًا وألبستها ملابس جديدة ثم أجلستها بجانبها على الفراش وقالت بصوتٍ حاني بعدما مرّ بعقلها إدراك حقيقة إهمالها اللاذعة لابنتها الفترة السابقة
-ألم تتعودي على الدخول للحمام وحدك؟ ما الذي حدث يا عالية
أجهشت الصغيرة بالبكاء فأخذتها بدور في حضنها وراحت تبكي هي الأخرى... دقائق أخرى وطلبت عالية الدخول للحمام مرة أخرى فقامت معها لكن عقلها لا يتوقف عن التفكير... اليوم سيكون مصيرها مع سالم إما أن تقبل أن تكون زوجة ثانية أم تنجو بنفسها وكرامتها!
سمعت صوته في الغرفة فسارعت بالخروج من الحمام والذهاب إليه لكن صوت عالية أوقفها وأعادها لأرض الواقع ومنصة الثأر الذي نصبتها لكنها لم ترتقيها بعد
-والدك هنا
قالتها بابتسامة لترتدي الفتاة ملابسها وتهرع لخارج الحمام بل الغرفة بأكملها!!
-ما بها؟؟
سأل قاطبًا حاجبيه وهمَّ بالذهاب إليها لكنها أوقفته وهي تضع يدها على صدره قائلة بخفوت
-أريد التحدث معك بموضوعٍ هام
أمسكَ كفها الموضوع ثم رفعه لفمه ولثمه بحبٍ بالغ ثم أردفَ بقلق
-هل هناك شيئًا يؤلمك؟
هزت رأسها نفيًا ثم عادت تهزها بإيجاب فاحتار في أمرها وانتابه الذعر خاصةً حالما بدأت بذرف الدموع وانهارت جالسة على الفراش تضع يدها أمام وجهها مُنتحبة
جلس أرضًا أمامها وعلى وجهه إمارات الخوف واضحة ولا مجال للشك أنه حقًا يهتم لأمرها، فلم يهمه موضع جلسته ... ازدردَ ريقه بتوجس ثم تساءل بحذر
-هل عرفتِ جنس المولود
أجابته بالنفي فتنفسَ الصعداء قليلاً ثم عادَ يسألها بإلحاح
-إذا ما الذي يحدث معك؟ أرجوكِ تحدثي ولا تقلقي قلبي عليكِ
استطاعت أخيرًا إخراج بعض الحروف المُبعثرة من بين شفتيها المتهدجتين وأنفاسها الغير مُنتظمة
-هل حقًا ستتزوج عليّ لو كان المولود بنتًا؟
تجمدت ملامحه واختلجَ فكه إثر كزه على أسنانه، فجأة هكذا تحولَ مائة وثمانون درجة وبعدما كان راكعًا أمامها يتمنى حرفًا منها استقامَ في وقفته كطاغية لا يرأف بحال ضحاياه
-هذا الأمر مرة أخرى!!.. ألم تملي حقًا من تكرار الكلمات على مسامعي في كل مرة ترينني فيها ... حقًا!!!
هتفَ في قسوة غير مباليًا بما تُعانيه الآن من جُرح كرامتها لها، فلم تُحقق سوى الفشل والبكاء في أول مواجهة لها معه... كالعادة سالم لا يخرج من معركة خاسرًا أمام حليفه حتى لو كان قلبه!!
