يا من أودعَ حُبه فينا
سد رمقي بهمسة
وأشبع عاطفتي بلمسة
ومن الهوى وإلىّ كُن سلطانًا علينا
وبما يُفيد البوح والروح قد أضحت رمادًا...
لا تصدق أنها قد تخلت عن كومة مبادئ -كانت تتخذها درعًا- للتو!!
في سيارة الغريب .. الجو هادئ يتخلله نسمة هواء باردة جعلتها تنكمش على الكرسي بجانبه
نظرت ليديها المتشابكتين وبطرف عينيها رمت بصرها عليه.... ممتنه له لأنه ترك لها حرية التفكير لتلك الدقائق البسيطة التي تقضيها برفقته في السيارة التي تسير بسرعة معقولة وسط طريق عامر والزحام
فهذه شوارع القاهرة... مُنبسطة للحياة... مُنقبضة للكسل!
-ألن تخبريني ما يضايقك؟ هذه الفرصة لن تتكرر للبوح
هل يحاول أن يقتنص الفرصة لساعة صفاء وحكي بينهما أم هي مُخطئة؟ لم تعرف بما تُجيب عندما سألها للمرة التي لا تعرف عددها عما حلّ بها.... صمتت وفي صمتها كانت الإجابة
هل تخبره عن خيبات حطت على قلبها وأبت التزحزح؟
تسرد عليه أوجاع مصدرها الأقربين!
عقلها يأبى تصديق أن معاملة أخيها الحسنة وراءها قطعة أرض موعودة من قِبل جدها على أن يأتي بأخبارها وألا يضايقها
لقد لعب القدر دورًا في أن تسمع المحادثة وهي مارة من أمام غرفة أخيها والذي لم يتخلَ عن عادته في التحدث في الهاتف بصوت عالٍ
"أقسم لك يا جدي أنها بخير .. أنا أعاملها جيدًا حتى بإمكانك سؤالها... صحيح يا جدي.... متى سأستلم أرضي لقد نفذت ما طلبته وبنون أصبحت تتعايش أريد أنا الأخر أن أعيش..."
في أحلك أوقاتها بأخيها لم تكن لتتخيل مدى قذارته لتصل إلى أن يُقايض سعادتها بأرض!... هو مُجبر على جعلها سعيدة حتى يحصل على جائزته الكبرى لا لطيب خاطر نفسه في زحزحتها عن حزنها الطويل....
في تلك اللحظة لقد تهشم قلبها فُتاتًا فما عادت قادرة على رأب صدعه، فقد اندثر مع رياح الألم التي حملته مع رماد روحها المكلومة.
شعرت بلسعات خفيفة تغزو مُقلتيها فأدركت أنها على وشك البكاء... مرة أخرى... وخزي أخر أمام الغريب!
وهي للآن لا تصدق أنها فعلت كل هذا أمامه... ستشكره في وقتٍ لاحق!
تباطأت حركة السيارة لتجده يركن في مكان ما لا تعرفه بجُملة جهلها بتلك المدينة الكبيرة، التفتَ لها برهان بابتسامته الرائقة وأردف بصوتٍ هادئ
-لقد نزلنا على غفلة دون إفطار وبما أنني لن أذهب للعمل وسأهب لكِ اليوم لذا لنتشارك الطعام.... وكما تقولون "عيش وملح"
اتسعَ ثغره باتساع ابتسامته وتلك المرة لم تجد غضاضة في النظر إليه وتأمل راحة البال البائنة على وجهه... وهلة... ثم أدارت وجهها و حاولت الرفض لأنها شعرت أن هذا غير صائب
-لا، لا بأس لم يتبقَ سوى القليل وتميم سيذهب لمحاضراته وسأعود للمنزل
أصرَّ هو
-لن أقبل الرفض... هيّ انزلي لن نعود على معدة خاوية....
ولم يترك لها فرصة لتتحدث بل حلَّ حزام أمانه ونزل من السيارة بينما هي تراقبه متسعة العينين وهو يدور حول مقدمة السيارة ليتوقف عند بابها ويفتحه لها منتظرًا سيادتها لتنزل وتُشرفه بمشاركة الإفطار...
