الانتماء للقبيلة قبل الأشخاص ..
-لقد احترق صبري من أجلك وأتيت لأحضر لك الرماد
بدأت بنون حديثها وهي تقف أمام فراس في مكانهم السري عند الضفة الأخرى من قبيلة الهاشمية، ولكن ناحية قبيلة السلمانية على أطرافها، تقبع هذه المحادثة على البحر الفاصل بين القبيلتين يحاوطهما أشجار الزيتون وبعض أشجار البرتقال التي لم تبدأ في الاثمار بعد نظرًا لأنهم في فصل الصيف..
كان الجو صيفي لكن مناخ كلماتها خريفي يُنبئ برياحٍ عاتية وشتاء عاصف، نظرَ لعينيها ليرى الجليد بدأ في التساقط وكم خشى أن يأتي هذا الفصل بعد معيشته لسنواتٍ في قلبها في ربيعٍ مورد
-هل تنتظرين مني حمل رمادك والالتفات دون عودة؟!، هل يُعتبر هذا عزاء لي يا بنون؟!
قالها فراس بعتاب وهو ينظر داخل عينيها علّه يرى نبتة لزهرة لكن ما طغى هو الثلوج ويبدو أن العاصفة ستستمر، كانت تتألم من الداخل هي الأخرى، وليس بالسهل عليها أن تُنهي علاقتهما بهذا الشكل، هي فقط تريده أن يفعل شيئًا لا الوقوف هكذا بلا حراك، فهي تعرف جيدًا أن هذه المقابلة التي تتم بينهما لن تُسفر عن شيء مادام لم يتخذ خطوة نحوها، وهي لن تبرح حتى ترى في عينيه اللهفة مثلها..
وبعد تفكير البارحة وكلام جدها الذي أشعرها أن لا أحد سيُحبها مثله كانت تتوصل إلى هذا القرار، الضغط!!
ولولا أنها تعرف شخصية فراس جيدًا لما استخدمت هذا الأسلوب معه.. لكن للأسف هي تعرفه خير المعرفة
-دعك من هذا الكلام يا فراس، لقد نفدَ صبري وأنت لم تتحرك خطوة واحدة، حتى لم تُخبر أهلك بخصوص علاقتنا وأنا لن أستمر في الخفاء هكذا كالسارق الذي يُخبئ غنيمته ويطل عليها كل فترة وهو يعرف أن مسيره الكشف يومًا ما.. وإن طال الأمر لن أحب نفسي وسأكون غير قادرة على محبتك أيضًا
كانت صريحة وواضحة بشكل مؤلم، وتجلى هذا الألم في عينيه ونظراته المصوبة نحوها، زفرَ بقوة وهو يضع يده على جبينه يفركها، كلامها يضعه بين شقي الرحي، عليـه أن يختار بينها وبين جده وعقابه، يشعر أنه مُكبّل من جميع النواحي، تتقدم النيران نحوه بنية التهامه وعليه أن يتصرف سريعًا وإلا سيخسر روحه
قالَ بعد صمت وتبادل نظرات إحداهما راجية والأخرى مُتمنعة وبقوة
-ما الذي تريدين مني فعله يا بنون؟!! أنتِ تعرفين ما الذي يُمكن أن يحدث إن فتحت الأمر حتى أمام جدي!!..
نظرت له باستخفاف وشعرت في تلك اللحظة أنها وحيدة في العالم وبخطأ اختيارها، حكت فضيتيها كل شيء بينما هو هرب بسوداواتيه بعيدًا عنها، غير مدركًا أن الخيبة التي شعرَ بها من نفسه ترددَ صداها داخلها
قالت بهدوء وهي تضع طرحة عباءتها التي سقطت سهوًا دون إظهار شعرها القابع تحت طرحة سوداء أخرى قطنية
-ألم تكن تعرف هذا عندما أخبرتني بحبك؟ لم يكن هذا كلامك عندما تبادلنا الوعود.. أخبرتني أنك ستحارب من أجلي... هل غيّرت كلامك؟ إن فعلت أرجوك أخبرني لأُنهي هذه العلاقة في الحال، فأنا لا أبقى مع رجل يُغير كلامه بين كل حينٍ وآخر
أصابه كلامها الصحيح في مقتل، استعرَ الغضب داخله ونظرَ لها بحدة هاتفًا من بين أسنانه
-بنون!!