رفعت رأسها ببطء عندما استمعت لنبرته الشرسة وليتها ما فعلت فهالها ما رأت على وجهه من إمارات النفور والسأم، حينها فقط أدركت أنها لم تخسر بشرف وفي أول الجولة
أردفت في محاولة لاستعطافه
-يا سالم افهمني أرجوك أنا لا أحتمل فكرة أن تتزوج عليّ لن أقدر أن أراك مع امرأة أخرى ... لم أنت أناني هكذا ولا تفكر سوى في نفسك
شهقت بصدمة عندما سحبها من ذراعها ليوقفها أمامه غير مراعيًا أنها أنثى حامل قاربت على الولادة، ثم تابع بنبرة أشد قسوة ومعالم الجحيم تتمثل في عينيه المشتعلتين
-أنتِ لا تعرفين شيئًا، لا تعرفين ما أكابده من عناء حتى لا تضيع أموالنا.. كم مرة كنت على وشك المثول أمام المجالس العرفية بسبب ذلة لكني انتشلت نفسي من الخطأ في اللحظة الأخيرة... سُمعتي ومهنتي كلاهما على كف عفريت .. أنا كل يوم على شفا حفرة من الهلاك لولا أن عيني يقظتين، كم مرة تحملت كلام والدك الذي يذمني أمام جدي لأجلك والآن تستكثرين على رغبتي في امتلاك ولدًا من صلبي!!.. أنتِ هي الأنانية يا بدور وليس أنا
أعطاها ظهره في أخر جملة له، تنفسه صارَ سريعًا وأعينه حمراء جرّاء غضبه الشديد، لم يتوقع في أحلك أوقاته أن بدور ستقف أمامه وتكون له ندًا بند، يبدو أنه بدأ يفقد زمام الأمور عليها وستتمرد وهذا لا يحبذه أبدًا
أما هي ففي تلك اللحظة أرادت منه أن يضمها فقط!، أن يُشعرها أنها مُهمة لديه وأنه لن يفرط فيها، تريده أن يحتويها بين ذراعيه عل آنين روحها يهدأ
لكنه لم يفعل
وهي لم تطلب
فصار الحُب مُعلقًا بين الكبرياء والانكسار
واللعنة عليهما لأن الحب لا يُقيده شيء
-سالم
الوهن الذي نطقت به اسمه جعله يعتصر عينيه حتى لا يفتحهما ويستدير مُجيبا لها، قابضًا على أصابعه بقوة محتميًا خلف كبرياءه
عادت تنطق اسمه وتقترب منه حتى لامست يديها ظهره واستطاعت أن تحتضنه دون أن يُبدي انزعاجًا، وللحقيقة هو لم يكن منزعجًا منها بقدر انزعاجه من نفسه لأنه استسلم للمستها المُربكة ونبرتها التي تسحب قلبه قسرًا حتى يجلس تحت قدميها
-أنا أحبك يا سالم ولا أستطيع الابتعاد عنك.. لا تتركني يا سالم... اجعلني أطمئن
لقد طلبت منه أن يُطمئنها، وما أشد هوانًا من أنثى تطلب الأمان من رجلها!
أغمضت عينيها وارتاحت على ظهره، ظننًا منها أنه الأمان الذي تستجديه والحُب الحر يتمثل بينهما لكنه ابتعدَ عنها بعدما فاقَ إلى نفسه وأردفَ ببرود لم يُثلج قلبها بل أشعل النيران داخلها
-سأعود عندما أكون جاهزًا لطلباتك يا بدور هانم... لأول مرة سأكون أنانيًا وأتبع أهواء نفسي في الجلوس وحدي قليلاً...
ولم يمنحها حق الإجابة إذ اندفعت قدماه سريعًا خارج الغرفة وبقيت هي في المنتصف تبكي وتضع يدها على بطنها ..
تفاجأت بعالية تأتي إليها قائلة بارتباك
-أمي أريد الذهاب للحمام
*********
الصراع الدائر في عينيه لن يهدأ أبدًا فلقد طلبَ منه أن يتزوج ابنته بغرض الحماية من خالها عضو المافيا الكبير، اعتقدَ أن تلك اللحظة ستكون صعبة وسيقطع الكثير من الأشواط للوصول إليها... لكن أن تأتيه هكذا على طبقٍ من ذهب برياح القدر
لا يُنكر سعادته المُطلقة بهذا الطلب فهو الآن يستطيع الأخذ بثأر عمه لكن على النقيض الأخر قلبه ينغزه مُذكرًا إياه بوعده لرابحة.. هل يستطيع أن يتخلى عنها الآن بعدما رست سُفنها على شاطئ قلبه.. يا إلهي كم يحتاج إليها الآن حتى تُخبره بشقاوتها صوابه من خطأه، يمينه من يساره ... وحدها عينيها من تكون له كالمنارة الهادية
-إذًا أنت من أبناء هذه الصحراء
جاءَ صوتها الناعم مُخالفًا لصوت التي غزت مُخيلته للتو، فانتقلَ على أرض الواقع مُجيبًا بنبرة رجولية خشنة
-لم نعرف سوى تلك الصحراء لتكون أمنا بشمسها الحارقة ورمالها التي لا تنتهي...
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تراه لا ينظر إليها بل يُحدق في الفراغ أمامه فآثرت الصمت وهي تنتزع سماعة الأذن وترفع صوت الأغنية لتحصل على انتباهه فورًا
ضيّق عينيه
مُتيم أنا فيكِ يا كل كلي
مؤبد حبي ليكِ يا حلوة مري
بلمسة من ايديكي ها قد حُل أمري
سلمتك قلبي فيا حلوة مُري
الفتاة يحكمها طابع خجل فطري ولا تبدو من هذا النوع المتفتح الذي يُجيد مُحادثة الرجال هذا ما استشفه من المرات القليلة التي رآها فيها، وربما لأنها ساذجة فقد حاولت جذب انتباهه بكلمات أغنية ... وقد نجحت
وللعجب أنه ظل يستمع رغم أن هذا عكس طبيعته!