رمشت عدة مرات ووجنتيها تشتعلان من فرط الخجل للموقف الذي وضعت نفسها به، نزلت سريعًا حتى لا تدعه واقفًا ويزداد احراجها أكثر، وهنا تمتمت بخفوت
-لم يكن هناك داعي
-أخبرتك أنني لن أتركك دون طعام
نفت بارتباك وهي تنظر في جهة غير جهته
-لـيس هذا... الباب... كنت سأنزل وحدي.... لم يكن هناك داعي.... شكرًا
"شكرًا" خافتة.... مُذبذبة.... خائفة.... هاربة كهروبها للتو من أمامه وتقدمها لتصعد على الرصيف، سائرة بغير هدى تتقاذفها الأفكار يمينًا ويسارًا تاركة أعين تبتسم لارتباكها
وقفت تنتظره على الرصيف حالما يصل لها... لم يستغرق وقتًا فثانية وكان أمامها يُرشدها للمطعم لكنها هي غرقت في أفكارها مُجددًا
لقد طردته!
وحدثته بطريقة سيئة
لم تظهر له وجهًا جيدًا ودائمًا ما تُقلل من شأنه بينها وبين نفسها...
فلم
عليه
أن يكون
بكل
هذا
اللُطف
لقد جرّبت حنان جدها.... لكن هذا مُختلف... حتى فراس الوغد لم يكن بمثل هذا التفاني!
ألا يعرف أن نفس الأنثى بطبيعتها تجرفها إلى كل ما هو حاني ولطيف ليربت على قلبها ويرمم ما أفسدته الظروف
لكن في حالتها هي تحتاج هذا لتكسر به علقمًا قد ازدرته عنوة!!
لكن لا... لن تفعل
أتصعد سلم السعادة لينكسر بها في علوٍ وتقع!!... وهذا المرة ستموت حقًا
سمعته يُتمتم وهو يتفحص اللافتة بشرود
-نعم... هذا هو المطعم لقد دلني عليه تميم..
نفدت وراءه لداخل المطعم التي تتصاعد منه رائحة شهية لأسياخ الشاورما التي تتراقص حولها النيران فتخجل وتحمرّ... وكلما احمرت كلما كانت أشهى وأطعم
اختار طاولة بعيدة ضمنيًا عن الجلبة والتي لم تكن موجودة لأن الوقت كان مبكرًا... كانت هناك فقط طاولة يقبع عليها شخصان؛ طالبة تحمل كتبًا ورجلاً يحمل حقيبة وشتان بين الاثنين!
كانت الفتاة ملابسها عصرية ترتدي قميصًا أبيضًا تخطه خطوط بسيطة باللون الأزرق مع بنطال جينز غامق وتوب من اللون الأبيض وحجاب من اللون الأزرق الغامق أعطى لوجهها الأبيض زهوًا كأنها ليلة قمراء افترشت سواد السماء
أما بالنسبة للجالس أمامها كان يرتدي ملابس مُنمقة، عملية... بنطال قماشي من اللون البيج وقميصًا أسودًا مع حزام من نفس لون القميص... تقبع على رأسه نظارته الشمسية أما خاصتها تركتها تتدلى على صدرها، محكومة بسلسلة تلتف حول رقبتها
الفتاة يبدو عليها الاضطراب ... أما الرجل أمامها بدا جامدًا دون ملامح كقميصه
-أنا أعيد السؤال عليكِ للمرة الثالثة... فيما شردتِ؟!
حمحمت وهو تولي انتباهها المسلوب قسرًا له، وأردفت بهدوء
-رجاءً أعد السؤال
-ماذا ستأكلين
نظرت للدفتر الذي يمده لها وبمجرد النظر أدركت أنها ستعرض نفسها للإحراج لأنها لم تعرف طعامًا غير الذي تأكله في قبيلتها ولا تعرف هذه الأكلات....
أبعدت الدفتر بيده، وهتفت مطرقة رأسها للأسفل -اطلب أنت
-حسنًا...
نادى على النادل وأثناء ما كان يُمليه الطلب، وانتباهها يتشتت مرة أخرى نحو طاولة تقع في مرمى نظرها وسمعها، ولأن الحكايات تشابه على أعقابها تركت فضولها يحركها لترهف السمع لنبرة الفتاة المحشرجة وتتفرس في ملامحها المقهورة
-أتخبرني بهذا الآن؟! لقد تحملت كلام الجميع لأجلك وحاربت لأبقى بجانبك!!... لا أصدق أن ما يخرج من فمك هو موجه لي....