رفعت حاجبيها في برودٍ تُحسد عليه، كانت تشعر أن الأمر لم يعد يناسبها!!
-هل قلت شيئًا خاطئًا؟
بللَ شفتيه بنفاذ صبر واقتربَ منها ليُمسك بذراعها كما اعتاد لكنها ابتعدت خطوة للوراء وأعطته نظرة زاجرة، رافعة رأسها بشموخٍ يليق برقبتها الطويلة وأنفها الشامخ، كانت كتلة من الكبرياء متمثلة أمام ضعيف الإرادة، يبدو التحدي في أوجه والنتيجة محسومة، فنحن لم نسمع يومًا عن قطعة خشبية حطمت كتلة حديد
تمعنَ في حركتها جيدًا قبل أن يمر به الإدراك اللاذع أن بنون قد اكتفت، وتريد خطوة، فعلاً يُثبت أنه يُحبها، ورغم تهربه بعينيه إلا أنها لمحت نظرة الألم وقلة الحيلة في عينه، فأشفقت عليه وقالت لكن بنفس الشموخ
-إن أتيتني ماشية هرولت لك راكضة... فقط أشعرني أنني مهمة عندك وأنك قد تفعل شيئًا من أجلي لا أن تقف متفرجًا وتنتظر معجزة من السماء
اقتربت من وازدادت نظرتها شراسه وتلك المرة كانت هي من أمسكَ يده لتقول بقوة علها تنتقل إليه من عينيها
-هذه المعركة نحنُ من اخترنا أن نكونَ جبهة رئيسية بها، لذا لن ينفع الانسحاب ونحن في منتصفها، علينا التحمل قليلاً ربما ننتصر.. وإن لم نفعل على الأقل نكون حاولنا، أنت لا تعلم ما سيحدث عندما يُعلن زواجنا، ربما ينتظر عشاق آخرون لديهم نفس ظروفنا تلك اللحظة، حار معي لأن الدرع دون سيف لا فائدة منه سوى صد الهجوم
ربتَ على يدها دون قول شيء، لقد أفهمته دوره جيدًا، دوره الكبير، السيف!!
بادئ المعارك وسافك الدماء، تُخبره بطريق غير مباشر أنها ستحميه لكن هو من عليه فقط البدء...
أغمضَ عينيه لوهله ثم فتحهما وأعطاها ابتسامة متوترة، قائلاً بنبرة مهزوزة
-لا تقلقي سأحاول.. أنت فقط لا تبتئسي ولا تقول مثل هذا الكلام، أنا لم اغيّر كلامي يا بنون أنا أحاول وضع الحقائق نصب عينينا حتى لا نتعثر في شيءٍ قد يخرج فجأة
-إن انتظرت أن تجمع كل الحقائق فلن تتقدم خطوة، فالحقائق هنا ليست جميعها صحيحة أو مُسلّم به وكلما أردت التقدم ستجد أن شيئًا جديدًا ابتُدع ليعوقك
قالتها بنون بإيمان كُلي، وبنبرة هادئة عن نبراتها السابقة كأنها تُهدهد طفلاً صغيرًا، ليرد عليها فراس ببؤس
-معكِ حق
هذا كل ما أنفقه من حديث، لتشعر بالذنب من طريقتها وللحظة كانت ستتحدث بلين وتعتذر لكنها استعادت رباطة جأشها في اللحظة الأخيرة واحتفظت بملامحها التي تدربت على جمودها أمس، رغم أن كلامها كان فيه بعض الاقناع والتساهل قليلاً لكنها لم تتراجع عن موقفها ..
كانت تلك المواجهة شديدة وهو لم يعرف ما سيقوله لأنها باغتته، وحادثة ذيـــّاب لم يمر عليها الكثير، ويبدو أن لو مرت السنين سيبقى ذلك اليوم ختمًا في ذاكرته لن يندثر...