أدارَ وجهه لها مبتسمًا فبادلته باضطراب ابتسامته وأظهرت جمال ثغرها المنفرج، وجدتها فرصة سانحة لتجاذب حوار معه
-جميلة أليست كذلك؟
همهمَ دون إجابة وترك الصمت بينهما معلقًا ثم التفَ بوجهه مرة أخرى لكنها لم تحتمل السكوت وأدردت خلق حوارًا فهتفت قائلة
-إذًا ... أخبرني قليلاً عن نفسك فأنا بالكاد أعرفك
أجابَ بنفس ملامحه لكن بنبرة قصدت السخرية وإيصال رسالة
-أنتِ لا تعرفين اسمي حتى لقد رأيتني عدة مرات فقط برفقة والدك... وأتساءل ما الذي يدفعك لمعرفتي؟
تجهمت ملامحها واستطاع أن يلاحظ اللون الأحمر الذي انتقلَ لوجنتيها في التو بعدما استدارَ ناحيتها بكامل جسده وانتباهه، ظلَ مترقبًا إجابتها رافعًا حاجبه الثخين، فارتبكت أكثر من ارتباكها بقربة ومن صيغة سؤاله الذي حشرتها في زاوية مُسلّط عليها الضوء
استطاعت أخيرًا اخراج الحروف من بين شفتيها واجدةً حجة واهية
-ليس لغرضٍ ما ربما لأنني هنا وحيدة برفقة والدي فقط، ولا يزورنا أحدٌ سواك.. واعتقدت أنه يُمكننا أن نكون صديقين
أطلقَ ضحكة صاخبة جعلتها تقطب حاجبيها بدهشة، وقلبها يرفرف من فرط رجولية ضحكته ولمعان بشرته السمراء تحت شمس الغروب
-لم تضحك؟
سؤالها لم يزده سوى تيقنًا بأنها حقًا فتاة ساذجة ولا تعرف شيئًا عن عاداتهم
أردفَ بخشونة بعدما قطعَ ضحكته المجلجلة
-هنا لا صداقة بين رجلٍ وامرأة إلا في إطار الزواج، أو من هي مكتوبة له غير هذا يُعاقب من يتعدى على حُرمة غيره..
أعطاها نظرة مُتفحصة قبل أن يُشيح ببصره عنها ويستعد للرحيل على صهوة جواده
-وبالنسبة لكِ فأنتِ مُجرد ضيفة لا نحسبك من نسائنا بل مارة عابرة لن تمكث طويلاً
ثم تركها ورحل تاركًا إياها تقف كمن اُلقي عليه دلو ماء بارد جمّدَ كل أوصالها فما عادت تتحرك، وما أشد قسوة من رفض فتاة لطيفة!
***********
ما بين الصدمة والاشتعال صارَ عقله يتدحرج بينهما مُفرطًا في تفكيرٍ مُهلك
كان يسير هائمًا على وجهه لا يصدق كيف وقفت أمامه بكل تلك الثقة وراحت تُحدثه كما لو أنهما نِدان، شرايينه التي تضرجت بالاشتعال لا تنفك عن وخزه بضراوة بأن الرجل، الحاكم والآمر وهي عليها سمعًا وطاعة ثم التنفيذ!
لا يُنكر حبه الشديد الذي يتملكه، وأن عينيها هما المنفى لجميع أحزانه... أما حضنها فهو الحصن الذي يهرب إلى من جميع آثامه
لكـــن!!
الرجل في بيئته لا يرتقي بالأحضان ولا ينال الشرف بلغة العيون!!
الرجل عنده هو الكرامة، والشراسة يرتدي عباءة البأس الذي تناسب مقاسه ... وولدًا يحمل اسمه ويُخلّده
فلم لا تفهم... و تُصعب الأمر عليهما؟!
الانهيار الذي ذيّل حديثهما بردَ ناره فهذا يعني أنها عادت لرشدها ولن تفتح الموضوع مرةً أخرى، ولكونه سالم الهاشمي أراد أن يكون خروجه في تلك اللحظة هو عقاب على تمردها!