سكتت وعند نزول أول دمعة كانت ملامح الجالس أمامها تبهت وقبضته تشتد، على وجهه العديد من الحروف التي لم تترتب جيدًا فبانت مُتلعثمة مُتفرقة.. على عقدة حاجبه... وشفتيه المزمومتين... وعضلة فكه المنقبضة تحت رحمة أسنانه التي يكز عليها...
اكتفى بمنديل يُقدمه لها وكل ما أنفقه عليها
-هذا أكثر ما يُمكنني تقديمه....
أكان يقصد المنديل... أم الألم؟!
تغضن وجه الفتاة وبدلاً من أن تأخذ المنديل منه هتفت بشراسة
-أنت سترضخ لما يحدث ولن تحاول حتى اقناعهم بعلاقتنا؟.... هل علاقة بين الطالب وأستاذه مُحرمة هذه الأيام، ألا ترى أنني أستحق بعضًا من الجهد!!!.....
عند هذه الجملة أغمضت بنون عينيها وابتسامة ساخرة شجية تشق شفتيها، وتُشقق قلبها...
ألم تكن هي الأخرى تستحق جهدًا في حين أنها هي من تعددت كل الخطوط وبذلت كل الجهود؟!....
حال هذه الفتاة الحزينة مُشابه لحالتها... نفس ضعف الأنثى الفطري مع جزوة شراسة مُشتعلة، وإن تغلّبَ عليها الأولى وخمدت الثانية سيؤول حال هذه الفتاة كمثل حالها
هاربة... مُشتتة... مطعونة.... وحزينة في بلد مع أخيها الذي وجوده لا يفرق مع عدمه!
-ولم لا تستسلمين أنتِ لفكرة أننا غير مناسبين لبعضنا وأن المشاعر التي جرفت كل منّا نحو الأخر ما كانت إلا جنونًا لم يعد يناسبني... إذا بقيتِ أنتِ في جنونك فدعيني أخبرك أنني لا أريد رؤية وجهك مرة أخرى
عند هذه الجمُل الطويلة المؤلمة التي سمعتها هي وكانت نيرانًا تحرق قلب آخرًا يفغر فاهه مُتسع العينين مع دقات سُلبت غدرًا وليس حُبًا
-بنون... بنون أين تذهبين..... هذه المجنونة
تفجأ برهان بها تطرق بقبضتها على الطاولة ووجهها لا يُنبئ بالخير... ملامحها العنيفة التي ترمق الجالس في الطاولة التي أمامهم وجسدها الذي اندفع إليهم جعله يتبعها لا إراديًا
وللمرة التي لا يعرف عددها تخلف ظنونه... كان يظنها ستنهر الرجل لكنها وجهت حديثها العصبي للفتاة وهي تمسك كتفها والفتاة مشدوهة
-هل أنتِ مجنونة لتجلسي أمام رجلاً لا يريدك.. وحتى عندما أرادك كان أكسل من أن يُحاول!!... حمقاء أنتِ لو تصورتِ أن دموعك هذه ستجعل قلبه الحجر يلين كان غيرك أشطر يا حبيبتي... هيّا امسحي دموعك وخذي حقيبتك واهربي ولا تتنازلي عن كرامتك لأحدٍ أيًا كان..... من يريدك على رأسنا ومن لم يفعل فالداهيات كثيرة لتأخذه إحداهن
أنفاسها العالية.. وجهها الأحمر ووشاحها الذي اهتز على رأسها فهبطَ قليلاً مظهرًا جزءً من شعرها الحالك...
لا تعلم إلى أي مدى سيؤول ما فعلته لكنها راضية، تشعر بالانتشاء أنها لم تصمت على الأقل نصحت حتى لا تقع الفتاة في مثل خطئها
هل ستتقبل الفتاة ما قالته؟
أم سيثور هذا الرجل الذي احتدت ملامحه وهو بصدد التهجم عليها الآن
-ما الذي تقولينه يا امرأه هل شتمتني للتو؟!
رد برهان عنها وقد وقفَ بينهما حائلاً
-لا تحدثها هكذا ألا تراني واقفًا
أطبقت ذارعيها لصدرها وأجابته ببرود
-عذرًا هل ذكرت اسمك حتى أنا لا أعرفه... حديثي مع الفتاة
وهنا انتفضت الفتاة المذكورة إشارةً وليس اسمًا، تزعق بعنفوان
-نعم معها حق، أنا لن أدور في تلك الدوامة وحدي إما أن تساندني أو تذهب بعيدًا عني... لكن هذه ستكون المرة الأخيرة التي ترى وجهي فيها...