-أعدك يا بنون أنني سأحاول أن نجتمع، أنا أحبك حقًا
-أنا أيضًا أحبك
قالتها بلين وابتسامة زيّنت ثغرها ليتوقف الزمن عند هذه اللحظة قليلاً...
هل يكفي الحب للزواج؟ أم تلزمه الشجاعة أيضًا؟؟؟
********
قلّبت الهاتف في يدها بظفر، وهي تتمعن فيه بعينيها، كان كالكنز التي حصلت عليه بعد إبحارٍ طويل ، ملوحة البحر لم تعجزها وعلو الأمواج لم يوقفها... كانت كالشراع الصامد في وجه العواصف تتمايل يُمنه ويُسرى مع الهواء حتى لا تنكسر..
لا يُسمح للفتيات في المنزل بحمل الهواتف، كان هذا قانون جدها حتى لا يشغل وقتهن أو يكون سببًا لانفتاح لن يُدر عليه سوى المصائب وحتى وإن سمحَ للبقية بحمله فرابحة قد تكون الأخيرة في القائمة بل تكاد تكون غير موجودة من الأساس، فهي في نظرة لا تحتاج لانفلاتٍ آخر قد تُسببه قطعة حديد، وقد كان لجدتها رأي آخر..!
لكن هذا الهاتف الذي جاء بعد عناء ليس به رقم سلطان ولا أي شيء يُهيئ التواصل معه!،تأففت وهي تجلس بالبهو منتظرة أن يخرج سلطان من مكتب جده لتطلب منه مرة أخرى رقم هاتفه، لكــــن مجيئ فراس غيــــّرَ الخطة بأكملها وجعلَ ابتسامة خبيثة ترتسم على ثغرها، نادته قبل أن يتجه نحو غرفته فقد بدا عليه الاستعجال والتجهم
-فراس... هل يمكنك أن تأتي قليلاً
تأفف فراس وهي لاحظت هذا لكنها لم تُبدي أي اهتمام أو نية في السؤال عما يُعكر صفوه على الأقل الآن، بل مدت يدها بالهاتف عندما صارَ أمامها، وقالت بنبرة مؤدبة هادئة على غيــر عادتها
-هل بإمكانك تحميل برامج التواصل الاجتماعي لأني لا أعرف في الهواتف وقد جاءني هذا حديثًا
بلغَ الغيظ من فراس مبلغه من طلبها الذي جاء في غير وقته على الإطلاق فهو لا يرى أمامه منذ مقابلته مع بنون، ورابحة جاءت لتُزيد غيظه
التقطَ الهاتف منها بحركة عنيفة لاحظتها لكن لم تُعلّق، وبعد ثوانٍ معدودة كانت بصدد سؤاله عما يؤرقه لكنه سبقها بنبرة سُخرية كانت أقرب للاستهزاء
-لا يحتاج الأمر لشخصٍ متعلم حتى يتم يُمكن لأي شخص فعل ما أفعله!!
بهتت رابحة من حديثه المفاجئ، وظلت تنظر له بصدمة جليّةً على ملامحها المأسورة داخل براكين الحزن وطيّات القهر، فغرت شفتيها لتقول شيئًا لكنها لم تستطع، ليست المرة الأولى اليوم ليتحدث أحد عن تلقيها التعليم.. وكأن الأمر كان بيدها وهي رفضت!!... وكأنهم لا يعرفون أنهم لو كانوا مكانها لن يعترضوا...
أخذت الهاتف من يده بحركة أعنف من خاصتها والتفتت لترحل مبتعدة عنه، داخلها يحثها بأن تُسرع لغرفتها ويؤنبها على الخروج منها والاختلاط بهذا العالم.... القذر!
لفحه الندم بعد رؤية ملامحها وإدراكه لقسوة حديثه بعدما أفرغَ غيظه الكامن فيها كأنها ثِقل يحتمل ضربات غضبه، نادى عليها بصوتٍ يغلب عليه الاستجداء والندم لتقف عندها أصابه الارتياح لكن لم يدم إذ أردفت وهي لم تلتفت له حتى
-لا تستبق مصيرك يا فراس فربما تطولك يد جدي أنت الآخر...