صوت صراخ وسباب جعله دون إرادته يلتفت مصدره مُغلقًا دفتر شروده مؤقتًا، اقتربَ من المصدر الذي تبيّن في النهاية أنه شجار... وفجأة اتسعت عينيه ما هاله ليس الشجار وإنما طرفيه فقد كان بين أخيه وابن السليمانية الذي اقتحمَ منزلهم .. اخ بنون!
اندفعَ ناحيتهم والدم يغلي في عروقه، رؤيته لشقيقه في شجارٍ كهذا جعلت شحنات غضبه تتعاظم أكثر مما هو فيه، وهذه فرصة جيدة لإخراج شحناته كما يجب
-ما الذي تظن أنك تفعله يا هذا ألم أطردك من المنزل صباحًا لتأتي هنا وتتبجح في أرضنا
وقفَ سالم في المنتصف بين فراس وتميم مما جعلَ الأخير يشتاط وتتورط ملامحه الشرسة مع النيران المُستعرة في حدقتيه
-أبعد أخيك عن أختي وحينها سترتاح من وجهي .. فأنا بالكاد أيضًا أنظر إليك
أصدرَ سالم صوتًا ساخرًا وتبعه ابتسامة خبيثة قبل أن يقول موضحًا ومربتًا على كتفه
-تعني سأبعد أختي التي لم نربها جيدًا عن التعلق بعنق أخيك، وسأتعهد بأنها لن تحوم حوله مرة أخرى
-سالم
صرخَ فراس لكن سالم حدجه بنظرة مميتة ليقطع دابر صرخته ويكون مصيرها الفناء
تحركَ تميم خطوتين للأمام تأهبًا لضربه لكن جمعًا من الرجال لم يعرف كيف أتى وحال بينهما، لكن لم يستسلم ووضعَ عينيه في مواجهة عيني سالم كأسد لا يخشى العدو بل الهزيمة
-اخرس أيها الحقير لا تأتي بسيرة أختي الشريفة على لسانك القذر هذا.. سأقتلك إن فكرت أن تتهمها بما لا يد لها فيه... اكبح جموح أخيك أولاً فلقد رأيته هو الذي يتودد لها عند البئر بين الأرضين وهي لم تعطه وجهًا وتركته ورحلت لكنه وضيع لم يتركها ترحل بسلام وعاد ليُحدثها مستوقفًا إياها مرة أخرى!!.. والآن أخبرني من الذي سيُقام عليه الحد لأنه تطاول على حُرمة الغير؟
استدار سالم بوجهه لأخيه الذي نظرَ له بحيرة ورعب إلى ما آلت إليه الأمور، أعطاه نظرة زاجرة وكأنه يُخبره "ليس الآن" والتفتَ بوجهه مرة أخرى وقبل أن يستدير كان تميم يُلقمه الأمرين بقوله:
-بإمكانك أن تهذي كما تشاء لكني والله حق أختي سيعود ولو كان في سابع أرض سأعود مُحملاً بالجحيم لأجلها ويومًا ما ستبرأ ذمتها.. لكن رجولة أخيك المعدومة لن تستطيع شراءها يا عزيزي
ثم تركه ورحل بعدما رأى حريقًا يندلع في مُقلتي سالم والصدمة تجتاحه فلا يستطيع الرد فقط واقفًا متصنمًا ينظر لأخيه الأصغر بلومٍ حارق على ما ستؤول إليه سُمعة العائلة
لم يستسلم في النهاية وأضاف في ظهر تميم قاصدً
-سترى يا ابن السليمانية عندما تأتي إليّ تجر أذيال الخيبة من عار أختك وحينها سنعرف من على حق
هتفَ رجلاً من الجموع مُهدئًا سالم الذي تعالى صوت أنفاسه وصدره بات يصعد ويهبط جرّاء انفعاله
-وحد الله يا شيخ سالم
-ونعم بالله
أجابَ سالم الرجل الغريب باقتضاب ثم أشارَ لأخيه برأسه حتى يتبعه، لفَ عباءته حول ذراعيه وسارَ مرفوع الرأس غير آبهًا بالحديث الذي قاله تميم، فهو لن يخفض هامته أبدًا
وخلفه كان فراس يسير بوجل وخطوات متعثرة من شروده... وهنا علم أنه خسر بنون للأبد
..............
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romanceأودعت إليك حبًا مُزخرفًا بالورود كلما أوشكت أوراقه على الذبول سقيتها من فيض مشاعري بينما مننت عليّ بنظرة بئس القلب الذي أحبك