-يارا أنتِ تعرفين ما وراء الأمور وليس بيدي شيء
نبرته الجامدة سمرّت المدعوة يارا، كما سمرّت العديد من الأحاسيس داخلها، كأنها كانت زر أوقف حبه في قلبها، ثانية كانت ابتسامة ساخرة ترتفع على شفتيها.... وقبل أن تنسحب للخارج نظرت لبنون وبكل الألم المُتجلي في عينيها نطقت
-لنلتقي في فرصة أسعد لا يكون بها الخذلان طرفًا
ثم ألقت نظرة على الواقف مضطربًا يجول بعينيه في أنحاء المطعم إلا خاصتها ورحلت...
رحلت تاركة وراءها الرجل يسب الواقفة أمامه في عقله... لقد كان سينهي الموضوع بهدوء لم جاءت وافتعلت هذه الدراما؟!!!
ولكن ما أدهشه حقًا هو رده فعل يارا.... لم تكن هكذا!!
كانت مستكينة توافق على ما يقوله... ولقد ظن أنها ستتمسك به وهو سيمل من مطاردتها، لكن "النساء للنساء" حقًا ما إن وجدت إحداهن تساندها حتى ظهرت تلك القوة المفاجئة
يا للنساء وقوتهن!
مال برهان على أذنها هامسًا بحدة
-يكفي هذه المشاكل هيّا لنذهب
أمسكَ ذراعها تلقائيًا لكنها سحبتها منه بل فاجأته وهي تمسك ذراعه تُدير طريقه من الخارج نحو طاولتهما قائلة بنفسٍ راضية كأنها لم تقم الدنيا للتو
-ألن نأكل؟ طلبنا على وشك الوصول.... أم أنك بخيل لا تريد أن تدفع
رمش عدة مرات وهو يستوضح في عقله أسلوبها المرح الجديد لكن لا شيء يُنير فقط ظلام وكلمات لاذعة ونظرات مهينة
وفي النهاية لم يجد سوى الابتسام وهو يجلس أمامها وعينه تخطف نظرة نحو الرجل الراحل بدوره...
-إذًا!!
نطق ببرود لتُجيب مُستفهمة
-إذًا؟
أوضح
-لم فعلتِ كل هذا كانا سيحلان مشاكلهما بطريقتهما.. لم تدخلتِ؟
أخذت نفسًا عميقًا وأخرجته على مهل، لا تحب أنه جيد في الحديث معها... لا تحب نبرته الهادئة التي تحثها على الاسترسال دون شعور.... بين الراحة أثناء ما يتحدث وعدم الراحة لأنها تستجيب.... هي في المنتصف رغم اعتيادها على التطرف.
-شعرت أنها بحاجة لي، لا أعتقد أن الرجال سيفهمون هذا لكن النساء يشعرن يقهر بعضهن وتأخذهن الحمية للمساعدة حتى لو لم تكن قريبة منها أو تحملان نفس الدم... ولو تكرر الموقف كنت سأفعل ما فعلته... فأنا لست نادمة
تُعجبه الثقة التي تتحدث بها كثيرًا، كما هو مُعجب بعينيها اللتين تضيئان حين الغضب، كأنها صواعق برق تضرب عندما يشتد شتاء غضبها ثم تتلاشى لتأتي الشمس بدفئها
هي هذا النقيض الذي أعجبه
كان سيتحدث لكن النادل وضعَ الطعام، وبعفوية التقطَ الشطيرة خاصتها ووضعها في صحنها وفتحَ لها علبة المخلل والتومية.... ربما لم يقصد أن يُشعرها بكل هذا الخجل والأهمية لكنها في النهاية شعرت بهما... وكم امتنت
قبل ساعة يفتح لها الباب كرجل نبيل مهذب
والآن يُساعدها للتناول طعامها
هذا الحضور المميز له تأثير خاص على مُتحجرة قلب مثلها... إلى أن يلين الحجر
أنت تقرأ
ما الهوى إلا لسلطان
Romansأودعت إليك حبًا مُزخرفًا بالورود كلما أوشكت أوراقه على الذبول سقيتها من فيض مشاعري بينما مننت عليّ بنظرة بئس القلب الذي أحبك