كانت جملتها غاضبة في إشارة على قرار جدها بمنعها من التعليم ولينتظر هو دوره، أشعرته للحظة أنها تعرف شيئًا عن بنون، لكن رابحة لا تخرج أساسًا وإن فعلت من المستحيل معرفتها، فهي لا تخرج عن حدود القبيلة!!
كاد يرد عليها لكنها كانت اختفت من أمامه وصعدت لغرفتها مُطلقة العنان لدموعها
-فراس..
كان هذا صوت سلطان الصادح خلفه، التفتَ بسرعة ليجد ملامحه متجهمة أكثر مما هو عليه عادةً
نظرَ له فراس بتساؤل جعلَ الأخر يقترب منه هامسًا بهدير
-هل جننت لتقول هذا الكلام لفتاة؟؟
-رابح؟؟؟
ردَ فراس باستفزاز رغم معرفته بخطئه لكنه كان مدهوشًا من كلام سلطان الذي يبدو مدافعًا
-فراااس.. تأدب هذه ابنة خالك واحترامها من احترامنا
حدجه فراس بقوة قبل أن يُجيب
-أعرف أن ما قلته خاطئًا لكن هذا لم يكن رأيك في مجالسنا... كنت تصمت يا سلطان إذا تحدثنا عنها بهذا الاسم
قالَ سلطان بغضب هذه المرة
-وها أنا أخبرك أنه لن يحدث مرة ثانية ... هذا خطأ فادح هل تريد أن تلقبك النساء في مجالسهم بفرسة؟ وأنت تعلم الاسم والمضمون لن يُعجبك
هدرَ فراس
-سلطان
-اخرس
ضحكَ فراس عاليًا ليقول بينما يربت على كتف سلطان
-والله إن ما تفعله هو الخطأ بعينه يا سلطان، أنت وقعت في هذا الخطأ بقدميك، وأنا أنتظر استغاثتك ... أم أنك ستستمتع
رمقه سلطان باستفهام فغمزَ له فراس، ليُدرك الأول ما قصده، زمجرَ بشدة قبل أن ترتفع قبضته وكأنها تريد استقبال وجه فراس بكل سعادة، لكنه هربَ مسرعًا وابتعد عن بطش ابن خاله، وقفَ على مسافة مناسبة تضمن له أن سلطان لن يطوله بها إلا إذا جرى، وقالَ بنبرة أنثوية بها بعض الدلال المبالغ فيه
-أراكَ لاحقًا يا أبو السلاطين
قذفه سلطان بأنتيكة صغيرة كانت في مرمي يده اليمين لكن فراس تفاداها ضاحكًا وانطلقَ نحو الأعلى حتى لا تُصيبه قذيفة أخرى متجهًا نحو غرفة رابحة حتى يُصالحها
********
تنهدَ سلطان بحنق من كلام الفراس الذي ولبرهة من الزمن أصابَ شيئًا داخله، عضَّ على شفته بقوة ووقفَ متخصرًا يُفكر في الذي يحدث معه تلك الأيام، من التشتت والأرق الذي يُصيبه من مجرد رؤيتها أو عند إتيان سيرتها... وكم أصبحَ مراهقًا ومُرهقًا عند النظر في عسليتيها، يشعر أنها تسحبه إلى عسلها الصافي وهو يغرق بإرادته...
ومؤخرًا بدأت أوتاره القلبية تعزف ما إن تسمع رنة خلخالها الفضي ذو الصخب الرنان!!
لمحَ خنساء تدلف على مقربة من المطبخ وتحمل في يدها صينية فارغة وتبكي، لكن ما إن رأى اتساخ عباءتها وملابسها حتى شمَ رائحة رابحة في الأمر مما جعله يبتسم قليلاً وتنفرج شفتيه دون صوت، ثم بعدها اتجه لمكتب جده، ألقى السلام وتفاجأ بوجود جدته فاطمة تقف قبالة جده ويبدو أنهم في نقاش حاد
-لنصل لنهاية الأمر الآن... ما الذي تنتويه يا حاج؟
-كل خير يا فاطمة ... لا أنتوى إلا الخير
ردَ كامل بتفكه ليسأل سلطان عندما لاحظ الجو متوتر بينهما
-هل أتي في وقتٍ لاحق يا جدي؟
نظرت له فاطمة نظرة قاتلة، داهمته وهو تساءل في نفسه عن سببها لكن لم يعرف إلا عندما تكلمت بنبرة حادة
-إذًا أنت يا أعقل أحفادي من تساعده؟ لم أكن أتوقع منك هذا يا سلطان .. عيب عليك
قطبَ سلطان حاجبيه للتوبيخ الذي يتلقاه دون سبب وأردفَ بدهشة بينما يمد يده لزراعها حتى يُجسلها
-ما الذي فعلته يا حبيبتي لتغضبي كل هذا الغضب.. اهدأي فقط
رمقته بنظرة زاجرة وابتعدت عن يده وجلست وحدها، وجهت حديثها للإثنين دون النظر إليهم، لكن نبرتها التي على وشك البكاء أنبأتهم بما تشعر فلم يكونوا بحاجة لسكين عينيها الذابح
-أنا لن أسامح في حق ابني والله يعلم هذا، وإن اتُيح لي أخذه سآخذه وسأقتص من قاتله لكن ليسَ بتلك الطريقة... اقتلوه برصاصة غادرة أو اتركوه لعنتر .. غير هذا فلن أقبل، أنت تأخذ الثأر ممن تسببَ في أذيتك هو بعينه وليس أحدٌ آخر
انتفضَ كامل و خبطَ على المكتب وتحدثَ بنبرة غاضبة غير موافقًا على حديث زوجته
-وهل ستبرد نيراني الثائرة إن قتلته بغدر مثلما فعل؟؟... لا سأنظر لعينيه وأنا أقتله يا فاطمة، إن الرصاص أو عنتر سيرحمه ويُجنبه عناء ما سأفعله به... لن أقتله حقًا، لكني سأجعله ميتًا وهو حي.. يتنفس لكن دون روح مثلما أخذَ مني روحي
اختنقَ في كلمته الأخيرة وارتمى على المقعد دون حولٍ أو قوة، حديثه أبكى فاطمة ولم يزد سلطان إلا غضبًا ونقمًا على عبد العزيز والرغبة الأكبر في الانتقام منه، لم يتفوه بشيء ولم يُعلق تكفيه اندلاع النيران داخله، فلاذ بالصمت بينما تكلمت فاطمة بعد سكوت يتخلله بكاؤها
-الفتاة ليس لها ذنب.. أنت هكذا لن تقتله وحده ستعذب شخصًا آخر لم يفعل لك شيئًا
-وإن يكن .. الثأر عندي بعشرة
ردَ كامل بجمود لتثور فاطمة
-هذا ليس عدلاً أحضر الرجل واقتله ولننتهي من هذا الأمر ... أريد ثأر ابني قبل أن أموت
اختلجَ قلب سلطان لسماعه كلمة "موت" من شخصٍ غالٍ على قلبه، نظرَ لجدته الباهت وجهها و ضيّق عينيه واتجه لها دون أن يشعر وربتَ على كتفها وأعطاها نظرة أمان، نظرة تقول "لن أفعل"
كانت نظراتها حائرة، تستجديه بلهفة أم مكلومة أن يُنفذ أخر أمنياتها، طمأنها بنظراته وأعطاها وعدًا بأنه سيبذل قصارى جهده... سيحاول!
نهضت فاطمة بعدما أعطت نظرة تحذيرية لكامل ولم تأبه لتصرفه المُتجاهل تجاهها، وخرجت من الغرفة برأس مرفوعة طالما تستند على حفيدها العاقل
تابعها سلطان بعينيه حتى خرجت ثم حوّلَ انتباهه لجده الذي هتفَ قائلاً
-اترك أمر جدتك هذا ولا تشغل بالك به سنفذ ما اتفقنا عليه يا سلطان... أم أن قلبك رق لكلام جدتك؟
حمحمَ سلطان ليُجيب بعدما تلقى نظرة ذات مغزى مُترقبة من جده
-ليس المقصد يا جدي لكــن جدتي معها حق في النهاية لن نجني شيئًا مما أردناه يمكننا سلب أمواله وقتله بطريقة أخرى
صمتَ كامل للحظات ثم هتفَ بنبرة قاطعة
-نفذ ما اتفقنا عليه يا سلطان..
-جدي..
أردفَ سلطان باستجداء ليُجيب كامل بنفاذ صبر
-لا تخبرني أنك اقتنعت بكلام جدتك حقًا... لو كنت أعرف أنك ستتأثر من قبل ما تبدأ كنت اخترت سالم
قطبَ سلطان حاجبيه وقالَ بدهشة
-جدي الأمور لا تؤخذ هكذا ثم إن سالم متزوج ويحب زوجته
مالَ كامل بجزعه على مكتبه وقالَ بابتسامة دبلوماسية
-الزواج رابط مقدس يا عزيزي سلطان لكن ليس هناك أكثر قداسة من القبيلة وقوانينها التي تسير على رقبة الجميع.. حتى أنا
-لو كان سالم قبل بهذا هل كنت سـ...
قاطعه كامل وهو يضجع على ظهر كرسيه وطرقَ بعصاه أرضًا
-نعم كان سينفذ بلا تردد
كانت ملامح وجهه هادئة لا تعكس ردة فعله الداخلي الذي بدأ يقلق من ولاء سلطان له، لكن شعورًا من الارتياح غمره عندما تذكرَ حله الأخر وهو سالم!!
سالم سينفذ بدون أن يناقشه، لو طلبَ عينيه سيفعل وليس فقط أن يتزوج مرة أخرى على بدور
-حسنًا يا جدي لن نتحدث في الأمر الآن، لدي ما أخبرك به
تحفزت حواس كامل وبدا مترقبًا لما سيقوله لسلطان الذي قالَ بنبـــرة ذات مغزي
-عبد العزيز هنا...
-ماذا؟؟!!
نطقَ كامل بصدمة بالغة ترجمتها ملامح وجهه ورفعة حاجبيه المدهوشين بدورهما، أكملَ سلطان كأنه لم يُفجـــــــر قنبلة لتوه
-يبدو أنه بصدد صفقة جديدة أو أنه أتى فقط لتغيير الجو فابنته معه
طرقَ كامل بعصاه عدة مرات وبانت على وجهه إمارات الغيظ، زمَّ شفتيه بقوة وكزَّ على أسنانه وطفقَ يفكر، لقد تغيّرَ مخططه لكنه لم يفسد، بدلاً من ذهاب سلطان له جاء هو إلى عرينه بقدميه، فجأة نظرَ لسلطان وحدثه بجدية
-ستذهب له يا سلطان... اليوم إن أمكن
حكَ سلطان ذقنه وهتفَ بتشكك
-اليوم!! ألم نتفق على تأجيل الأمر
هتفَ كامل بشرود
-لا يمكننا تفويت فرصة أنه في أرضنا، يجب أن نقوم بواجب الضيافة كاملة... لنظهر لهم كرمنا ففي النهاية سنكون أقرباء
ضحكَ سلطان بملء فمه على تعبير جده المستتر وأردفَ ببقايا ابتسامة
-هل ما زلت مصرًا
-أكثر من الأول " صمتَ وهله ثم زيّلَ حديثه" كن سخي معهم يا سلطان وأنت تعرف مقصدي بالتأكيد
استقامَ سلطان من مجلسه قائلاً بسخرية
-سأرى يا جدي تعرف التعامل مع الأنثى ليست من طبيعتي، لقد كان معك الحق في اختيار سالم من البداية هو يعرف التعامل معهم ومتقلباتهم ويسيطر عليها جيدًا
انفرجت شفتي كامل في ابتسامة لكنها عادت تستر تحت جمود ملامح وجهه ليقول بتفكه وهو يرمقه في عينيه كأنه يوصل رسالة
-سالم متهور قليلاً، أنت تأخذ الأمور بحكمة مثلي لهذا اخترتك
هل لمحَ في جملة جده " لا تُخيّب ظني" ولم يسمعها جيدًا، أم أنها كانت في طيات حديثه أو في سهام نظراته نحوه؟!
كانت نظرة كامل بمثابة عقد ينتظر توقيع سلطان عليه، والأخير لم يتمهل في تلبية طلب جده وأعطاه نظرة واثقة مُحملة بكثير من الثبات بمثابة وعد لن يخلفه
خطا خطوتين تجاه الباب ليداهم تفكيره شيئًا كان ناسيه، إن كان عبد العزيز هنا كيف سيذهب لأخيه ويطمئن عليه؟، يجب أن يجد حجة مُقنعة لجده تُمكنه من السفر حتى يرى أخيه، فوجود عدو هنا أربكَ كل مخططاته
عادَ إلى جده مرة أخرى هاتفًا بعملية مخفيًا ارتباكه
-سأسافر لمصر الغد وأعود قبل المجلس
لم ينظر له كامل لأنه كان انشغلَ بعدة أوراق أمامه، لكنه أومئ برأسه كإجابة تلقاها سلطان في صمت وتوجه ناحية الباب للخروج ظافرًا بعدم سؤال جده عن سبب ذهابه رغم أن هذا أثارَ استغرابه، وبينما كانت يده تقبض على المقبض سمرّه جُملة جده التالية
-أحضره معك فأنا أريد جمع أحفادي في مجلس العائلة!!
********
خرجَ من عند جده وعينيه تبحثان عنها، يريد رؤيتها
***********
في مجلس العائلة..
كانت العائلة جميعها هناك، حتى الكبار؛ فحضر غانم ومحمد وابتهال أيضًا جاء بعد تعسُف زوجها ناحيتها بأنها لا يجب أن تهجر والدها كل هذه المدة التي تعدت الشهر..
حتى خنساء وأخوها حماد حضروا وجلسوا متجاورين هو ينظر إليها، وخنساء تلتفت برأسها كأنها تنتظر أحدًا... وهي تعرف جيدًا من تنتظر
حملقت رابحة في الوجوه الجالسة على صفيح ساخن، هذا متوتر، وهذا يُفكر، وتلك ساخرة، وهذا مُترقب..!
أما هي كانت تداهما مشاعر مختلطة بين عدم الراحة والقلق، وقد اعتراها شعور أنها لا تنتمي لهذا المكان فجأة، نظرت لفراس الذي حملت عيناه نظرة مماثلة لخاصتها وتقبلتها هي بصدر رحب... تُدرك جيدًا أن يكتشف جده أمر فتاته..
هذه النظرات تعرفها جيدًا إن كان في الأمر فتاة؛ التخبط والزيغ الذي يتوسط مُقلتيه عانت منه وأصابها سهاد الليالي المُظلمة دون قمرها "سلطان"
فركت عينيها بسأم من الضوضاء الخافتة جـــرّاء الهمس بين الحاضرين، تلفتت حولها ومسحت الغرفة بعينيها قبل أن تُدرك الحقيقة التي خافت أن تزورها.. هو أنه ليس هنا!
لا تعلم لم انقبضَ قلبها عندما توصلت لاستنتاجها الصحيح، أحست أن هذا الغياب وراءه شيئًا لن يُعجبها، ربما مُصيبة أو كارثة عظيمة..
-السلام عليكم... آسف لتأخري كان لدي أمرًا مهمًا عليّ قضاؤه
قطعَ تفكيرها السلبي صوته وهو يُلقي السلام على الحاضرين ويذهب ليجلس على يمين والده بينه وبين سالم
تهللت أساريرها عندما لمحته واعتدلت في جلستها، وعلى حين غرة وفي خلسة من الجميع تقابلت العيون وهله فأعطته ابتسامة دافئة، كانت مُناسبة تمامًا في هذا الوقت بعد تلك المقابلة المُستنزفة لقدرته
تجاهل ابتسامتها وحوّل وجهه تجاه جده، وأومأ برأسه في شيء من الاطمئنان، لترتاح ملامح كامل وتنبسط، وظهرَ هذا في نبرته الموالية
-لقد جمعتكم اليوم بخصوص شيء طارئ، وهو لم شمل العائلة مرة أخرى.. فمنذ مدة لم نجتمع على إفطار ولا حتى غداء والكل أصبحَ مشغولٌ في حياته ولا أعرف ما الذي يمكن أن يكون أهم من عائلتك، لكن لن أتحدث عن هذا الموضوع.. يكفي أننا تجمعنا مرة أخرى.. أليس كذلك يا ابتهال؟
وجهَ حديثه ناحية ابنته الصامتة التي تراقب وجه سالم الجامد والموافق لكلام جده، أجابت بشيءٍ من الفتور وهي مازالت تُحدق في وجه ابنها
-وهو كذلك يا شيخ
قبضة مؤلمة اعتصرت قلب كامل، منذ تزوجت ابنته وحرمها هو ممن تُحب وتحوّلَ لقبه من "أبي" للشيخ"، كان تُعلن رفضها للانتماء، ورغم أن هذه يؤلمه لكنه لا يُظهر ... ولو عادَ الزمن به لزوّجها سعيـــد مرة أخرى... فالعادات... عادات القبيلة الأزلية
-أدامك الله لنا يا أبي وجعلَ في كل جَماعنا خيرًا
أطلت ابتسامة مُستحسنة على وجه كامل قبل أن يتحدث تلك المرة موجهًا كلامه لسالم
-وأنت يا سالم ننتظر الولد هذه المرة .. لقد صبرت كثيرًا من أجلك، وتغاضيت عن أول مولود لك.. ولكنك وعدتني
ردَّ عليه سالم بسرعة وكأنه سيمنع الكلام من الطرق على مسامع بدور التي تصالح معها للتو
-خيرًا يا جدي ... خير
كان وجهه جامدًا لم تظهر عليه أي تعابير، فقط اختلسَ نظرة ناحية بدور التي تبدلت ملامحها هي الأخرى، رمته بنظرة عاتبة لأنه لم يُخبرها -ما دار بينه وبين جدها- فالتقطها بصمت وأحاسيس مُبعثرة تفجرت للتو، فماذا لو لم يكن القادم ولدًا؟؟
قطعَ لحظات العتاب بينهما صوت الجد مرة أخرى بإصرار شديد ونبرة قوية عاكست ملامح العُمر على وجهه
-نريد أيضًا أن نلم شمل الشباب ليصنعوا عائلة ويدركوا معناها جيدًا قلبًا وقالبًا..
تركَ جملته مُعلّقة ولم يُكمل بقصد، عادته الماكرة التي يتقمصها دائمًا في المجالس، يُلقي لك جُملة مُشتعلة ثم يصمت قليلاً فلا يزيد العقول إلا اشتعالاً
-ما الذي تقصده يا حاج؟
قالَ محمد ليُضيف غانم بسعادة
-هل صحيح ما فهمناه يا حاج؟
وأخيرًا تحدثَ كامل شارحًا وعلى ثغره ابتسامه رآها البعض صورة من صور السعادة، وتوجسَ منها البعض كرابحة وفراس
-على الشباب أن يختاروا شريك حياتهم المستقبلية كما يشاؤون، على أن يكون اختيار الشريك والزواج من القبيلة وتحت ظل عاداتها العريقة، وسأكون راضيًا إن تزوجَ الشباب من أبناء عمومتهن
تهللَ وجه الجميع خاصةً رابحة التي جاءت فرصتها الذهبية لاقتناص غنيمتها، كانت تُعد لهذا اليوم منذ زمن، زمن طويل جدًا كان رفقاها الوحيدين هم عيون سلطان وخيالاتها الواسعة بامتلاكه... رغم أنها تعرف أن سلطان ليس رجلاً يُمتلك
وقفت أمام الجميع، وبينما هم مشغولين في صدمتهم من كلام الجد كانت هي تقترب منه غير عابئة بيد أمها التي جذبتها من ملابسها، وقفت بإباء كمحارب يأبى الخضوع للأسر وقالت في صوتٍ عالٍ يسمعه الجميع وسط نظرات الاستغراب التي حاوطتها حالما انتبهوا لمكانها
-حسنًا يا شيخ بما أنك تريد توفيق راسين في الحلال فأنا أريد أن أختار الرأس التي أعيش معها
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romansaأودعت إليك حبًا مُزخرفًا بالورود كلما أوشكت أوراقه على الذبول سقيتها من فيض مشاعري بينما مننت عليّ بنظرة بئس القلب الذي أحبك